«فرانكشتاين» لغييرمو ديل تورو: حكاية الوحش الذي صار مرآة للإنسانية

«فرانكشتاين» لغييرمو ديل تورو: حكاية الوحش الذي صار مرآة للإنسانية
نسرين سيد أحمد
كاتبة مصرية
فينيسيا – منذ بداياته مع «كرونوس» و»متاهة بان»، صاغ المخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو لغة سينمائية خاصة، تجمع بين القسوة والخيال، بين الرعب والرقة، في مزيج يتيح له دائماً أن يروي قصص المهمشين والمنبوذين. واليوم يعود في فيلمه الجديد «فرانكشتاين»، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الثانية والثمانين، ليقدّم قراءته الأكثر وفاءً لرواية ماري شيلي. يقف ديل تورو في الفيلم إلى جانب الوحش، متعاطفاً معه أكثر من تعاطفه مع الطبيب الذي أخرجه للوجود. يعيد ديل تورو الاعتبار إلى شخصية المخلوق، أو الوحش، الذي طالما وُظف في السينما بوصفه أداة للتخويف أو مادة للسخرية. هنا، يؤدي شخصية الوحش جاكوب إلوردي في أداء مرهف. يتحرك إلوردي كما لو كان طفلا ضخماً يتعلم السير، ويشعر بالدهشة إزاء العالم وما فيه، ويود لو حصل على بعض الحب والحنان من ذلك الذي صنعه لمجرد إثبات قدراته العلمية والطبية.
المفارقة أن المخلوق يبدو أكثر إنسانية من صانعه فيكتور فرانكشتاين (أوسكار آيزاك)، العالم الذي يندفع وراء هوسه بإحياء الموتى مدفوعاً بعشق أم متوفاة يود لو كان بإمكانه إعادتها للحياة، ولإثبات تفوقه لأبيه الطبيب الشهير، الذي طالما قسى على فيكتور ولم يمنحه الحب قط.
لا يكتفي الفيلم بسرد الأحداث برؤية فيكتور فقط، بل يمنح الوحش صوتاً ويمكننا من رؤية الأمر من منظوره. نكتشف مأساته الأساسية: أنه خُلق بلا حب، وأنه تُرك بعد ذلك بلا حنان أو رعاية أو تفهم، وأنه وجه منذ لحظاته الأولى باحتقار صانعه له ونعته إياه بالغباء. هنا تتبدى عبقرية ديل تورو في تحويل الرعب إلى سؤال فلسفي عن معنى الوجود: ماذا يفعل كائن لم يطلب أن يُولد، لكنه يجد نفسه محكوماً بأن يعيش دون أن يتعهده من صنعه بالرعاية أو الفهم أو التعليم؟
الفيلم إنتاج ضخم لشبكة نتفليكس، ويباهي بميزانية ضخمة واهتمام كبير بالمؤثرات البصرية، ولكن تلك المؤثرات بدت أحيانا باردة باهتة، مثل الجليد الذي يكسو المشاهد الأولى من الفيلم. يبدو البناء القوطي الضخم، الذي يجري فيه الطبيب فيكتور فرانكنشتاين تجاربه ويبني فيه المختبر، الذي يشهد عودة الحياة إلى جسد المخلوق، كما لو كان كرتونيا ومخلقاً بالذكاء الاصطناعي. وتتبدى المؤثرات البصرية المصقولة، التي تفتقر إلى الإقناع في آن أيضاً في الأمواج المتلاطمة للبحر، وفي هجوم للذئاب على قطيع من الأغنام. على طريقة ديل تورو المعهودة، يتجاور الجمال مع الوحشية في اللقطة نفسها. نرى الوحش يمد يده برفق إلى غزال هارب، ثم نراه ينهار حين يُطلق عليه صياد النار بلا رحمة. تتكرر هذه الثنائيات: لمسة حنان تنقلب إلى مشهد دامٍ، جمال بصري يتصدّع بلمسة قاسية. إنها العلامة الأبرز في سينما ديل تورو، التي تستدعي في لحظة واحدة الدهشة والرعب معاً.
إلوردي يقدّم أداءً متماوجاً بين العاطفة والانكسار، وبين القوة الجسدية الهائلة والضعف الداخلي. يبدو لنا كأننا أمام كائن غريب أُلقي في عالم لا يملك لغته بعد.
اختار ديل تورو أن يلتزم بقدر كبير بالنص الأصلي لرواية ماري شيلي. يبدأ الفيلم في القطب الشمالي، مع سفينة عالقة في الجليد، حيث يظهر ظل الوحش مطارداً فيكتور بلا هوادة، محملاً بغضب لا يلين. ثم يعود السرد إلى الوراء، لنشهد رحلة فيكتور في أبحاثه، بدفع من عم زوجة شقيقه (كريستوف فالتز)، ذلك الرجل المريض بمرض عضال، ويود لو كانت تجارب فيكتور لإعادة الموتى للحياة سبيلا لتغلبه على مرضه. لكن هذا الوفاء للنص قد يكون سلاحاً ذا حدّين. فمن جهة، يحقق الفيلم ما لم تجرؤ عليه نسخ سابقة من الاقتراب من نبرة شيلي المظلمة. ومن جهة أخرى، يبدو وكأنه يتردد في اقتحام المناطق الأكثر غرابة وجموحاً التي عُرف بها ديل تورو. النتيجة عمل مصقول بصرياً لكنه يفتقر أحياناً إلى المغامرة والمجازفة التي ترفع السينما من مجرد إعادة سرد إلى مغامرة حقيقية. ورغم كل هذه الملاحظات، يظل قلب الفيلم نابضاً في مكان آخر: في حكاية الكائن الذي لم يختر أن يولد، والذي يبحث عن معنى وجوده في عالم يرفضه. يتساءل: هل نحن جميعاً، بطريقة أو بأخرى، وحوش صُنعت بلا طلب، نحاول أن نجد لحياتنا معنى وسط الفقد والخذلان؟ بهذا المعنى، لا يقدّم ديل تورو وحشاً، بل مرآة للوجود الإنساني. قد لا يكون «فرانكشتاين» الفيلم الأكثر جرأة وتأثيراً في مسيرة ديل تورو، ولكنه بلا شك أحد أكثرها صدقاً وإخلاصاً لروح الحكاية الأصلية.
في النهاية، قد نجد أن ديل تورو لم يقدم المفاجآت التي ينتظرها البعض، لكنه يقدّم ما هو أثمن: إعادة قراءة لنص تأسيسي في الثقافة الإنسانية، بمنظور يوازن بين القسوة والرأفة، وكأنّه يقول إن السينما، مثل الوحش نفسه، قد تولد من أجزاء مبعثرة، لكنها حين تُمنح روحاً، تصبح كائناً حيّاً يتنفس بين أيدينا.
«القدس العربي»: