طهران الضائعة… الكتابة عن الجمهورية الإسلامية من الداخل

طهران الضائعة… الكتابة عن الجمهورية الإسلامية من الداخل

محمد تركي الربيعو
باحث سوري متخصص بالدراسات الأنثربولوجية
رغم تصاعد الحديث عن طهران هذه الأيام، يبدو المجتمع الإيراني من الداخل مجتمعا مجهولا أحيانا، فهو بعيد عن العدسات، وغالبا ما يبقى العاملون في حقله إما مهمشين، أو بعيدين عن كاميرات وسائل الإعلام. وربما هذا الشعور هو ما دفع دلفين مينوي، وهي صحافية من أصول إيرانية، عملت سابقا في جريدة «لو فيغارو» الفرنسية، إلى خوض مغامرة الكتابة عن إيران من الداخل. كانت مينوي قد عاشت طفولتها في فرنسا، ومع ذلك، ظلّت تسمع عن طهران وحكاياتها من والدتها ووالدها. وربما الصدفة هي التي قادتها ذات يوم للتعرف على هذا العالم القريب والبعيد في آنٍ معا. بعد سنوات من الإقامة في طهران، ألّفت مينوي كتابا بعنوان «أكتب لكم من طهران» تُرجم لاحقا إلى العربية.
ربما غلب الطابع الصحافي على أسلوب الكاتبة، أحيانا في تناول بعض القصص، كما لم يخلُ نصها في بعض الزوايا من طابع التشويق البوليسي، الذي قد يفضّله القارئ الغربي، وهو يقرأ عن إيران. ومع ذلك، يُحسب للمؤلفة أنها جالت مطولا في طهران وقم، وحاولت أن تلتقط لنا صورا معبّرة من المجتمع الإيراني ومسار تطور حياته خلال الفترة بين 1998ـ 2009 . لعل اختيار الصحافية مينوي لهذه اللحظة التاريخية، ناجم أولا عن أنها كانت تعيش في طهران خلال هذه الفترة بشكل متقطع، والسبب الآخر كونها تعتقد أن هذا العقد مثّل عقد الأمل في إيران. كان هناك، كما تعتقد، فرصة لأن ينتقل المجتمع الإيراني من لحظة الراديكالية الخمينية، إلى لحظة أكثر هدوءا واستقرارا. لكن المفاجأة كانت أن خامنئي وحرسه الثوري وقفوا في وجه هذا المشروع، وكذلك الغرب، الذي لم ينفتح في لحظات مهمة على الداخل الإيراني، وبقي يراقب المجتمع وهو يتعرض للتنكيل في أكثر من لحظة. بدت الصحف الفرنسية والعالمية مشغولة عام 1998 بخبر قدوم الإصلاحي محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية الإيرانية. كان هذا الملا الإصلاحي وزيرا للثقافة لعشرة أعوام، قاتل خلالها بضراوة للتخفيف من الرقابة. وكَرجل حوار، جسّد خاتمي الجيل الجديد من السياسيين المتعطّشين للانفتاح السياسي في تلك الجمهورية الإسلامية التي طالت عزلتها. في الغرب، عادت إيران لتصبح موضوعا متداولا، وكانت الأسئلة في الصحافة الباريسية تُطرح حولها في جميع الاتجاهات، هل يبشّر انتصار خاتمي بنهاية النظام القمعي الديني؟ هل تتوافق الديمقراطية والإسلام؟
في تلك الأيام، كما تقول مينوي، تلاشت صيحات الباسيج في موجة التصفيق للرئيس الإيراني، كما لو كانت صفعة على وجه الماضي الأسود. في الحادي والعشرين من حزيران/يونيو 1998، استضافت مدينة ليون حدثا غير مسبوق بالنسبة إلى إيران، حيث جمعت مباراة لكرة القدم المنتخبين الوطنيين لإيران والولايات المتحدة في لقاء تاريخي بين بلدين طالت قطيعتهما. أصبحت الصحف متنفسا لجميع المطالب ومنبرا للنقاش، وأخذ خاتمي يتحدث عن الحياة بوصفها أساس المجتمع الإيراني. لم تعد عبارة الخميني «الشهيد هو أساس التاريخ» تتصدر صورة إيران. بدا وكأن عالم الواقع يتقدّم، مقابل تراجع العالم الميثولوجي الإيراني. في الرابع عشر من تموز/يوليو 1999 حدث ما لا يمكن تصوره. ارتفعت وسط سرب من المتظاهرين قبضة اخترقت السماء، ثم انطلقت صرخة في وسط الفوضى، «الموت لخامنئي!»
قُم: المدينة الملعونة
في تلك اللحظات، نهاية القرن العشرين، زارت الصحافية مينوي مدينة قم. كانت أبنيتها، كما تكتب، ذات سقفٍ مسطّح، مهملة، سيئة الصيانة. وما من شيء يرشح من خلف أبواب المدارس الدينية الموصدة، فواجهاتها السميكة تكتم أدنى صوت.. وأدنى همس. حتى سكان هذه المدينة اتسموا بالانغلاق. لم تكن الجدران من حجر فقط، وإنما من قماش. أسوار من العمائم والجلابيب وأوشحة الحجاب والبراقع. كان والد الصحافية قد حاول ثنيها عن العيش في طهران، فهو الإيراني الذي هرب من سلطة الخميني، وظلّ يعتقد أن البلد لا يمكن إصلاحه في ظل الحرس الثوري. لكن لحظات 1998 بدت بالنسبة للصحافية بوابة جديدة نحو العالم، وقطيعة مع أفكار الآباء.
نهاية شهر العسل:
يلاحظ من يقرأ في يوميات الكاتبة أن لحظة خاتمي لم تكن سوى شهر عسل قصير في حياة جمهورية ولي الفقيه، فمع اندلاع هجمات11 سبتمبر/أيلول، ولاحقا الغزو الأمريكي للعراق عام2003 ، بدا أن خطاب خاتمي لم يعد صالحا لصراع الحضارات. كان العالم (يتردكل)، إن صح التعبير، وعلى الرغم من محاولات خاتمي التنديد بما جرى، فإن الغرب جعل كل ما يتعلق بالإسلام موضع شبهة، وكأنه الطاعون. في29 كانون الثاني/يناير 2002، قرر الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تصنيف إيران ضمن «محور الشر»، وفي وقت لاحق اتهم الجمهورية الإسلامية بالتنسيق مع تنظيم «القاعدة». وكان من الصعب على طهران تقبل هذا الموقف، وشعر الكثير من الإيرانيين بالخيانة والعار، ما شكّل ذريعة كافية لعودة المحافظين. وربما ما حاولت الصحافية مينوي قوله هنا، هو أن جزءا من توحّش إيران لاحقا بعد عام 2003 يتحمّله الغرب نفسه، إذ ظل خجولا في التعاطي مع خاتمي، وبدلا من البحث عن أسباب ما حدث، اندفع نحو الهجوم على الإسلام، ما خلق ردّات فعل راديكالية داخل إيران وفي العالم الإسلامي، صعود فكرة الجهاد. ولعل ما فاقم هذا التوحش هو قرار إيران، في ظل الجنون الأمريكي في العراق، الدخول في المشهد العراقي من خلال الميليشيات التابعة لها. أسقط الأمريكيون بغداد، ظنا منهم أنهم تمكنوا من قمع مارد صدام، دون أن يدركوا أنهم فتحوا الباب لدخول الأربعين حرامي وحرامي شوارع المدينة.
ولي نصر سيطلق على هذه اللحظة اسم صحوة الشيعة. بدا خاتمي وتياره الإصلاحي، في ظل هذه الصحوة، تيارا غير نافع لخامنئي. جاء الردّ مع صعود أحمدي نجاد. كان اسم الرئيس الجديد غير معروف. باستثناء قيوده المفروضة على بلدية طهران، حيث عمل منذ عام 2003. فقد حظر ارتداء القمصان قصيرة الأكمام على موظفي البلديات، ومنع الصعود في المصعد نفسه مع امرأة، واستبدل الحفلات الموسيقية في المراكز الثقافية بمسابقات قراءة القرآن. ومع عودته، أعاد تفعيل دور الباسيج والحرس الثوري في المساجد والجمعيات الإسلامية. وبالمقارنة مع خطب خاتمي الشعرية المنمقة، كان خطابهم بسيطا، موجزا، ومحمّلا بوعود المساعدات الاجتماعية التي تجذب الطبقات الفقيرة والتقليدية. وفي هذا العالم الصغير الذي يحكمه أحمدي نجاد، لم يكن هناك مجال للأصوات الناقدة، ولا المستاءة. فعندما بدأ سائقو الحافلات بالشكوى، انتهى بهم الأمر وراء القضبان. هؤلاء السائقون الذين يمثلون الناس البسطاء، إلى جانب النساء والأطفال، ممن وعدهم الرئيس بعائدات النفط، دفعوا الثمن غاليا نتيجة إضرابهم سعيا للحصول على أجور أكثر عدلا ومركبات جديدة.
2009: الفرصة الضائعة
أخذت الأجواء تبرد قليلا مع عام 2008 ، وبدا للإيرانيين أن عليهم المحاولة مرة أخرى لتحسين ظروف حياتهم. كانت البلاد تعيش على وقع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2009، ظهر مير حسين موسوي، بشعاره الأخضر، معلنا عن ربيع إيراني جديد. بدا موسوي في البداية مفتقدا للكاريزما، يرتدي طقما داكنا وشعرا أشيب، لكنه، وفي لحظة، وقف أمام نجاد بشجاعة متهما إياه بالاستبداد. أخذ الإيرانيون يتظاهرون ليلا في طهران، وينادون «باي باي نجاد». نقلوا الصراع إلى عالم النكتة، وأخذوا ينشرون نكتة تلو أخرى عن نجاد تقول إحداها، لمَ لا يفرّق أحمدي شعره؟ لكي يفصل ذكور القمل عن الإناث. بعد أربع سنوات من الضغط، غدت الأماكن العامة ساحة مفتوحة لاحتمالات لا نهاية لها. لكن، خلافا للتوقعات، أُذيع عبر الراديو خبر إعادة انتخاب أحمدي نجاد وانتصاره مجددا. في الوقت نفسه، سرت الشائعات بأن موسوي وغيره من المرشحين المعتدلين قد وُضعوا تحت الإقامة الجبرية. اندلعت الاحتجاجات في الشارع، واعتقد الطلبة والراغبون في التغيير أن العالم لن يقبل بقمعهم، لكنهم خُذلوا، كما تلمح الصحافية. اكتفى الغرب بالمراقبة والتنديد، دون أن يمدّ جسرا للنجاة. بدت هذه اللحظة بمثابة الفرصة الأخيرة لإيران لتخرج من قمقمها الديني.
في تلك اللحظات، صرخت إحدى الفتيات قائلة «مهلا أيها الرياضي النووي، اذهب إلى السرير إن كنت متعبا»، في إشارة إلى توق الإيرانيين للخروج من الحصار الذي فرضه النظام عليهم بسبب برنامجه النووي ومغامراته العسكرية. لم يتوقعوا يومها أن صناع النووي لم يتعبوا بعد، وأنهم أصرّوا على جرّهم إلى معركة، قد تأكل الأخضر واليابس في طهران التي حلموا بإصلاحها.
كاتب سوري