من «التحالف التقدّمي ضد اللوبي الإسرائيلي» إلى بلاتنر… تحولات الرأي العام الأمريكي تجاه فلسطين
من «التحالف التقدّمي ضد اللوبي الإسرائيلي» إلى بلاتنر… تحولات الرأي العام الأمريكي تجاه فلسطين
رائد صالحة
واشنطن ـ: تشهد الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة تصاعدًا لافتًا في الحراك الشعبي والسياسي المناهض لنفوذ اللوبي الإسرائيلي، في وقت يزداد فيه الغضب من الحرب الإسرائيلية على غزة وما تُخلّفه من آلاف الضحايا المدنيين. فلم يعد الخطاب التقليدي الذي يقدّم دعمًا غير مشروط لإسرائيل يتماشى مع المزاج الشعبي المتغيّر داخل الحزب الديمقراطي، وهو ما انعكس في بروز تحالفات جديدة ونبرات سياسية جريئة تعكس صدى الرأي العام الأمريكي المتعاطف بشكل أكبر مع القضية الفلسطينية. وفي مقدمة هذه التحرّكات، يظهر التحالف التقدّمي لمعارضة نفوذ «AIPAC»، وهو ائتلاف يضمّ أكثر من عشرين منظمة يسارية وشعبية، يسعى لمواجهة نفوذ لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية «AIPAC»، التي تحوّلت إلى لاعب رئيسي في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
ويؤكد التحالف أن الديمقراطية الأمريكية تتعرّض لاختطاف ممنهج عبر المال السياسي الذي يضخّه اللوبي وحلفاؤه، بهدف إقصاء النواب التقدّميين الداعمين للحقوق الفلسطينية. ومن هنا يركز التحالف على فضح النفوذ المالي والدعوة إلى تعهد علني من المرشحين بعدم قبول أي دعم من «AIPAC»، محاولة بذلك إعادة الاعتبار إلى إرادة الناخب بعيدًا عن تأثير المال الخارجي.
وتنوعت النشاطات الأخيرة للتحالف بين حملات إعلامية ورقمية لتوعية الناخبين بحجم الأموال المستخدمة لإسكات الأصوات التقدّمية، وبين مبادرات لدعم المرشحين الذين يتعرّضون لضغوط انتخابية بسبب مواقفهم المناصرة للفلسطينيين. ورغم محدودية إمكاناته المالية أمام مليارات الدولارات التي يحرّكها اللوبي، تمكّن التحالف من ترسيخ وجوده كصوت جماهيري يعكس التحولات العميقة في الرأي العام الأمريكي، ويُبرز الدور المتنامي للقاعدة الديمقراطية في الضغط على صنّاع القرار الأمريكيين لتغيير السياسات التقليدية تجاه إسرائيل.
هذه التحولات لم تقف عند حدود الحراك الشعبي فحسب، بل وجدت صداها في الخطابات السياسية الجريئة، أبرزها خطاب المرشح الديمقراطي غراهام بلاتنر في ولاية ماين خلال عيد العمّال في بورتلاند. فقد تلقى بلاتنر، المحارب القديم والمزارع الذي يسعى للإطاحة بالسيناتور الجمهوري سوزان كولينز، أكبر موجة تصفيق عندما هاجم استخدام أموال دافعي الضرائب الأمريكيين لتمويل ما وصفه بالإبادة الجماعية في غزة، مؤكّدًا أن هذه الأموال يجب أن تُستثمر في بناء المدارس والمستشفيات داخل الولايات المتحدة. وأضاف بلهجة حاسمة: «لا دولار واحدًا آخر للإبادة الجماعية». كما سمّى «الأوليغارشية» عدوًا للشعب الأمريكي في إشارة إلى تحالف المال والنفوذ السياسي الذي يدعم استمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل.
في الوقت نفسه، وسّعت حركة الاحتجاجات الشعبية من نطاقها لتشمل المطالبة بالإفراج عن الناشط العسكري السابق زاهد شودري، المحتجز حاليًا من قبل سلطات الهجرة الأمريكية منذ جلسة تجنيسه الأخيرة. شودري، الذي خدم في الجيش الأمريكي بين عامي 2001 و2005 وأصيب بإعاقات دائمة، أصبح محور حراك شعبي واسع في مدينة تاكوما بولاية واشنطن، حيث احتشد المئات أمام مركز الاحتجاز تنديدًا باعتقاله، معتبرين ذلك استهدافًا سياسيًا بسبب مواقفه المناهضة للحروب ودعمه العلني للقضية الفلسطينية. ووصفت زوجته ميليسا ظروف احتجازه بـ«القاسية وغير الإنسانية»، مطالبة بالإفراج عنه بكفالة.
وفي مشهد آخر من الحراك، نظمت شبكة الجالية الفلسطينية الأمريكية «USPCN» وقفة احتجاجية أمام منزل عضو الكونغرس الديمقراطي شون كاستن في ضاحية داونرز غروف بولاية إلينوي، احتجاجًا على دعمه المستمر لإسرائيل، رغم أن دائرته تضمّ أكبر جالية فلسطينية في البلاد. وقرع المحتجون الأواني رمزًا لتجويع غزة، ورددوا هتافات مثل: «غزة تتضوّر جوعًا، وأمريكا تدفع الثمن!»، مطالبين كاستن بالتوقيع على مشروع قانون حظر القنابل «Block the Bombs Act» لوقف تسليح إسرائيل.
وأكد نيك سوس، أحد منظمي التظاهرة، أن «كاستن يعتقد أنه يستطيع إلغاء لقاءاته لتجنب مواجهة ناخبيه الفلسطينيين، لذلك جئنا إلى منزله. لن نسمح له بتناول عشاء هادئ بينما يموت أطفال غزة جوعًا بأموال ضرائبنا.»
ويعكس الالتقاء بين نشاط التحالف التقدّمي لمعارضة نفوذ «AIPAC»، وخطابات بلاتنر، إلى جانب الحراك الشعبي المناصر لحقوق الفلسطينيين، مرحلة جديدة من الوعي السياسي في الولايات المتحدة. فالمزاج الشعبي لم يعد متسقًا مع خطاب المؤسسة الحزبية التقليدية، بل يميل إلى مواقف تضع حدًا للدعم العسكري والمالي لإسرائيل، وتربط بين استنزاف الموارد الأمريكية في الخارج وبين تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الداخل.
ومع كل ذلك، يستمر اللوبي الإسرائيلي في الدفاع عن موقعه عبر ضخ أموال طائلة في السباق الانتخابي، بينما تكشف التحولات الأخيرة أن القاعدة الشعبية الديمقراطية لم تعد تقبل بذلك، وأن الأصوات التقدّمية باتت أكثر جرأة في تحدي السردية الرسمية.
ويوضح هذا الحراك، الذي يجمع بين المطالبة بالإفراج عن زاهد شودري وإنهاء الدعم الأمريكي لإسرائيل، تصاعد الغضب الشعبي من سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب، ومن تواطؤ المؤسسات الرسمية مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب ما يعتبره نشطاء «قمعًا» يستهدف الأصوات المؤيدة لفلسطين. كما يعكس تحوّل معركة غزة من قضية خارجية إلى اختبار أخلاقي وسياسي داخلي يعيد رسم ملامح العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، ويفتح الباب أمام ولادة خطاب سياسي أمريكي جديد أكثر انسجامًا مع قيم العدالة وحقوق الإنسان.
ومع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، يزداد وضوح أن صراع النفوذ السياسي والمالي المتمثل بـ«AIPAC»، وحلفائه، مقابل الحراك الشعبي والسياسي المناهض للغطرسة الإسرائيلية، ليس مجرد صراع على الانتخابات، بل مواجهة بين قوى ترى أن السياسة الخارجية الأمريكية يجب أن تُقيَّم على ضوء القيم الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الأمريكي، وأخرى تحاول الحفاظ على الدعم التقليدي لإسرائيل مهما كانت التكاليف الإنسانية والسياسية.
«القدس العربي»




