ثقافة وفنونمقالات

أشياء غريبة تحدث في الخارج  بقلم زياد خدّاش-فلسطين-

بقلم زياد خدّاش-فلسطين-

أشياء غريبة تحدث في الخارج

 بقلم زياد خدّاش-فلسطين-

2024-01-16

عمري شهران، هذا ما يدّعيه من يكتبني الآن، لا اسم أو مهنة لي، لا أعرف أي شيء، لا معلومات أو موقف لي من أي شيء، ولولا هذا المعلم والكاتب الذي يسمونه في المدارس (آينشتان) بسبب فوضى شعره لا لعبقريته، لما نطقت أصلاً، فهو يحتاجني الآن لأكون بطلاً بلا اسم في عموده الأسبوعي في جريدة اسمها الأيام، أنا بلا لغة، ولا أعرف حتى اسم هذه التي أعيش الآن في رحمها، العالم خارج رحم السيدة غير مفهوم، أصوات صراخ بشري مرعبة أسمعها، دون أن أميز أصحابها، ثمة صوت يأتي من السماء عنيفاً وخاطفاً، بعده مباشرة أسمع صراخ نساء وأطفال وبكاء رجال، وتحطم جدران، وانهيار سقوف، وبعد ثوان تغيب الأصوات تماماً أو تخفت، ثم تأتي بعدها أصوات رجال يخرجون أشخاصا آخرين من تحت الحطام، وأحياناً لا يأتي أحد، فيبقى الصمت رهيباً، لكني لم أر ما يجري ولم أشم أية روائح، قلت لكاتبي: امنحني من فضلك القدرة على الرؤية وقليلاً من الشم، من خلال هذه الحاسة ربما أستطيع أن أفهم، سأمنحك نصف دقيقة فقط، اتفقنا، قلت له، ثم هجمَت على عيني وأنفي طاقة شم وإبصار عجيبة، ثم رأيت ما لا أفهمه: أجساد تحت الأنقاض مغطاة بالأتربة، بعضها يتحرك بصعوبة، والأخرى هامدة، وأشياء مبعثرة: ملابس، وألعاب أطفال، ومعلبات وأكياس طحين وزجاجات حليب، وطعام وأوانٍ، وكتب وأبواب، وزجاج متناثر، وكراسي بلاستيكية وأرائك، وسجاجيد، ثم شممت رائحة حلوة ولطيفة لكني لم أعرفها: ما هذه الرائحة اللطيفة والحلوة يا كاتبي؟ إنها رائحة يدَي السيدة.
أنا جائع يا كاتبي، وهذا لم يكن يحدث قبل شهر مثلاً، ما الذي يجري: ببساطة لا طعام في البيوت، وهذا سينعكس عليك بالتأكيد، فما تأكله السيدة قليل، لكنها تبذل جهداً خارقاً، لتحصل على طعام من هنا وهناك حفاظاً عليك.
سألت الشخص الذي يكتبني: ما هذا الذي يحدث خارج رحم السيدة ؟، ليس من المفروض أن تعرف، فأنت مجرد مشروع طفل قادم، يكفيك أن تحتار وتخاف وتتساءل. بعد أشهر ستخرج الى العالم، وتكبر، وتصير بإمكانك أن تسأل السيدة العظيمة عما حدث؟.
من مكان الى مكان، وبخطوات متراخية وأدعية لم أفهم معناها، تمشي السيدة التي تحملني في بطنها، أكاد أحس بها وهي تتأوّه، وتئن، وتبكي بصوت عال وتناشد الله أن يحمي عائلتها، ويحمي الذي ببطنها، هل تتحدث عني؟، لا أعرف من هي هذه السيدة الصبورة التي تتنقل من مكان الى آخر، ولماذا تحملني في بطنها بكل هذا الصبر والإصرار؟، ولماذا أنا مهم لها بهذه الدرجة، وأصوات مَن هذه التي حولها؟
هذه أصوات إخوتك وأخواتك، أجاب كاتبي، والى أين هي ذاهبة الآن، أسمع وقع حوافر أصوات أحصنة، وصوتاً في السماء مملاً جداً لا يتوقف، واسم شارع يتكرر شارع صلاح الدين، مقترناً بكلمة: الجنوب. استطعت بمعاونة كاتبي أن أستنتج أنه كلما سقطت الأشياء المرعبة من السماء تتحرك أمي بي من مكان لآخر، أكثر من مرة حدث هذا، من الذي يلاحق السيدة ويخيفها، التي يقول لي كاتبي إنها تسمى أمي.
لماذا لا تريني كل شيء وتمنحني العقل الكبير لأفهم، وأروي القصة بلساني، وترتاح أنت وتختفي خلفي، بدلاً من هذا الأسلوب الذي يعتمد على أسئلتي وأجوبتك، ما الذي ستخسره وأنت اللاعب الشرير في مصائر أبطالك، ولا تقل لي أن قدراتي محدودة كجنين، فأنت كاتب والكاتب يستطيع أن يتحكم بالعمر والوقت والأحداث؟. ولمَ أنت مستعجل على الفهم، أخاف عليك من هذا النوع من المعرفة، أجاب كاتبي.
استقر جسد السيدة التي تحملني في بطنها، بدأت أسمع كلمات تتكرر: رفح والنواصي، والحدود، والمعلبات والطحين والخيمة. وفجأة اختفى الكاتب الغريب، يا كاتبي أين أنت؟ اظهَرْ أرجوك، لديّ سؤالان فقط: لم أعد أشعر بصوت أو حركة أمي؟ أين أنا؟
لن أظهر له أبداً، سيكبر ويعرف الحقيقة، سيعرف أنه الآن خداج في مشفى صغير، وأنه الآن داخل الجحيم، وأن السيدة العظيمة المتحركة ساكنة الآن في مكان لن تعود منه أبداً.

الايام الفلسطينية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب