ثقافة وفنون

عبده وازن: «الحياة ليست رواية»… بل مهنة القراءة

عبده وازن: «الحياة ليست رواية»… بل مهنة القراءة

حسن داوود

على صفحته الخلفية يجمع الكتاب بين روائيين جرى ذكرهم، أو ذكر كتبهم، في جغرافياه الواسعة. لا صلة تربط بين أعمالهم، بالمعني التصنيفي أو النقدي. فالراوي، الملتبس بالكاتب عبده وازن، التباسا مستمرا طوال فصول الكتاب، لا يتوقّف عن التعريف بنفسه قارئا، ليس ناقدا ولا باحثا، بل قارئا فحسب. وقارئ روايات على الخصوص. القراءة مهنته، رغم اختصاص العبارة بتحديد الهوية العملية للشخص المعرّّف، وتساؤلنا المستمرّ، ونحن نقرأ صفحات الكتاب، كيف يمكن للقراءة، مجرّد القراءة، أن توصف بأنها مهنة.
أما بطل عبده وازن فالتزم بكل ما يجعله ممتهنا الكتابة، هو غير ملتزم بعمل مثلا، كما إنه غير منشغل بشؤون العيش على نحو ما هم المنخرطون في المهن.. ولا التزام منه تجاه أحد أو جهة، لديه كل الوقت ليقرأ، وهذا ما يتبدّى في الكتاب الذي قاربت صفحاته الثلاثمئة صفحة متصلة بلا فصول ولا مساحات بيضاء، بل كتابة متتابعة وبلا فراغات.
لقد قرأ الراوي الروايات كلها، رغم استحالة أن يُقال ذلك، في حين أن ما يصدر في فرنسا وحدها لا يقلّ عن خمسمئة رواية في السنة الواحدة، كما يذكر الكاتب القارئ بتلك اللغة. لكن ما لم يفوَّت شيء منه هو التراث الروائي، الذي يحرص الكتاب على تعيين بداياته الأولى. كلّ من بقيت رواياتهم حيّة، أو بقي حيّا أثر منها، استحضره الراوي إلى ذاكرته معرّفا به وواصفا شيئا مما تركه فيه. إنسكلوبيديا روائية حرصت على ألا تغفل أثرا يجب أن يكون حاضرا. كما أنها لم تلحق الظلم بكتاب أو كاتب، فمع بقاء كتبهم مع مرور الزمن، استحقوا جميعا أن يحظوا بإعجاب ثريّ اللغة، وإن جرى تخصيص الكبار مثل دوستويفسكي وسرفانتس وكافكا وملفيل وغيرهم. على الجميع إذن حقّ الحضور، وإذ بدا أن توارد التذكّر تجاوز أثراً ما، فإن العودة إليه ممكنة مع فتح المجال كي تحضر الروايات في أبواب منها مثلا: الروايات غير المكتملة، أو روايات الكتأب المنتحرين، أو الروايات التي نشرت بعد رحيل كتّابها، إلخ.
وعلى غرار ما قرأنا لخورخي لوي بورخيس وألبرتو مانغويل وأمبرتو إيكو ولآخرين عاشقين للقراءة، لن يقتصر ما في الكتاب على الكتب، بل على المكتبة التي ملأت غرفا في المنزل الذاهبة مساحته، لا بدّ، إلى مزيد من الامتلاء. ثم على طقوس القراءة، ثم أوصاف الكتب المتعلقة بنوع ورقها ورائحتها وملمسها. ولنضف إلى ذلك نوع الحياة التي يلتزمها ممتهن القراءة. هو رجل صامت، قليل الانفعال الظاهري، يميل إلى أن يكون بلا تورط من أي نوع، ولا تعلُّق بما سبق من حياته. لم يذكر «القارئ» شيئا عمن سبق له أن عشقهن أو عرفهن. فقط الكتب، موضوع الرواية وفضاؤها المتابَع حتى آخر حالة أو فكرة يمكن أن تتأتى من الكتب والكتابة.
ومما يلحق بعالم الكتب هو قبول الحياة مؤجلّة، أو معاشة قليلا، أو الرضى بحصة من أعطياتها الصعبة القسمة غالبا. امرأتان في حياة محترِف القراءة، بعد أن نضرب صفحا عن السابقات اللواتي لم يذكرهن الكتاب إلا جملةً. جوسلين التي رافقت معظم أحداث الرواية، وكذلك ما تردّد من استرجاعات لتلك الأحداث، ثم الشابة رنا التي أبقاها حضور جوسلين المهيمن خارج التكوين البنائي للرواية، بل اقتصر حضورها على القول باستمرار الحياة كيفما كانت، كما على اختتام الرواية.
جوسلين القادمة إلى بيروت، بلد أبيها، فتنت بطل الرواية القارئ وكان عليه أن يبقى إلى بجانبها، لكن مدركا أن افتتانها بصديقه من أيام الطفولة، جوزف لم يُبق له إلا التعلّق الصامت. هكذا سيعيش الثلاثي حياة واحدة قسمت بينهما جوسلين واحدا للعشق وواحدا للصداقة، التي ليست أعمق غورا من العشق نفسه. لم يتوقّف الراوي، المتذكّر، عن الرجوع إليها حتى بعد سفرها إلى فرنسا عقب صدمة حبيبها جوزف وموته. ذلك الموت كان الحادثة التي تكاد تكون وحيدة في الرواية، والتي رغم ذلك لم تكسر استرسال الرواية ولا حطّت من ثيمتها الأساس، التي هي القراءة. المهم في ذلك الجانب، الأكثر دراماتيكية، حسب المفترض، أنه أبقى المأساة في نطاق الرواية، وإلا كيف يمكن أن تظلّ الروايات قادرة على الحضور بعد تلقّيها تلك الصدمة.
حياة الثلاثي واشتراك أفراده في تلك الحياة الواحدة، بلا حسد يضمره أحد تجاه آخر، ولا انزياح في المشاعر قد يهدّد طمأنينة العلاقة بينهم، وذلك استمر إلى ما بعد رحيل جوزيف، العشيق والمعشوق. من جانب آخر لعلاقة الثلاثي هناك القراءة التي جمعت بين جوسلين والراوي، وكذلك جوزف الذي لم يكن توصيفة الشخصي يوحي بذلك. كان من بقيا حيين يسترجعان أوقات القراءة وهما بصحبة ثالثهما الميت، بل إنهما وهو مسجّى في غيبوبته، كانا يقرآن ساعات له، ظانّين أنه لا بدّ يسمع، أو يحسّ بما يسمع. لولا مشاهد مثل هذه كيف يمكن أن يجتمع العالَمان الشديدا الحضور في بنية سرد واحدة.
رواية عبده وازن «الحياة ليست رواية» صدرت عن دار المتوسط في 294 صفحة- سنة 2025.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب