ثقافة وفنون

لا عذر للعرب

لا عذر للعرب

خليل النعيمي

ما يحدث اليوم في غزة، عدا عن كونه لا يُحتمَل، يطرح علينا، أريد أن أقول على «العرب»، سؤالاً وجودياً بالغ الخطورة، وغير قابل للتبرير. مهما فعلنا سيكون من الصعب العثور على عذر مقبول للحيادية العربية الكاسحة، التي تتجلّى في أبهى صُوَر المذلّة والخنوع. إزالة غزة من الوجود ستفتح للاستعمار الصهيوني باباً واسعاً للدخول منه إلى ما يليه من الجغرافيا العربية الغارقة في سُباتها التاريخي العميق.
هذا الاستعمار المتوحش الذي تعرفونه جيداً لا يعرف الحدود، ولا التسامح، ولا يفرّق بين عربي وعربي إلاّ بالخضوع، لا جدوى، إذن، من الانتظار مقطوعي الألسنة، مكفوفي الإرادة، مقيدين بالسكينة والخوف، منتظرين، عبثاً، هدنة محتملة مع مستعمر مسعور بلا رادع أو خشية، ومدعوم بقوى استعمارية غربية ذات تجارب مؤسِّسة في هذا الشأن.
أكتب هذه الكلمات القاسية لا لأُحرّض أحداً على الحرب، ولا لأدعوكم إلى مواجهة عبثية مع مَنْ لا تستطيعون مواجهته، أصلاً. ولكن لأشير من جديد، إلى خطر هذا الاستعمار الذي سيبتلعكم قريباً. أنتم أدرى مني بكل شيء، بلا شك، ولكنكم تجهلون، ربما، ما ينتظركم من فدائح وأهوال. لا تنسوا أن استسلامكم اللامحدود، أو سلامكم المزعوم، مع هذا الاستعمار العنصري الهمجي، على الرغم من وحشيّته التي لا تحتمَل، تجاوز حدّ الأمل، لم يعد عندنا سوى اليأس منكم. ولكن تذكّروا هذا الذي هو أمامكم الآن. تذكّروا جيداً ما لم يحدث، بعد.
نحن نعرف مصير الكائنات التي تتلهّى بالحسابات الصغيرة، عندما تداهمها الأخطار الوجودية، مثلما تفعلون أنتم، اليوم. لكأنكم لا ترون الفاجعة التي تطوف فوق رؤوسكم. لا تتحسّسون الأهوال الآتية كالزوابع نحوكم. لكأنكم لستم من أهل «هذا الحي» الذي يُزال، عنوة، من الوجود، تحت أبصاركم، وأنتم لا تبالون. لكنه، مهما فعلتم، و«حَرْتَقْتم»، ليس معزولاً عنكم. إنه مستقبلكم، إنه المستقبل التعس الذي ينتظركم، وسيصيبكم أذاه قريباً. مستقبلكم الذي تحاولون التهرّب منه، مؤمّلين، عبثاً، أن تدفعوه بعيداً عنكم، أو أن تتخلّصوا منه بالصمت، والصمت ليس حلاً.
غزة ليست مدينة.. غزة ليست فئة بشرية.. غزة ليست حِزْمة شوك في البرية لتطير في الريح. إنها مصير.. إنها مصيركم القاتم الذي ستتذوّقون مرارة فقدها عمّا قريب، احذروا المنعطفات التاريخية التي ستلتهمكم بلا رحمة. الجغرافيا السياسية التي تعيشون فيها كالبيت الهش، بباب متقَرِّح، مفتوح على الأهوال.. غزة هي هذا الباب، باب هذا البيت الذي إذا ما انخلع، انخلعتم أنتم معه، أيضاً.
ليس في الجغرافيا السياسية ملاجئ، ولا منافذ، ولا دروب. إنها «كيان مصمت» مثل كتلة الصُوّان، إذا تشظّتْ، أو انكسَرتْ، أو تأذّى جزء منها، سيتأذّي الجميع. لا تحسبوا أنفسكم في مأمن. الطمأنينة الكاذبة التي تُظْهرونها لا تخْفي عيوبكم، وإنما تكشفها بوضوح. الطمأنينة الحقيقية جهد تاريخي يتطلب سياقاً طويلاً من المواجهة لا الاستسلام المجاني «على الحارك»، مواجهة الذات، أولاً، ومن ثمّ مواجهة الآخر. إنها وضع تاريخي لا تعرفونه، بعد. وضع أكثر تعقيداً من كراسي السلطة، ومن ناطحات السحاب، ومن أكوام الدولارات، ومن أنها شيء آخر، لا زلتم تفتقدونه بعمق، كما أتصوّر، وهو ما يمنحكم هذه الطمأنينة الكاذبة، والكاشفة، في الوقت نفسه، لحقيقة الوضع المتردي الذي تعيشونه. وضع فريد تاريخياً، بلا مواجهة حقيقية لا مع الداخل، ولا مع الخارج. يا للخيبة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب