ثقافة وفنون

عندما يصيح ديك الصباح ليوقظ النيام-مجموعة قصصية للكاتب خالد بريش قراءة نبيل الزعبي

قراءة نبيل الزعبي

عندما يصيح ديك الصباح ليوقظ النيام-مجموعة قصصية للكاتب خالد بريش
 قراءة نبيل الزعبي
 في غلافٍ أنيقٍ متواضعٍ يحمل صورة ديك الصباح، الذي يُطلِق صرخة الفجر وسط المدينة الغافية، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، للكاتب والباحث اللبناني المقيم في باريس خالد بريش، كتابًا قصصيًا جديدًا يُضاف إلى كتبه الأدبية المُلتزمة، ويحمل ما بين ضفتيه ستًا وعشرين قصةً شيِّقةً من وحي الواقع العربي المؤلم. يُخال للقارئ في الوهلة الأولى أنها لِمُجرَّد التسلية ، وتقطيع الوقت وحَسْب، على غِرار الانشغال بالكلمات المُتقاطعة، لولا أن الكاتب جعل من عنوان « الإشارات والتنبيهات »لكتابه، تعبيرًا عن أحداثٍ مُعاشةٍ سجَّلتها العًيْنُ ومِرْآة الفكر، للأوضاع العامَّة للأُمَّة التي لم تعد خصبةً للقصص الفارغة، من دون ذات معنى أو قضية تخصُّ الإنسان العربي في المحيط الواسع، الذي صار لكل فردٍ فيه ما يملكه من تجربةٍ، وحكايةٍ، ومقاصد، لا يَكْنهُ دواخِلها سوى الضالعين في غياهِبِ المُعاناة اليومية، ودياجير الاسْتِلاب للإرادة الحُرَّة المُسْتقلة القائِمة على كلمة الحقِّ، التي تبقى الأقوى من جَبَروت الحاكم وصَوْلجانه…
على مدى مئةٍ وستين صفحة من الورق العادي المتوسط، يأخذنا الكاتب خالد بريش في مُواكبة قِصَصِه القصيرة المثيرة للانتباه، لِنقْطع معه بوادي وطرقات الظلم والألم،مُتنقلًا ما بين قصةٍ وأخرى في سردٍ هادئٍ تخاله هدوء البحر قبل أن تفجر موجاته عواصف الإنصات إلى دروس فلاسفة الزمان، وكل أوان، من دون أن يُخْفي تأثَّره بما كتبه الشيخ الرئيس ابن سينا وشرح نصير الدين الطوسي له، في توليفةٍ يمتزج فيها المُتخيَّل بالترميز، لتخرج على صورة الكاتب نفسه..
في قصته الأولى التي افتتح بها كتابه، المُعَنْونة بـ «خطبة جُمْعة »، تخاله يتحدث عن تلك الحالات الشاذة بكل شفافية وانسياب، وهو ينتقد التِّكْرار على ألْسِنَة فُقهاء السُّلطان، الذين يحدّثونَك اليوم عن كل شيءٍ،ويتناسون أن للأمة قضيةً مُقدَّسَةً اسمها « فلسطين ».. فتراه يصرخ متسائلًا: أين هو الكامل الأيوبي، ولماذا يُهمله هؤلاء، مُتجاهلين كل ما كتبه المؤرخون السابقون عنه، ليُؤكِّد أن التاريخ لن يرحم الخونة غدًا، ولن تبقى اتفاقية العار في كامب دافيد جاثمةً على صدور المؤمنين إلى الأبد .
وفي قصة « عتاب » يتمنى الكاتب، وفي ظل التحارب الداخلي بين أبناء القضية الواحدة، لو أنهم عندما يختلفون مع بعضهم البعض، ويتعاقبون أو يتخانقون، يتحولون إلى بُكْمٍ… !إنها هي الرمزية إياها عندما يتناول الكاتب بريش في أقصوصته « ذكريات مع زجاجة الكوكا كولا»، فتخاله يدعو إلى مُقاطعة هذه السِّلْعة « الإمبريالية »مع المقاطعين، لتُفاجأ بمهمةٍ أخرى لها، يستخدمها السجَّانُ في بلادنا، وهو يُجبِر مَسْجونَه على الجلوس على هذه الزجاجة الفارغة، فتخترقه من الأسفل قبل اختراق أفكاره،في محاولةٍ دنيئةٍ يراها الجلَّادُ لِقاحًا ضروريًّا لتكوين المَناعة، التي يُريدها ضد كل جراثيم الحرية، وحشرات الديمقراطية الطُّفيلية وأنْدِساسها في الأجْسام والعُقول…!
أما في أقصوصته « مصر التي في خاطري »، فإن الكاتب لم يزل يحنُّ إلى أم الدنيا، التي درس فيها، وعايش شعبها الطيب سنواتٍ وسنواتٍ، هذا الشعب الذي يُعبِّر عن حقيقته أحد الصَّعايْدة الشُّجْعان، وهو يتحدث إلى من جاءه مُزيّنًا له التطبيع مع العدو الصهيوني ذات يوم،فيُجيبه بعنفوانٍ:
– هل تظن أننا من البَهَوات بتوع التطبيع يللي باعوا الوطن ودم الشهداء، وقاعدين يطبلوا ويزمروا للصَّهاينة والأمْريكان…؟!
ولعمري إن ما تقدم يُمثل حقيقة الشعب المصري اليوم،وهو يرى غزة تُباد، وشعبها يداوي جراحه بالشهادة، وإن الصبح على شعب مصر العظيم بات قريبًا، بل وأقرب إليه من حبل الوَريد…
�أما في قصة « الديك »، يُكرر الكاتب من دون كللٍ أو مللٍ، نِداءات المؤمنين الباحثة عن ديكٍ فَحْلٍ أصيلٍيُ خاطب النِّيام مع كل فجرٍ وصباحٍ جديد: « هبُّوا من رقادكم، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل »،ليعود في قصة « استوى على العرش »، ليتناول أولئك اللاهثين على الحُكْم، ولو على أيدي كل من حمل التوراة،مُطَمْئِنًاً إياهم بالصُّعود المُريح، طالما ما بقي رضاهم على أدائهم و خدمتهم. وفي أقصوصته « عاش الزعيم »،يُصوِّر لنا المُواطن المقهور، الذي خرج يبحث عن بِضْع لُقيماتٍ، يسد بها جوع عياله، فلا يجد في طريقه سوى الزعيم، الذي يُذوِّدُه بكيسٍ كبير يحوي صورته العملاقة،وكتيّبًا بكل وُعوده الانتخابية المُكررة، التي لم تعد تُغْني من جوعٍ، ولا مجال بعد اليوم من التصدي لها.. مُتناولًا الشِّعْرَ، في أقصوصته « قراءة في ديوان شعر »، وما على الشعر أن يقوله في استنهاض هِمَم الشعوب، أما إذا كان غير ذلك، « فما أجبن الشِّعْر إن لم يركب الغضبا »…!
وعلى غرار ما تقدم، لا يَحيد المؤلف عن النصيحة والتنبيهات والانفعالات، وهو يتحدث عن « ريح يوسف الصِدّيق »، الذي تتصل روحه بأحد المَوْلويين أتباع جلال الدين الرومي، باحثًا في غيبوبة الفناء، عن لذة الوجد في عالم الأنوار والملكوت، لينقلنا بأسلوبٍ رُوحاني إلى ذلك اللاجئ الثمانيني، الذي رأى في جنة فلسطين المُغْتصبة ما رآه يعقوب وهو ينتظر عودة يوسف عليهما السلام، مهما بَعُدت المسافات وطال الانتظار.
على هذا المنوال يُتابع في سَرْده القصصي، فيكتب: عودٌ ميمون، وبداية طريق، وسفسطة، ومواعيد عربية، ووجهة نظر، ومُهمَّةٌ علميةٌ، وماكياج،وأبُوَّةٌ، ولقد حاربوه.. مُتناولًا الشؤون والشُّجون، وما لم يكن مُسْتغرباً على أي مُواطنٍ عربيٍّ في الوطن الكبير والمهاجر من مشقةٍ ومُعاناة. ليعود ويحط في إحداها في أقصوصته « هذا هو وطننا لبنان »، وما يُعانيه أبناؤه المُغتربين في الخارج، كمن يستقوي على الرَّمْضاءِ بالنار،بعد أن عَرَّج في قصة « ليس في الكتاب ذكر الله »،إلى آفَّة التخلُف، التي ينشرها تُجَّار الدين، وأعداء الفلسفة والحرية، ومُتناسي حديث النبي العربي عليه الصلاة والسلام: « الحكمة ضالّة المؤمن »، وكيف أن من بين المؤمنين اليوم من يُفضِّل الصمت، درءًا لنقاشٍ عقيمٍ مع جاهلٍ لا يعرف الكوع من البوع…
إنها لعمري خُلاصة ما توصل إليه الكاتب خالد بريش،الذي رهن حياته في صراعه مع الجهل والتخلف في هذه الأُمة، فلا ترى في كتاباته سوى المُصْلح العربي، والثائر،والمُتمرِّد على كلِّ القُيود، التي طُوِّقت بها الأُمَّة من خُزَعْبلاتٍ وتجْهيلٍ واسْتِلابٍ للإرادة الحُرَّة قبل اغتصاب الأرض والمُقدرات والخيرات والثمرات.. وما تعيشه غزَّةهاشم اليوم، وفلسطين المُغْتصبة، خير شاهدٍ على أن المصير العربي بات في قلب الخطر الوجودي… اليوم، وفي هذه المرحلة المصيرية الوجودية مع العدو الصُّهْيوني بالذات آن لدِيَكَة الصباح أن تصيح وتصرخ لإنقاذنا من غَفْوَتنا التي طالت: حيّ على الفلاح.. حيّ على الفلاح…
وختام القول، إن هذه المجموعة القصصية، كتابٌ شيّقٌ،مُخْتلفٌ لما يُشكله من تجربةٍ رائدةٍ في أدب القصة القصيرة، ومُعاناة المُعْتقلات، وضريبة الدَّم التي يدفعها كل عربيٍّ رافضٍ للفساد والتخلف، وبِسْطار الأنظمة وعيونها وعَسَسها، لا أنصح بقراءته وحسب، وإنما باقتنائه في مكتبة كل عربيٍ حرٍّ عنيدٍ صاحب رأيٍ وتعبير…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب