كتب

«وادي الفراشات» رواية العراقي أزهر جرجيس: سرد الهامش وبلاغة الوجع في تاريخ المنسيين

«وادي الفراشات» رواية العراقي أزهر جرجيس: سرد الهامش وبلاغة الوجع في تاريخ المنسيين

إياد شماسنة

في روايته «وادي الفراشات»، المدرجة على القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لعام 2025، يعود الروائي العراقي أزهر جرجيس إلى سؤال قديمٍ وجارح  من يكتب سيرة الذين لا يُكتَبون؟
يختار الكاتب راوياً واحداً، عزيز عوّاد، ليحمل على كتفيه شقاء جيلٍ كامل، ويضع بين يديه دفتر الأرواح كي يحوّل الحكاية الفردية إلى أرشيف روحي للمهمّشين. منذ الجملة الافتتاحية الصاعقة -احتفظ بهم كي لا تقف عارياً في الريح!- يُعلن النص أطروحته الأخلاقية بوضوح: لا نجاة بلا ذاكرة، ولا معنى للنجاة إن جاءت عاريةً من البشر الذين شكّلونا.

حبكة مُحكَمة بإيقاعٍ مُتوتر

يبني جرجيس روايته على محورين متوازيين: سيرة عزيز عوّاد الممتدة بين بؤس الحياة والسجن ومحاولة إعادة التكوين، ودفتر الأرواح كجهاز سردي يجمع شهادات الغائبين. فمنذ الزيارة المبكرة التي سلّم فيها الخال جبرانُ السجينَ الصندوقَ والوصية -التي هي عبارة عن مزحته القاسية: إذا خرجت من السجن، فلا تنس أن تضع الورد على قبري يا نذل – يتحدد خطّ المصير وتُغرس فكرة الفقد كقدرٍ محتم.
وعندما يُعلن تقصير العقوبة، يصف السارد اللحظة ببرودة مَن تمرّس على الخيبة: «ظللت أراقب الباب متى يُفتح… لكن لم يكن من ينتظرني سوى خالي جبران». هذه الحرية لا تعني خلاصاً، بل انكشاف وحدةٍ أشدّ قسوة. من هناك بدأت الانعطافات: بيتٌ يفتحه غريبٌ بارد، العبارة (الله يعطيك)، وانقطاع المأوى، وعودة إلى أحياءٍ يضيئها الوهم أكثر مما يضيئها الأمان، فيغدو عزيز متسوّلا أكثر منه ابن بيت.
يتصاعد التوتر حين يركب مع شيخٍ درويش فيجيبه مازحاً: «إلى الله، قبل أن تقوده المصادفة إلى وادي الفراشات، ففي مقبرة بلا شواهد، تحت سدرةٍ وحيدة، يُدفن جسد رضيعة اسمها نرجس -فراشة زهدت بها الدنيا – ويأتي الجواب على السؤال: هذا وادي الفراشات. هنا ينقلب الموت من خاتمة إلى مدخلٍ لسجلاتٍ بديلة، حيث تُكتب الكرامة الإنسانية خارج دفاتر الدولة».
تعتمد الروايةُ ضميرَ المتكلم (ساردٌ مشارك) بما يضمنُ حميمية الاعتراف وقربَ المسافة المعرفية بين القارئ والبطل. لكن جرجيس يَكسرُ أحادية الصوت عبر جهاز دفتر الأرواح الذي يتيح للأصوات المقموعة أن تتكلّم وتُدوَّن. في مشهدٍ لافت يكتب الساردُ على أول صفحة: «هنا يرقدُ عزيز عوّاد… حاول ألّا يقف عارياً في الريح، لكنه فشل، قبل أن يترك الدفتر على طاولةِ المقهى ويمضي إلى مصيره الذي عزم عليه إلى سيارة أجرة»، في تواطؤٍ سرديّ بين كتابةِ الذات وكتابةِ غيابها.
يستثمر النصُّ تقنيتي الاسترجاع والاستباق معاً: استرجاعُ سنوات الحصار والبيت والأسرة، واستباقُ موتِ الخال وإيماءاته، بحيث تغدو العبارةُ/ النبوءة (عارياً في الريح) خيطاً يربط الماضي بالمآل ويُنظّم زمن الرواية شعورياً أكثر من تنظيمه تقويمياً.
لغة «وادي الفراشات» فصيحةٌ مرنةٌ تُمزج فيها البلاغةُ بالدقة، وتُطعَّمُ أحياناً بمفرداتٍ دارجة داخل الحوارات لالتقاط إيقاع الحياة اليومية: يا حاج، لا تلعب بعقلي الله يخلّيك؛ أو صدمةُ بابٍ يُغلق بوجه السارد بكلمةٍ مقتضبة: اللّه يعطيك.
هذه الشذرات لا تُبتذَل، بل تُوظَّف لإسناد المصداقية الصوتية للشخصيات.
السخريةُ إستراتيجيةُ بقاءٍ ومعرفة: هكذا تُحمِّل الجملةُ الواحدةُ مفارقتين في آنٍ؛ يَضحكُ الساردُ من نفسه لحظةَ اليأس، ويستدعي عبارةً ثقيلةَ الظل لتخفيف ثقل اللحظة. ينشأ من هذا التوتر إيقاعٌ لغويٌّ يتنفّس بين الحدث والتأمّل، بين الوصف والحوارات القصيرة الخاطفة.
يتبدّى العنوانُ، على مستوى الصورة، استعارةً ممتدّة: الفراشات أرواحٌ حُرّةٌ تُستعاد كقيمة إنسانية، والوادي موضعٌ خارجَ القانون يعيد ترتيبَ كرامة الموتى. ويتشعّب الرمزُ عبر تفصيلاتٍ صغيرةٍ مُكثَّفة: قبورٌ بلا شواهد، سدرةٌ تتوسّط المشهد، ورضيعةٌ تُسمّى نرجس تُعاد إلى الرحمن فراشةً.
تفتتح الروايةُ فصلها الأول بإهداءٍ إلى الأرواح الغريبة أينما حلّت، ثم بعتبةٍ شعريةٍ لدرويش: فأين نسينا الحياة؟ سألتُ الفراشة… فاحترقت بالدموع. هذا الاقتباسُ مِفصلٌ دلاليّ يُسائل معنى الحياة حين تُستهلك في الضوء/ الوهم، ويؤسّسُ لفكرة الاحتراق بوصفه شرطاً للمعرفة وللتحوّل. بهذا المعنى يُقرأ دفتر الأرواح كحَلٍّ سرديٍّ لتوتّر السؤال الدرويشي: تدوينُ من نُسوا كي لا تُحرقَ ذاكرتُهم مرتين.

اجتماعياتُ النص: اقتصادُ الفقد وحروبُ اليوميّ

لا تنظِّر الروايةُ للحصار والفقر بقدر ما تُجسّدهما عبر مشاهدَ مُعاشة: ثيابُ الإغاثة المتراكمة على أرصفة الشتاء، تجارةُ الشفقة التي تُهين الفقراء وهي تمنّ عليهم بالدفء، كهرباءٌ تذهب وتجيء كالبندول، غرفٌ تُحوّلها الحرارة إلى جحيمٍ والذبابُ إلى جيشٍ مقيم. هذه التفاصيل الدقيقة تَصنع واقعيةً مشهديّةً تُغني عن أي خطابٍ تقريرِيّ.
وتنعكسُ هشاشةُ الاجتماع على هشاشةِ العائلة: زواجُ عزيز/ تمارا يتعرّض للانكسار، والبيتُ -بوصفه استعارةَ الأمان – يكفُّ عن كونه بيتاً منذ اللحظة التي يُطرَق فيها فلا تُفتَح لهُ ذاكرةٌ بل تُسدُّ بعبارةٍ مقتضبة. هنا لا يَعِدُ السردُ بالخلاص، بل يُراكِم أسئلةَ العدالة والجدارة: من يستحقُّ الحياةَ الكريمة؟ ومن يقرّرُ الاعترافَ بالمقام الاجتماعيّ للمنسيّين (مولودين وميتين)؟
تعمل الروايةُ على قلبِ الجغرافيا الأخلاقية: فالمدينةُ (مركزُ القانون) لا تسعُ اللقطاء، بينما يستحدث الهامشُ (وادي الفراشات) قانونَهُ الرمزيّ الخاصّ لتكريم من لفظهم المركز. ولذلك يكتسب المشهدُ الجنائزيُّ للرضيعة نرجس ثِقَلَهُ الدلاليّ: الشيخُ الذي ينشُد ويُلقّن، والقبرُ عند السدرة، والمطرُ الغزير… كلُّ ذلك يرسمُ مسرحاً شعائرياً يُعيد تعريفَ الجماعة والأخلاق بعيداً عن مُصطلحات السجلّ المدنيّ.
ليس من باب الحيلة الروائية وحدها أن يقود شيخٌ مجهولٌ سيارةَ السارد إلى الله؛ إنّها تقنيةٌ تُطابق التجربةَ الوجودية التي يكتبها النصّ: حياتُك قد تُقادُ بعبارةٍ ملغزة، بنزوةِ سائقٍ درويش، بخطوةِ مطرٍ زائد. لذلك يأتي الحوارُ القصيرُ حادّاً ومفارقاً (إلى الله/ لا ينقصني إلا المجانين)، فيُحرّك الإيقاع ويَشحنُهُ بطاقةِ المفاجأة.
يؤدّي دفتر الأرواح ثلاث وظائف متداخلة: (1) تقنيةٌ سرديةٌ تُولِّد الحكايات وتسمح بتعدّد الأصوات، (2) مجازٌ معرفيٌّ يعيد الاعتبار للتوثيق الشعبيّ بوصفه مضادّاً لاحتكار الدولة للذاكرة، (3) موقفٌ أخلاقيٌّ من مفهوم الاستحقاق: من يَستحقّ أن يكون له قبرٌ باسمٍ ووردٌ يُوضَع عليه؟ هذا السؤالُ نفسُهُ هو ما يُتَرجم إلى كتابةٍ ذاتيةٍ جريئة حين يدوّن عزيزٌ قبرَهُ أولاً قبل أن يكتبَ الآخرين ــ كأنّ الاعترافَ بضعف الذات شرطُ إمكانِ الشهادة للغير.
يُشيِّد أزهر جرجيس شخصياته في وادي الفراشات بأقل قدر من الزينة وأكثر قدر من الفاعلية الدلالية، بحيث لا تُقدَّم بوصفها ملامح فردية، بل أصواتاً مُحمّلة بالمعنى. فعزيز يظهر سارداً مُنهكاً، تحرِّكه غريزة الحفظ من العراء الذي يهدد الذاكرة والجسد معاً. أما الخال جبران، فينهض بدور النذير، المهرِّب لعبارةٍ تؤسِّس أطروحة السرد كلّه؛ إنّ مزحته عن قبره ليست دعابة عابرة، بل درس موجز في اقتصاد الفقد وكيف يُختصر الوجود إلى إشارات صغيرة. وفي المقابل يقف الشيخ/ البدري كدليل أخلاقيّ يقود السارد إلى وادٍ بديل، محوِّلاً طقوس الدفن إلى بيانٍ للكرامة الإنسانية. بينما تتجسّد تمارا كوجهٍ للبيت حين يتحوّل إلى باب مغلق، وصورةٍ مرآوية للهشاشة التي تعتري العقد الاجتماعي، حيث لا تكفي العاطفة لتعويض قسوة اقتصاد اليوميّ وضغوطه.
تتوزع الشخصيات إذن على وظائف دلالية لا تُلغي فرديّتها، بل تمنحها دوراً في إنارة أطروحة النص. وهكذا يظل القارئ قادراً على التقاط الفروق الدقيقة في أصواتهم، داخل مشاهد قصيرة مُحكَمة البنية، يتجاور فيها الخاص بالعام، والفرديّ بالجمعيّ.
وترتكز وادي الفراشات على أربع دعائم رئيسية تمنحها فرادتها.
أولها اقتصاد المشهد؛ فالمقاطع القصيرة المكثّفة تصنع إيقاعاً متدافعاً يذكّر باللّهاث، مع فسحات للتأمل. ثانيها لغة السخرية، التي تأتي كأداة تفكّك اليأس بدل أن تضاعفه. ثالثها جهاز الذاكرة، إذ يتحوّل دفتر الأرواح من تفصيل جانبي إلى محرّك للحبكة وأطروحة أخلاقية حول الكرامة. أما الرابعة فهي بلاغة المكان: وادٍ بلا شواهد وسِدرة تتوسّط المشهد، لتؤسس جغرافيا بديلة تحفظ للمجهولين كرامتهم.
ومع هذا، تظهر بعض الثغرات ضمن هامش التجريب. أبرزها النزوع إلى الرمز المُفرط؛ إذ قد يطغى حضور الفراشة أو الدفتر على الحسّ القصصي، مهدداً بتحويل السرد إلى أطروحة فكرية أكثر من كونه مغامرة حكائية. وهناك أيضاً تقلّبات النبرة؛ فالانتقال السريع بين التهكّم والفاجعة يتطلب يقظة أسلوبية، وقد يتعثر الإيقاع في لحظات الاستطراد.
ومع ذلك، تبقى هذه الملاحظات محدودة ولا تنال من تماسك الرواية ولا من فرادة صوتها، بل تُعد جزءاً من رهاناتها على التجريب. وفي سياق السرد العربي المعاصر، تتجاور «وادي الفراشات» مع أعمال عراقية اشتبكت مع الذاكرة وأسئلة العدالة، لكنها تتفرّد بجرأتها في نقل إدارة الموت من يد المؤسّسة إلى يد الجماعة الأخلاقية المتخيَّلة. إنها رواية عن حقّ التسمية أكثر منها عن الأموات: من يُسمّي ومن يُمحى؟ ولهذا تظلّ عبارة درويش ــ سألتُ الفراشة… فاحترقت بالدموع ــ خلاصة شاعرية لبرنامج سردي كامل.
«وادي الفراشات» نصٌّ مُصاغٌ بعنايةٍ أسلوبية وضميرٍ أخلاقيّ حاضر. يوفّق بين متعة الحكاية وصرامة السؤال، ويقترحُ على الرواية العربية شكلاً من التوثيق الجماليّ يكتبُ به من حُذِفوا من السجلات، ويُعطيهم مكاناً في اللغة والقبر معاً. إنها روايةٌ تُقرأ على مستويين: حكايةُ رجلٍ ينقذ ذاته بإنقاذ غيره، وبيانٌ في معنى أن نكون جماعةً لا تُسلّم ذاكرتَها للاحتراق.
أزهر جرجيس: «وادي الفراشات»
الرافدين ـ بغداد ومسكيلياني ـ تونس، 2024
215 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب