ثقافة وفنون

«المسيح الأندلسي»: بين الرواية والتاريخ وسؤال السرد

«المسيح الأندلسي»: بين الرواية والتاريخ وسؤال السرد

منير الحايك

في مقاله «السرد التاريخي والرواية التاريخية» (مجلة «الجديد» يناير/كانون الثاني 2020) يقول الناقد والأكاديمي المغربي سعيد يقطين «لماذا نكتب التاريخ ولماذا يستقي الروائي مادته منه؟ للجواب عن هذين السؤالين، وهما يتعلقان بوجود كل منهما، لا بد لنا من منظور سردياتي، تدقيق الموضوع التاريخي الذي يتعامل معه المؤرخ والروائي، وإلا صار كل شيء تاريخا، وكل إبداع روائيّا! فالمادة التاريخية التي يقدمها الإخباري ليست هي التي يقدمها المؤرخ أو فيلسوف التاريخ؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الروائي.. فالروائي الذي يبني رواية عن مادة تاريخية جاهزة، يحتاج إلى مادة حكائية فقط، ليس هو الروائي الذي لا تهمه المادة، ولكن يعنيه تقديم رؤية خاصة عن الإنسان بغض النظر عن الزمان». ولأننا أمام رواية لروائي ومؤرخ، أو لمؤرّخ روائي، فالأسئلة السابقة تصبح متشابكة ومتشعبة، فكلّ التاريخ الذي في الرواية هو مجهود الروائي/المؤرخ نفسه، فهل فعلًا كما قال يقطين، أراد تيسير خلف في روايته «المسيح الأندلسي» (منشورات المتوسط 2024) تقديم رؤية خاصة بغض النظر عن الزمان؟
رواية المسيح الأندلسي، وكما قدّم لها الناشر «مكتوبة بالتنقيب بالإبرة في وثائق مضى عليها قرون»، وهذا التنقيب لم يكن جهدا لمؤرّخين لجأ إليهم الروائي واستقى من أبحاثهم وآرائهم ومواقفهم، بل إن الروائي نفسه كان ذلك المنقِّب، فهل نجح في التنقيب والسرد، والإبقاء على متعة السرد؟ فكما يقول يقطين، ما يقدمه فيلسوف التاريخ، وما يقدمه الروائي ليس كالذي يقدمه «الإخباري»، وتيسير خلف هو الروائي وفيلسوف التاريخ في نصّ واحد، قدّم نصّا يمكن القول إنه أعمق أنواع السرد وأجزل اللغة، على الرغم من سيطرة التاريخ وشخصياته ومناطقه وكثرتها.
تبدأ الرواية مع عيسى بن محمد، الذي توصي والدته بأن يعرف أنه مسلم بعد مقتلها من قبل محاكم التفتيش في إسبانيا، تبدأ الرواية عام 1592 وتنتهي 1637، وما بينهما نقرأ رحلة عيسى بن محمد في البحث عن قاتل أمه. نجد عيسى في إسطنبول، وفي منطقة غالاتا وبرجها، حيث الأحداث الرئيسية تحصل هناك، وحيث يلتقي بالطبيب ابن العاص ويشكّ بأنه دون خيرونيمو راميريز، قاتل أمه ومشرّد أبيه، وبالتالي مشرّده هو، عيسى الذي تم تسجيله على أنه ابن «خاله» وتمت إشاعة خبر وفاته مع وفاة أمه حتى لا يلاحَق ويُقتل هو أيضا. في «كلطه وإسطَنبُل» تبدأ أسفار عيسى الأندلسي الأولى، وقد استخدمتُ الأسماء كما وردت في الرواية، لأقول إن لغة الرواية كانت عنصرها الأقوى، وسأتحدث لاحقا عن الأمر.
قُسِّمت الرواية إلى «أسفار عيسى بن محمد الأندلسي نزيل كَلطه وإسطنبل»، و»سفر الأندلس»، و»سفر الدير»، و»سفر فيروزة»، و»سِفر الكتب والأسرار»، و»سفر الختام»، وفي كل منها نقرأ عن رحلة عيسى وسعيه، ونقرأ التاريخ الذي يحدث من حوله، من دون أن يسيطر التاريخ وأحداثه، على الرغم من كثرة الأحداث وكثرة الأسماء، إلا أنّ حِرَفيةً من الكاتب، نلحظها منذ الأسفار الأولى، فنحن نتنقل بين الأماكن وتكثر الشخصيات بأسمائها الأصلية وأدوارها المختلفة، بين الأندلسيين والأتراك، المسيحيين والمسلمين، وبين الهاربين من المسلمين والهاربين من المسيحيين، ولكن تلك الحِرَفية لم تأخذ المتلقي إلى الضياع والحيرة، كما يحصل في بعض الروايات التاريخية، بل إنه كان يبقى متتبعا لرحلة عيسى، ويكتشف ما يكتشفه من دون أدنى صعوبة.

يلتقي عيسى بوالده، ونكتشف في ما بعد أنّ والده كان يراقيه وليس العكس، ويلتقي بفيروزة التي يغيب عنها، وتعود الأقدار كما تقول الرواية تجمعه بها ويتزوجان ويستقران في «إسطنبل» في النهاية، وفي الأسفار، نراه يعود بنا إلى ما حصل مع أمه ومعه وكيف تم تهريبه، وكيف كانت أحوال المسلمين في تلك المرحلة في «إشبانية»، وفي البندقية والدير يأخذنا إلى مراحل الترجمات التي كانت قد بدأت والتي كانت بدايات للنهضة في أوروبا، وفي التنقل بين الأمكنة، والتي كثرت وتشعبت وأرادها الكاتب بمسمياتها التي تشبه العصر الذي يتنقل فيه عيسى، في «فرانصة» و»إشبانية»، وفي «بَريش» و»قطلونية» و»ومذريل» و»مسترضام»، إلا أن ملاحقة «الغريم» الذي أراد موته، جعلتنا نلاحق كل ما أرادته الرواية من قضايا ومن مواقف من كاتبها، ونجحت. أراد خلف أن يقول من خلال روايته، إن قصة دون كيشوت لسيرفانتس، قد تكون لها أصول لحكايات عربية، وأراد أن يحاكم التاريخ في تلك المرحلة وما حصل من قبل المسلمين ومن قبل محاكم التفتيش، وهذه أمور لم تكن جديدة بالنسبة إلى باحث وروائي، ولكن أمرا أورده الكاتب وكان غايةً بذاته، وهو في رأيي من أهم غاياته في الرواية، وهو الحديث عن إنجيل برنابا، هذا الإنجيل الذي لا يعرف عنه الكثيرون، ومن يعرفون عنه أكثرهم من يريدون الإبقاء على طمسه وتحييده، وربما حرقه، وقد قالت الرواية في نهايتها «هذا إنجيل سيقلب الدنيا رأسا على عقب، وسوف يكون حجّة على الكاثوليك والبابا، ومحاكم التفتيش»، وبما أنه لم يستطع أن يقلب شيئا سوى أنه تم قلب صفحته وتم إغفاله وتحييده، جاءت الرواية لتذكّر به على الأقل، وربما لتعيد فتح قضيته، أو على الأقل تحثّ على البحث عنه وقراءته.

الرواية فيها من الجهد والتعب والبحث الكثير، وفيها من السرد والمتعة الكثير أيضا، ولكن في رأيي طغى البحث والتاريخ في بعض مواضع الرواية، خصوصا أن كاتبها أراد للكثير من الوظائف «التوثيقية» في النص أن تظهر، وقد كثُرت، لذا طغى التوثيق أحيانا ولم يكن وظيفيّا فقط، بل كان «تأريخيّا»، وجاء السرد وعلاقات الشخصيات والحبكة.. في المرتبة الثانية، ولكن بشكل عام كان السرد يعود ليحكم سيطرته دائما. بالنسبة إلى الجديد الذي قدمه النص لم يكن في الأبحاث، ولم يكن في القضايا والشخصيات والبحث عن المعرفة والحقيقة، وكشف بعض خبايا التاريخ التي تعيد بعض ألق ثقافتنا وتاريخنا، بل أقول إن ميزة النص الرئيسية هي اللغة، فأن يكتب تيسير خلف لغةً منذ بداية النص وحتى نهايته، تظنّ معه أنك تقرأ بالفعل نصّا كُتب منذ ما يزيد عن 400 عام، بكل تفاصيلها ومفرداتها وتراكيبها، وصورها وخيالها، وحواراتها ووصفها وسردها، لهو أمر يعطي النصّ فرادةً لم يسبق لها مثيل، لغةً بقيت سلسة وجذلة، وبقيت متينة ومحبوكة وقوية، وبقيت جاذبة ومترابطة، على الرغم من إصرار الكاتب التحدث بلسان «عيسى» الأندلسي الذي أصبح يتقن لغات كثيرة غيرها أيضا.
«المسيح الأندلسي»، من خلال إنجيل برنابا، ومحاكم التفتيش، وتعقيد مرحلة من تاريخ بلادنا وتاريخ بلاد أوروبا وأفريقيا، فالرواية تنتهي في القاهرة، كلها كانت حاضرة في النص، ولكن مسائل مثل الحبّ والوفاء والدفاع عن المبادئ، ومسائل مثل الغيرة والانتقام والخيانة، وغيرها الكثير، كلها حضرت في نص معقَّد ومتشعّب، ولكن الأساس المستمر من كل ذلك، كان الربط بينها من دون طغيان أحدها على الآخر، وهنا فرادة وجديد أيضا، وإمتاع من نوع خاص، وهنا تأكيد على ما قاله سعيد يقطين، فالمادة التاريخية التي قدمها فيلسوف التاريخ والروائي تيسير خلف، ليست تاريخا فحسب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب