في التغوّل الإسرائيلي ودلالاته

في التغوّل الإسرائيلي ودلالاته
بعد أن أصيب محور المقاومة بأكثر من ضرر، بدأ الكيان الإسرائيلي يعمل على تغيير الواقع الإستراتيجي في المنطقة (تغيير الشرق الأوسط)، والذي يتجاوز إستراتيجية إزالة أي تهديد لهذا الكيان في المنطقة، إلى خلق وقائع سياسية وجيوسياسية – فضلاً عن الأمنية والعسكرية – تخدم مصالح هذا الكيان وخططه المرسومة.
في هذا السياق أتى طرح تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر، وأيضاً من الضفة إلى الأردن، وضمّها إلى الكيان، وصولاً إلى مقترح إقامة الدولة الفلسطينية في السعودية، فضلاً عن السعي إلى تقسيم سوريا والعبث بأمنها ومستقبلها وحاضرها من بوابتها الجنوبية، وأن تكون تابعة للكيان وتحت سيطرته وجسراً للوصول إلى العراق والفرات، وأيضاً تجاوز اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان ومخالفة بنوده، والسعي إلى خلق وقائع جديدة فيه أمنياً وسياسياً بقوة النار وفعل العدوان.
هذا كلّه قد حصل بعد سياقات الحرب الأخيرة وما أفضت إليه، والتقدير الإستراتيجي الذي أضحى معتمداً في الكيان، أنّ محور المقاومة قد أضحى ضعيفاً إلى الحدّ الذي يسمح لهذا الكيان بإخراج خططه ووضعها حيّز التنفيذ، مستفيداً من الدعم الأميركي على أكثر من مستوى؛ و هذا ما يشي بجملة من الدلالات التي يجب الوقوف عندها ملياً، حتى يمكن قراءة هذا الواقع بشكل صحيح، فضلاً عن البناء على هذه القراءة ونتائجها.
أمّا أهم هذه الدلالات فهي:
أنّ الذي كان يقف عائقاً أمام المشاريع الصهيونية في المنطقة وخططها التوسّعية وأطماعها وعدوانها هو قوة المقاومة ومحورها، بدليل أنه عندما كان التقدير لدى الكيان الإسرائيلي على مدى عقود هو قوة محور المقاومة وقدرته على الردع، لم يبادر هذا الكيان إلى تفعيل مشاريعه وخططه تلك، لكن عندما أضحى التقدير مختلفاً لدى هذا الكيان نتيجة ما أصاب محور المقاومة من ضرر، فقد وُضعت تلك المشاريع والخطط موضع التفعيل، وهو ما يعني أنّ محور المقاومة قد كان يحمي المنطقة – كل المنطقة – من العدوانية الصهيونية ومجمل مخططاتها، وأنّ قوة محور المقاومة كانت تشكّل عامل ردع لحماية الأمن القومي العربي، بما يشمل دول محور السلام والتطبيع.
أنّ الديبلوماسية – على أهميتها وضرورتها – ليست هي ما يمنع هذا الكيان من تنفيذ مشاريعه ومخططاته. وتجربة عقود من السنين مع هذا الكيان تكفي لمن يريد أن يقرأ الوقائع بعيداً من الأمنيات وغيرها، وصولاً إلى ما نشهده في يومنا الحالي، حيث الديبلوماسية في أوجها، ولكن ما دفع ويدفع هذا الكيان إلى الحدّ من اندفاعته هو الوقائع الصلبة التي تفرضها المقاومة، رغم ما أصابها من ضرر.
وهنا لا بد من دفع وهم، يعمل البعض على الترويج له، وهو أنّ هذه الحرب الأخيرة التي دارت بين محور المقاومة والكيان الإسرائيلي، قد أثبتت فشل خيار المقاومة في ردع هذا الكيان ولجم عدوانه وخططه؛ والجواب: أولاً، لِنَعُد إلى تجارب عقود من الزمن مع هذا الكيان، والتي تثبت جميعها جدوائية خيار المقاومة في ردعه ولجمه، وخصوصاً عندما تكون هذه المقاومة قوية، وخير دليل على ما تقدّم أكثرُ من عقدين من الزمن سبقت معركة «طوفان الأقصى»، حيث ساد الأمن في لبنان إلى حدٍّ بعيدٍ جداً، وبمستوى غير مسبوق، من اعتداءات الكيان الإسرائيلي وإجرامه.
وثانياً، بخصوص الحرب الأخيرة، فإنّ الذي شجع هذا الكيان على عدوانه وانفلات هذا العدوان، ليس أصل خيار المقاومة، بل تقدير العدو بوجود نقاط ضعف أمنية واستخبارية يمكن له أن يستغلّها لإلحاق أكثر من ضرر بالمقاومة وردعها، أي إنّ المرتكز في اتّخاذه قرار الحرب على لبنان هو تقديره ضعف المقاومة. وإلا، لو لم تكن نقاط الضعف تلك، لكانت سياقات المعركة مع العدوّ ونتائجها السياسية والعسكرية مختلفة جذرياً، أي بمعنى آخر: إنّ ما حصل في الحرب الأخيرة هو دليلٌ إضافي على صوابية خيار المقاومة – وليس العكس – بدليل أن العدوّ عندما كان التقديرُ لديه قوةَ المقاومة، فقد كان مردوعاً، وعندما أضحى التقديرُ لديه ضعفَ المقاومة لم يَعُد مردوعاً، ما يعني أن ما يردع العدو هو قوّة المقاومة على جميع الصعد، وقدرتها على إيذاء العدو بمستوى يعطل مشاريعه وأهدافه.
حقيقة هذا الكيان ومشروعه التوسعيّ والعدوانيّ، وأنّ كل مساعيه نحو التطبيع، ليست إلا أوراق قوة يسعى إلى استجماعها من أجل تحقيق مجمل أهدافه وخططه الاحتلاليّة، وأنه ما غادر هذه الأهداف، ولا فارق هذه الأطماع – رغم اندماجه المخادع في مسارات السلام والتطبيع – وأنه كان يرجئها إلى أن تحين ظروفها، وتنضج شروطها، بدليل أنه عندما رأى أنّ ظروفها حانت، وأنّ شروطها نضجت، فقد أخرجها من جيبه، وبدأ يعمل عليها بكل صلافة وتعالٍ وعدوانية.
أنّ مسار السلام مع هذا الكيان لا يحمي المنطقة من مشاريعه العدوانيّة، وأنّ نهج التطبيع معه لم يستجلبه إلى سلام عادل وشامل، ولم يوصل إلى النتيجة المرجوّة منه، بدليل أنّ هذا النهج – رغم إغراءاته لهذا الكيان – لم يمنعه من تغوّله وعدوانه، وأنّ بعض المنطقة المستهدَف من هذا الكيان، قد كان تلك الدول نفسها التي عقدت اتفاقيات سلام معه، أو تلك الدول التي تتبنّى نهج التطبيع معه، بل وتعادي نهج المقاومة له.
إنّ إسرائيل المأزومة مصلحة قومية عربية – وأيضاً إسلامية – وإسرائيل المهزومة مصلحة للأمن القومي العربي، بما فيه الأمن القومي لدول محور السلام والتطبيع مع الكيان
أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تعير تلك الأهمية للأمن القومي العربي، وخصوصاً عندما تكون هناك مصلحة إسرائيلية تقتضي تهديد الأمن القومي لهذه الدولة العربية أو تلك ومصالحها، حتى لو كانت تجمعها اتفاقية سلام مع الكيان الإسرائيلي، أو كانت من دول محور التطبيع معه.
وهذا يعني أنّ الذي يحمي الأمن القومي للدول العربية ليس مشاريع السلام أو التطبيع، وإنما امتلاك هذه الدول لعناصر القوة التي تحمي أمنها القومي، وتكون قادرة على تعطيل المخططات الصهيونية التي تشكل تهديداً لأمنها ومصالحها القومية، ما يعني ضرورة البحث عن عناصر القوة تلك خارج إستراتيجيات السلام والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي وداعميه، والمحافظة عليها، وعدم التفريط بأيّ منها.
أنّ إسرائيل التي تستشعر فائضاً من القوة هي خطر على المنطقة – كل المنطقة – دون استثناء، بما يشمل الدول التي أبرمت معاهدات سلام معها ودول محور التطبيع.
وهذا يعني أنّه من الخطأ الإستراتيجي أن تعتمد الدول العربية – دول محور التطبيع – إستراتيجيات وسياسات تساعد الكيان على تحقيق إنجازات ومكتسبات في أيّ من الميادين، لأنّ كل هذا سيسهم، بشكل أو آخر، في ملء جعبة هذا الكيان بالشعور بالنصر والقدرة وفائض القوة، ما قد يدفعه إلى تغيير التقدير الإستراتيجي لديه، في ما يتصل بالمنطقة، وتفعيل مخططاته، التي تهدّد الأمن القومي لتلك الدول نفسها. وبتعبير أوضح: إنّ إسرائيل المأزومة مصلحة قومية عربية – وأيضاً إسلامية – وإسرائيل المهزومة مصلحة للأمن القومي العربي، بما فيه الأمن القومي لدول محور السلام والتطبيع مع الكيان.
وعليه، فإنّ ما يحصل الآن، من تموضع لبعض دول محور التطبيع العربية إلى جانب الكيان في حربه على المقاومة – ولو كان هذا التموضع سياسياً وإعلامياً – سيكون حاله كحال من يطلق النار على نفسه، أي على أمنه القومي ومصالحه القومية، حتى لو عُمل على تقديم سردية مخادعة في هذا السياق، فإنّ الوقائع الصلبة تاريخياً وحالياً، تُظهر أنّ هذا الكيان الإسرائيلي سوف يعبث بالأمن القومي لجميع تلك الدول العربية المطبّعة وغير المطبّعة، إذا ما وجد أنّ اللحظة قد أضحت مؤاتية، واستشعر قدرة له على ذلك، وأنّه لن يحجم عن الإضرار بالمصالح القومية لتلك الدول، إن لم يجد رادعاً يحول دون ذلك.
فشل إستراتيجية التطبيع والسلام مع الكيان الإسرائيلي، إذ إنّ هذه الإستراتيجية قد بدأت بعض الدول العربية تعمل بها منذ عقود متطاولة من الزمن، ثم أخذت بالتوسّع، لتشمل دولاً أخرى في الخليج، ولتُطرح مبادرات سلام عربية، ويتمّ تقديم عدد من التنازلات…
لكن، هل جعل هذا كلُّه الكيان الإسرائيلي يتنازل عن مشاريعه العدوانية؟ وهل دفعه كلّ ما تقدّم إلى التخلّي عن أحلامه التوسعية، وإلى تجاوز تلك المخططات التي قام عليها المشروع الصهيوني – خصوصاً في بعده الديني – في المنطقة؟
إنّ إسرائيل قد استفادت من الانقسام العربي، ومن أكثر من انقسام في منطقتنا العربية والإسلامية، من أجل دفع بعض المسلمين إلى مواجهة مسلمين آخرين، ودفع بعض العرب إلى مواجهة عرب آخرين، بما يعزّز موقفها، ويخدم تطلّعاتها، ويحقّق أهدافها. كما استفادت من أكثر من غباء إستراتيجي، نتيجة العمى عن تقدير مكامن الخطر الأكبر على المنطقة وشعوبها ومستقبلها، هذا الخطر الكامن في المشروع الصهيوني، الذي يستهدف الجميع دون استثناء، إلا من ارتضى أن يكون مطيّة لهذا المشروع، ومجرد أداة لتحقيق أهدافه.
في المحصلة: أمام هذا الخطر الكبير الذي تواجهه المنطقة، والتهديد الذي لا يستثني أيّاً من دولها، سيكون من المجدي أن يصار:
أولاً، إلى التفاهم بين محور التطبيع ومحور المقاومة على رؤية مشتركة لإدارة الصراع مع هذا الكيان وتهديداته، والبناء على مساحة الاشتراك بين المحورين، بهدف تحقيق ذلك القدر من الحقوق الفلسطينية، وحماية المنطقة من التهديد الصهيوني، والتعاون الهادف للوصول إلى هذه الغاية، وإرجاء مساحة الاختلاف إلى ما بعد الوصول – إن حصل – إلى نتيجة عادلة في ما يتصل بنيل الحقوق الفلسطينية، وأيضاً السورية واللبنانية.
ثانياً، التراجع عن التطبيع المجاني مع هذا الكيان، وعدم تسليفه أي ورقة تساعده على استثمارها لزيادة عناصر القوة لديه.
ثالثاً، عدم التنازل عن أيٍّ من عوامل القوة في مواجهته، والتعامل مع حركات المقاومة في المنطقة كجزء من الأمن القومي العربي، والأمن القومي لجميع الدول العربية والإسلامية، وأنّ أيّ سعي إلى إضعافها والتآمر عليها، هو بمنزلة إضرار بهذا الأمن القومي.
رابعاً، عدم الاكتفاء بالردود الناعمة على أيّ تهديد إسرائيلي، خصوصاً أنّ الدول العربية والإسلامية تمتلك الكثير من أوراق القوة الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية والإعلامية…، التي سيكون من المجدي استخدام، ولو بعضها، في مثل هذه التحدّيات التي نواجهها، والتخلّي ولو لمدة محدودة عن العراضات السياسية، وفلكلور اجتماعات القمم وغيرها، ومنطق الاستجداء السياسي، لمصلحة الإقدام على اتخاذ قرارات عملية وذات وزن وتأثير، قد تعزّز الردع العربي السياسي والاقتصادي…، وتشعر العدوّ الإسرائيلي أنّ تغوّله لن يبقى من دون ردّ مكلف، بل أن تشمل بعض هذه القرارات أيضاً مصالح الولايات المتحدة الأميركية، إذ من الواضح أنّ الكيان الإسرائيلي يتمادى، دون حدود، في اللعب بأمن المنطقة وإعادة تكوينها، وفي تهديد الأمن القومي لمجمل دولها، وأنّ الردود الخجولة والقاصرة لن تردع هذا العدوّ، وأنّ إستراتيجيات السلام والتطبيع تعطي نتائج عكسيّة.
فهل يمكن أن يُعاد النظر بشكل جدّي في الإستراتيجيات والسياسات المعتمدة، أمام حجم المخاطر والتهديدات، التي لن تستثني أحداً؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية