
صناعة «الترند» غموض يتكاتف على نشره العلم والفن والفلسفة

نعيمة عبد الجواد
إذا كنت تعتقد أن «الترند» هو مجرد حدث عفوي عرضي اكتسب شهرة وتداولاً بين العامة بطريقة مفاجئة، فأنت واهم. أمَّا إذا كنت تعتقد أن الترند هو صناعة حديثة برعاية العالم الرقمي تنفِّذها وسائل التواصل الاجتماعي، يؤسفني أن أخبرك أنه يتوجَّب عليك مراجعة معلوماتك. الترند صناعة جذورها ضاربة في الماضي السحيق، لكن العالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي منحته اسماً محدداً وانتشاراً لحظياً بين جميع شعوب العالم.
بالتفتيش في دروب الماضي، لوحظ أن الترند تم استخدامه كأداة للتغيير الناعم للمنظومة الفكرية للشعوب ولأذواقهم، وهذا لن يتم أبدًا عند فرضه بالقوَّة؛ فالتغييرات التي يتم فرضها عنوة تجابه مقاومة عظيمة، وتكون فاتورتها كبيرة. وعلى النقيض، فإن التغيير النَّاعم يجعل الأفراد والشعوب على قناعة تامة بما يحدث لهم من تغييرات، بل وأنهم يساعدون في نشرها للاقتناع التام بأن ذاك التغيير حتمي لمجاراة العصر، وأنه الوسيلة لتحسين صورة المرء حتى لا يظهر متخلِّفًا عن ركب الحضارة وبعيدًا عن الذوق السليم السائد. والأدهى من ذلك، صناعة الترند بمقدورها تحويل الثقافة من نقيض لآخر بسهولة وسلاسة واقتناع تام، على مستوى الأفراد والشعوب. فالعنصر الأكثر خطورة في الترند وصناعته أنه الوحيد القادر على التلاعب بعقل الإنسان وخداعه، وكذلك هو قادر على تشويه الجمال وتزيين القبيح في مخيِّلة الأفراد. وأخيرًا، فإن التكرار والإلحاح يحيلان أي فرد إلى قطعة من الصلصال لا إرادة لها، وقطعة من مادة الإسفنج دورها الوحيد هو الامتصاص السريع لجميع التغييرات، حتى ولو كانت ليس فقط تهديدًا للعقل والمنطق، بل أيضًا لصحة الإنسان.
فعلى سبيل المثال، خلال العصر الفيكتوري تفشى هوس غريب بأن الجمال هو الجبهة العريضة، وكلَّما زاد مقدار جبهة المرء، رجالاً ونساء، كان ذلك دليلًا على الجمال الطاغي والعقل الرَّاحج، وهذا المنطق يدونه الكثير من الإبداع الأدبي لذلك العصر، فالأدب مرآة للشعوب وتدوين للتاريخ.
وبالتأكيد، لم يمرّ هذا الهوس (الترند) مرور الكرام، عندما صار التنقيح والمغالاة الفكر السَّائد، لدرجة أن الجمال الحقيقي أضحى يُقدَّر لأي مدى استطاع الإنسان أن يجعله رأسه أشبه ب»البيضة»؛ فتسابق النساء والرِّجال في حلق مقدِّمة رؤوسهم كي يحظوا بجبهات عريضة أكثر، وتبارى أيضًا النساء في حلق حواجبهنّ ورموشهنّ كي يصير مظهرهنَّ أقرب أكثر إلى البيضة في مدى نعومتها وشكلها الأملس. وزيد على ذلك تفنن الجنسين في وضع مساحيق كثيرة وكثيفة تخفي معالم الوجه الطبيعية، وكانت كلَّها مصنَّعة من مواد ضارة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كان نزعها يستلزم استخدام مواد ضارة أساسها الرصاص الذي كان يسمم البشرة والجسد بأكمله، ويصيب الوجه بمشكلات عويصة ملحوظة، تدريجيًا. وبالرغم من ذلك، كان الاستمرار في وضع تلك المساحيق. ولعل الكثير من اللوحات الأوروبية القديمة تشهد بذلك، وإن كان الكثير منها فيما بعد تم تعديله بعض الشيء عندما تغيَّر الترند (الهوس)، وصار الآخرون ينظرون على ذاك الترند القديم على أنه مخيف لحد كبير.
ولو استطاعت الأجيال اللاحقة تدارك الأمر لجعله مقبولًا لحدٍ ما، فهناك شواهد أخرى على تواجده كنموذج مخيف احتقرته الأجيال اللاحقة، وأكبر دليل هو شكل المهرِّج ذي الجبهة العريضة والمساحيق المبالغ في وضعها الذي يتم استخدامه كشخصية هزلية، أو مرعبة. أضف إلى ذلك، لا يزال القضاة الأوروبيون يرتدون الشعر المستعار (لكن دون وضع مساحيق) عند انعقاد المحكمة، وخاصة في الجلسات الهامة، والسبب في ذاك التقليد الغريب هو وضع رجال القانون بوصفهم المحافظين على التراث والتقاليد المتوارثة.
وبين وقت وآخر، يحاول القائمون على هندسة الشعوب إعادة إحياء التقاليد الغريبة، وهذا لبيان مدى إحكام قبضتهم على الشعوب، مما يعكس القدرة على التلاعب بعقولهم ببساطة. والغريب، أن من يساعدهم على هذا رجال الفكر من الفلاسفة والأدباء، وكذلك العلماء والقائمون على البحث العلمي. وأوضح الأدلة على ذلك، ملابس السبعينيات الغريبة التي كانت تعديلًا لملابس فئات منبوذة في الماضي السحيق، وما صاحبها من تهليل وتعظيم يقويه فلسفات تشير إلى أن ذلك هو تمثيل للحرِّية الفكرية والشخصية، وإن كانت السطوة الدينية تمثِّل دومًا عائقًا أمام نشر الأفكار التي تسعى لمخالفة المنطق. وعلى هذا، كان الالتفاف حول الفكرة، من خلال تعظيم دور نماذج عينها من المفكِّرين والفلاسفة، وجعلهم المثال المحبوب لدى الجماهير، والذي يطمح الجميع إلى أن يسير على نهجه. فعشق العامة، على الصعيد العالمي، أفكار «جون بول سارتر» Jean-Paul Sartre (1905-1980) الوجودية، مما سهَّل على الجموع تقليد أسلوب حياته الشخصي، وصارت قصَّته مع «سيمون دي بوفوار» Simone de Beauvoir (1908-1986) أسلوب حياة يحتذى به، بل ومن خلالها تم نشر الثقافة النسوية على أوسع نطاق.
أمَّا في عصرنا الرقمي هذا، فالتلاعب بالعقول ومصائر وثقافات الأمم صار أسهل ويتم على فترات متقاربة لسهولة انتشار المعلومة. ومن أنواع الترند المدمِّرة، الترويج لعمليات التجميل على أنها أحد مظاهر العصر الهامة التي لا غنى عنها والتي تحافظ على جمال ونضارة من يخضع لها. وأضف إلى ذلك، تم الترويج على فكرة الشباب الدائم من خلال جميع الوسائل السمعية والبصرية، ويساعد في ذلك التقدُّم العلمي المذهل والأعمال االدرامية والأدبية التي تؤكِّد على وجوب المحافظة على المظهر الشَّاب في كل الأعمار. وكانت المغالاة عند الاستعانة بموديلات إعلانات من كبار السنّ، وظهور أفلام حركة لممثلين جاوزوا الستين من العمر، لكنهم أصبحوا مثالًا يحتذى به ويطمح الجميع لبلوغه بسبب الاحتفاظ بمظهرهم ولياقتهم البدنية والوجه والجسد الذي تدخَّلت فيه الجراحات التجميلية.
ومن فلاسفة العصر الحديث الذين ألقوا الضوء على تلك الظاهرة، الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد «لوي بيير ألتوسير» Louis Pierre Althusser (1918-1990) عند شرحه للإيدلوجيات الماركسية. وكانت نظريات «ألتوسير» من القوة التي جعلتها تؤثر على أجيال لاحقة من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين، من أمثال «ميشيل فوكو» Michelle Foucault، و»جاك داريدا» Jacques Derrida، «وجوليا كريستيفا» Julia Kristeva، «ورولان بارت» Roland Barthes، و»جيل دولوز»Gilles Deleuze.
ويؤكد ألتوسير في كتاباته أن اعتناق المرء لإحدى الإيديولوجيات يكون لها من الهيمنة بأن تسطر على أفكاره وأفعاله. وأوضح «ألتوسير» ذاك المفهوم عند مناقشته لمعنى كلمة «فرد تابع» (subject) الذي يحمل في طياته إزدواجية في المعنى. فقد يشير معنى المصطلح إلى «شخص ذي وكالة ما أو حيثية». وعلى النقيض تماماً، فإنه قد يعني «شخصاً واقعاً تحت هيمنة سلطة عليا». والمحك هنا هو نوع الإيديولوجية التي يعتنقها الفرد التابع.
وعلى هذا، صاغ «ألتوسير» مصطلح «المُساءلة» (Interpellation) والذي يبحث في طبيعة ووظيفة الإيديولوجية، وفي نفس الوقت، في طبيعة ومعنى مصطلح الفرد التابع. وفي هذا الإطار يعتقد «ألتوسير» أن «المُساءلة» (Interpellation) تصف العملية التأسيسية لأي أيديولوجيا (Ideology)، والتي من خلالها يتم استدراج أحد الأفراد (individual)في المرحلة التجريدية لطرح الفكرة قبل أن تصبح إيديولوجية ونمط حياة ذا ملامح. وفي هذه المرحلة التجريبية، يتم نشر أفكار عينها من خلال أفكار أو جماعات إلى أن يعتاد الآخرون على تواجدها، ويعتبرونها طريقة مميزة لبعض الأفراد أو الجماعات. ومع الاعتياد على تواجدها، يزداد استحسان الفكرة، ومن بعدها تنتشر، انتشار النار في الهشيم.
ويروِّج القائمون على تغيير وهندسة الثقافات العالمية لزرع أفكار غريبة ومتجددة طوال الوقت لضمان وجود ألوان من الصراع والتجدد في المجتمعات. وأي ترند على هذا الأساس، ومن وجهة نظر «ألتوسير»، يخلق علاقة وهمية تخيُّلية بين الأفراد والظروف الحقيقية المحيطة بهم. وقد يظن البعض أن هذا الطرح يدعِّم وجهات نظر خيالية وأن ثقافات الشعوب لا يتم هندستها، بل إن صيرورة الأحداث تسير وفقًا لظروف معيَّنة، وكل مجال سواء أكان علمياً أو أدبياً قائمًا بذاته. بيد أن «ألتوسير» يؤكِّد على وجود من يطرح أيديولوجيات عينها ويهندس وجودها بشكل فلسفي يقبله العامة، أو كما يؤكِّد: «التفلسف بعيون مفتوحة مكانه الظلام، فوحده الأعمى فقط هو من يستطيع النظر للشمس مباشرة».
وزيادة ألوان وأنواع «الترندات» وما تحمله من أيديولوجيات متصارعة في الوقت الحالي هو الوسيلة المثلى لتعديل سلوك الأفراد بشكل فوري ومباشر للتماشي مع التقدُّم العلمي المذهل، الذي قد لا تتفق مبادئه ليس فقط مع الجانب الأخلاقي، بل أيضًا مع مصلحة الإنسان. فكل الدلائل تشير إلى أن العلوم الرقمية الحالية حوَّلت البشر إلى نسخ افتراضية لما سيكون عليه العالم في المستقبل. والتساؤل هنا، هل سيأتي يومًا يُعتبر فيه أن ما نمر به من تقدُّم ثقافي قد جعل صورة البشر وأفكارهم تماثل صورة المهرِّج ذي الجبهة العريضة والمساحيق الكثيفة الذي يقتصر دوره على الترفيه، أو الظهور في أفلام الرعب كشخصية مخيفة ومرعبة قادرة على ارتكاب جرائم شنعاء؟ والإجابة عن هذا التساؤل، فيما يبدو، لسوف يتم تلقِّيها قريبًا.