فقيد فلسطين إلياس خوري يترجل… وداعا صاحب الكلمة الحرة
رحل صباح أمس الأحد الكاتب والناقد اللبناني إلياس خوري (12 يوليو/تموز 1948 ــ 15 سبتمبر/أيلول 2024) ويُعد الكاتب الراحل أحد أهم كُتاب جريدة «القدس العربي» من خلال عموده الأسبوعي (هواء طلق). جاءت مواقف الرجل عبر كتاباته المتنوعة، من أدب ومقالات ومسرح وأعمال نقدية حكاية واحدة طويلة دارت حول أنسنة القضايا الكبرى، على رأسها القضية الفلسطينية، وكذا قضية الديمقراطية والحرية في العالم العربي، وهو ما تجلى واضحاً في موقفه من الربيع العربي.
هنا لمحة موجزة وإشارات لهذه المواقف والآراء من كتابات وحوارات الكاتب الراحل..
مسار مثقف ملتزم
كتب إلياس خوري في القصة والرواية والمسرح والنقد الأدبي، ودرّس في عدد من الجامعات العربية والأوروبية، وكان أستاذاً زائرا للأدب العربي الحديث والأدب المقارن في جامعة نيويورك عام 2006. استهواه العمل في المجال الإعلامي والصحافة الثقافية، فانضم إلى مجلة «مواقف» عام 1972، وأصبح عضوا في هيئة تحريرها، وخلال الفترة من 1975 إلى 1979 ترأس تحرير مجلة «شؤون فلسطينية» بالتعاون مع محمود درويش، وعمل محررا لسلسلة «ذكريات الشعب» الصادرة عن مؤسسة البحوث العربية في بيروت بين عامي 1980 و1985، وكان مدير تحرير مجلة «الكرمل» من 1981 إلى 1982، ومدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة «السفير» من 1983 إلى 1990، ورئيس تحرير الملحق الثقافي لصحيفة «النهار» من عام 1992 إلى عام 2009، ورئيس تحرير مجلة «الدراسات الفلسطينية» حتى أوان رحيله. وكان عموده في جريدة «القدس العربي» الذي دأب على تحريره منذ سنوات طويلة، ذا صيت كبير بين قرائه.
وفي جميع كتاباته كان الراحل مثقفا مهموما بما يجري في الوطن العربي، وملتزما بالدفاع عن قضاياه المصيرية، وفي طليعتها قضية فلسطين، التي التحم بها وآمن بعدالتها إيمانا صوفيا.
من أشهر أعماله في الرواية التي تميزت ببنائها المعقد، في ما هو يتناول الموضوعات السياسية والأسئلة الوجودية، نذكر رواية «باب الشمس»، التي أعادت سرد الحياة الملحمية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان منذ نزوحهم عام 1948، وقد أُنتجت كفيلم سينمائي يحمل العنوان نفسه للمخرج المصري يسري نصر الله عام 2002؛ ورواية «رحلة غاندي الصغير» التي تدور حول مهاجر ريفي يعيش في بيروت خلال أحداث الحرب الأهلية. تُرجمت مؤلفاته الأدبية والفكرية إلى أكثر من عشر لغات، وحاز جائزة اليونسكو للثقافة العربية لعام 2011 تقديرا للجهود التي بذلها في نشر الثقافة العربية والتعريف بها عبر العالم.
القضية الفلسطينية
نادر الحدوث أن يتعاطى المشهد الثقافي والأدبي الفلسطيني مع أديب عربي على أنه فلسطيني تماما، فهذا إجماع نادر استحقه الروائي اللبناني إلياس خوري. وبمجرد أن انتشر خبر رحيل إلياس خوري حفلت وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات التعزية، فيما نعت الجمعيات والمؤسسات الثقافية الراحل، وقدمته على أنه فلسطيني الهوية والهوى، إنه حالة نادرة من الرحيل، فرحيله يعني أن تفقد فلسطين واحداً من عشاقها وواحد من أبرز الأصوات وأنقاها وأجملها.
كانت القضية الفلسطينية هي شاغل الراحل من خلال كتاباته، سواء الإبداعية أو النقدية، وكذا مقالات الرأي، وكما يقول هو إن «القضية الفلسطينية بالنسبة لي هي قضية وطن بأكمله وليست قضية الفلسطينيين وحدهم». لذا حاول خوري صياغة تفاصيل هذه القضية من خلال استعادة الذاكرة وبالتبعية استعادة تأسيسها، وتعتبر روايته «باب الشمس» من أهم ما كُتب أدبياً عن فلسطين، ولكن ليس في صيغة نضالية مباشرة، وهو ما يضرب أغلب الكتابات التي تناولت حياة الفلسطينيين، فالأمر موقف إنساني في المقام الأول، أو كما يقول إلياس في أحد حواراته.. «أنا كاتب ملتزم بالمعنى الإنساني للكلمة. لم أكتب (باب الشمس) لأنني ملتزم فلسطينياً أبداً بل لأنني ملتزم بإنسانيتي. ومن لا يلتزم مع فلسطين، لا بد عنده مشكلة في إنسانيته وليس في عروبته. وحين ندرس النكبة، فباعتبارها لا تزال تحدث الآن».
فقيد فلسطين وابن قضيتها
على المستوى الفلسطيني الرسمي نعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» الراحل إلياس خوري في بيان رسمي قالت فيه إن خوري رحل بعد مسيرة نضالية طويلة كرسها من اجل فلسطين، وسخّر فيها قلمه وإبداعه ونشاطه لتوثيق السردية الفلسطينية وحماية الحق وإيصال الصوت الفلسطيني إلى كل مكان.
وجاء في البيان أن الحركة تسجل فخرها واعتزازها بهذه القامة الروائية وبما جسدته من إرث سيكون وثيقة لكل الأجيال السابقة واللاحقة ولسان حق فلسطيني بلغات الإنسانية المؤمنة بنضال شعبنا الفلسطيني وصولا للحرية والخلاص من الاحتلال.
وتحفظ الحركة لهذه القامة الروائية الوطنية تاريخ التصاقه بالقضية وكل ما قدمه لفلسطين من ترأسه لمجلة شؤون فلسطينية، وأداة للتحرير في جريدة الكرمل، وتحرير سلسلة ذكريات الشعب في مؤسسة البحوث العربية، وأصدره مجموعة من الروايات اللافتة والتي كان أبرزها «باب الشمس» قصة اللجوء الفلسطيني التي اعتبرت واحدة من ضمن أفضل 100 رواية عربية ترجمت لأكثر من عشرة لغات.
كذلك نعت شخصيات أدبية فلسطينية الراحل على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد كتب الأكاديمي والشاعر الفلسطيني عبد الرحيم الشيخ في رثاء صديقة خوري نصا مكثفا مليئا بالاستعارة والدلالات، حيث قال: «لم أتخذ بيرقا للقتال، ولا خاتما للرسائل، ولا رشوت الخلود، بالحناء والتوابيت. لم أرتجل خطبة قبل موتي. وحين حاربت، ولا حرب إن غاب العدو، لم أنتصر، في مديح الخسارة، ولم أنكسر. وقعت على سيفي، قبل أن أقرأ الملامة في عيون الشهود إذ ناصبوني العداء قبل أن يعرفونني: يا له من عاشق! يا لها من عاشقة! يا له من نزال! في الحب حرب، قلبان، جيشان، لا سحابة، ولا غابة، ولا انتظار للبرابرة، ولا للمغول. لا حل في الوهم، تجلسه إليك، ولا منّ في الوقت، تسقطه عليك، ولا خريطة.. فالورد أبيض، في الكف، صامت، والروح بيضاء، على ثقفة الرمح، تصرخ، الآن: لحظة، لحظة، لحظة… كي أزرع القلب وردة في جبال الجليل».
أصوات فلسطينية
أما الناقد والأكاديمي الفلسطيني عادل الأسطة فتذكر مع رحيل خوري، اليوم الذي رحل فيه عميد الأدب العربي طه حسين، كان ذلك في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 حيث قال: «لم يلتفت إلى خبر موته لانشغال الناس بالحرب ومتابعتهم لها، وفي حرب أكتوبر 2023 / 2024 يرحل علم كبير مهم من أعلام الرواية العربية نصير الحق الفلسطيني الروائي إلياس خوري. وتابع معلقا على عمل روائي بقي معلقا مع رحيله: «الرواية لم تكتمل.. كنا بانتظارها».
أما الشاعر الفلسطيني والأديب غسان زقطان فعلق على رحيل خوري قائلا: «سلّم من الندوب العميقة رحيل الأصدقاء.. إلياس خوري الراحل بكامل جماله.. وداعا».
وتابع معلقا على رحيله في ظل رحيل أخيه الأكبر قبل أيام: «أيقظتني من حزني وأخذتني الى حزني».
الكاتب والشاعر وسيم الكردي استحضر لقاءه الأول مع الراحل خوري في نص شاعري، حيث كتب على صفحته على الشبكة الاجتماعية قائلا: «التقيته مرة واحدة، في مسرح المدينة في بيروت، كانت الحياة تطل من بين يديه كأغصان متشابكة، ترسم الفضاء بنسغها. كانت تنبت من بين كلماته، نظراته، نبضاته.. وتطل على كل وقت. وتأخذنا معها إلى نصوصه قصصه وروايته.. ولكنها كانت تأخذنا أيضا إلى معنى أن يكون المرء إنسانا ذا رؤية وخطوة وهوية.. في حياته حياة وفي موته حياة، إنه إلياس خوري».
أما الروائي ربعي المدهون فقدم خوري بصفته الإنسان والروائي الذي أثرى الرواية الفلسطينية وأغنى السرد العربي. بدوره استحضر الباحث الفلسطيني عماد موسى مقطعا من رواية «باب الشمس» جاء فيه: «ترمي في حفرة جماعية. يغيب الناس لأن لا اسماء لهم، ويصبحون مجرد أرقام، هذا هو الرعب يا ابني، الرعب هو الرقم، لذلك حمل الناس صور الموتى والمفقودين، وجعلوها بديلا عن الأسماء».
وتابع: «قام خوري في تحفته «باب الشمس» بالتشمير عن ساعديه وخاض في عبء الذاكرة ورعب النسيان، وما كان لأحد من الكتاب العرب أن يكون بهذا القرب من ضمير أهل فلسطين. وما استطاع أحد عرباً أو فلسطينيين قبله من أنسنة النكبة وتجاوز جمود التاريخ». وأضاف موسى: «وُلد في عام النكبة، وغادرنا اليوم».
وكتب نور مصالحة الأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني الذي يقيم في بريطانيا، على صفحته على شبكة فيسبوك قائلا: «هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي يمكننا أن نقولها عن إلياس خوري، بما في ذلك حبه لفلسطين والتزامه بها». وتابع: «لكن هذا الشخص جسد أيضا أفضل ما لدينا في العالم العربي».
كثر أيضا تذكروا مقاطع معروفة من أعمال خوري الروائية ومن هؤلاء فنان الكاريكاتير الفلسطيني محمد سباعنة، الذي انتقى عبارة: «الإنسان يرث بلاده كما يرث لغته، لماذا نحن فقط من بين كل شعوب الأرض علينا أن نخترع وطننا كل يوم!». أما الروائي أكرم مسلم فوصف خوري بـ«الفدائي الحبيب والمُحبّ»
وتابع: «كم اتّسعتَ بفلسطين وكم اتّسَعتْ بك!».
وكتب المخرج المصري الذي يقيم في إسبانيا باسل رمسيس بعد ساعات على رحيل خوري قائلا: «جزء من الأهمية الشديدة لإلياس خوري.. ليس موقفه من فلسطين ومشروع التحرر فقط. هذا موقف ينبع من وعي وقناعات فكرية وسياسية. الجانب الذي لمع به إلياس خوري بشكل كبير أنه لم يكن من جماعة الاصطفاف الأعمى وراء أي جهة».
محمود درويش
ربطت إلياس خوري بالشاعر محمود درويش علاقة أدبية وفكرية وشخصية، فقد التقى الاثنان في بيروت وعملا معا في مركز الأبحاث الفلسطيني وفي مجلة «شؤون فلسطينية» ومجلة «الكرمل» وكتب خوري العديد من الدراسات حول أشعار درويش. هذه الأشعار الذي يستحضرها في رواياته، خاصة «أولاد الغيتو» بجزأيها تحضر تأويلات نقدية وآراء ظاهراتية فيها، من خلال شخصيات روائية يختفي إلياس وراءها، فما يرد على لسان الشخصيات الروائية يرد في دراسات إلياس ومقالاته. وبما أن الموضوع الفلسطيني هو موضوع «أولاد الغيتو» بجزأيها، وبما أن أحداث الرواية يجري قسمها الأكبر في فلسطين في الفترة التي عاصرها الشاعر، فإن حضور بعض تجاربه يحضر في الرواية، وأبرز تجربة وأكثرها شهرة هي علاقة الحب التي ربطته بالفتاة اليهودية التي كتب فيها القصائد. إنها ريتا، الدال الرمزي لفتيات يهوديات عرفهن الشاعر.
إدوارد سعيد
يرى إلياس خوري أن قارئ الأدبين الفلسطيني والإسرائيلي يجد تفوقاً أخلاقياً في الأدب الفلسطيني، وهذا هو الذي جعل إدوارد يقول: إن المثقفين الإسرائيليين هم مجرد مثقفي ضواحي. والعبارة أوردها إلياس في مقاله «إدوارد سعيد: المثقف اليهودي الأخير». وإذا كانت مقالات إلياس ومقابلاته لا تخلو من ذكر إدوارد، فإن رواياته أيضا لا تخلو من هذا الجانب، سواء على لسانه أو على لسان شخوصه. ففي رواية «باب الشمس» (1998) يرد اسم إدوارد سعيد على لسان بعض الشخصيات، حين يأتي السارد على استقباله كاترين الفرنسية، التي جاءت لتمثل نصاً مسرحياً كتبه جان جينيه، وتسأل هذا السارد: لماذا يكره الناس الفلسطينيين؟ يجيب: احترت ماذا أقول لها. أأخبرها عن تمزق الحرب الأهلية، أم أقول لها ما قالته نهيلة للضابط الإسرائيلي: نحن يهود اليهود. إن عبارة «الفلسطينيون هم يهود اليهود» عبارة كان إدوارد يعلمها لطلابه، ويقولها على مسامع أصدقائه. (عادل الأسطة، مقال بعنوان إلياس وإدوارد)
وفي حوار متخيّل كتبه خوري، إدوارد سعيد، يقول.. أعرف أن الأموات يستطيعون مخاطبتنا، لكننا لا نعرف كيف يستطيع الأحياء التحاور مع الموتى.. لم أكن اعتقد قبل ذلك أن للموت طعم الجريمة.
سؤالي هو عن نوع جديد من المنفى يسود اليوم في العالم العربي، ويحتاج إلى نقاش جديد، افتراضي هو أن مثقف المشرق العربي صار منفيا في وطنه. كيف أجرؤ على قول هذا وسط الربيع العربي، وبعد إسقاط النظامين الاستبداديين في مصر وتونس؟ هل قَدَرنا أن نختار بين شكلين من الاستبداد: العسكري والأصولي؟ أم هو خطؤنا نحن؟ هذا هو المنفى الجديد الذي نواجهه، وأنا متأكد من أنك تعرف معنى ما أقول. (من كلمته في الجامعة الأمريكية في بيروت، في الذكرى العاشرة لرحيل إدوارد سعيد).
المثقف بأل التعريف
كتب العديد من المثقفين المصريين والعرب في صفحاتهم على فيسبوك عدة عبارات في رحيل إلياس خوري ـ وإن كانت معظمها كليشيهات الوادع المعهودة، إلا أن منها المختلف قليلاً، نذكر منها ما كتبه الروائي المصري رؤوف مسعد. «من يترك إرثاً ثقافياً مهماً في الكتابات النقدية والروائية مثل إلياس خوري لا تغادرنا روحه الوثابة الخالقة المبدعة مع جسده الفاني».
وكتب الباحث الاجتماعي والكاتب عمار علي حسن.. «رحل عن دنيانا اليوم الأديب اللبناني إلياس خوري صاحب العطاء الغزير في عالم الثقافة، فهو الروائي والقاص والمسرحي والناقد والأكاديمي، الذي قام بتدريس الأدب العربي في جامعة نيويورك، والمحرر الثقافي الأول في صحيفة «النهار» لسنوات طويلة، ومع كل ذلك هو الإنسان الودود. غياب خوري خسارة كبيرة للثقافة العربية، وعزاؤنا أنه سيظل موجودا بما تركه من كتب أدبية متنوعة. رحمة الله عليه».
شهادات مغربية:
قال عبد الرحيم العلام رئيس اتحاد كتاب المغرب، «تلقينا بأسى وتأثر بالغين، خبر رحيل الروائي والناقد اللبناني الكبير إلياس خوري، رحمه الله، ما نعتبره خسارة كبرى للرواية والثقافة والصحافة العربية». وأضاف في تصريح لـ«القدس العربي» أن الراحل إلياس خوري «عُرف بكتاباته الروائية ودراساته النقدية العديدة والمضيئة والمؤثرة، فضلاً عن مسرحياته وسيناريوهاته ومقالاته الصحافية، عدا ما ظلّ يعرف به كاتبنا الكبير من نضال ومواقف ثابتة، في انحيازه التام إلى القضايا الوطنية والإنسانية العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بحيث تجسد روايته المتميزة «باب الشمس» على سبيل المثال، معاناة الشعب الفلسطيني وهو يناضل من أجل حقه في العودة والحرية». وأوضح أن الفقيد كان، عبر كتاباته الروائية خصوصا، صديقا للمغرب الثقافي والجامعي، عبر كل ما حظيت به رواياته من اهتمام وأبحاث نقدية وجامعية، من لدن أجيال مختلفة من النقاد والباحثين المغاربة». وقال إن «اتحاد كتاب المغرب إذ ينعى روائيّنا العربي الكبير، يعتبر أن رحيله المأسوف عليه، سيشكل مناسبة لإعادة نشر أعماله وترجمتها وتجديد قراءتها، خاصة أن موضوعاتها تبقى ذات راهنية متجددة».
وجاء في شهادة الأديب والناقد أحمد بن شريف لـ«القدس العربي»: خبر حزين ذاك الذي وصلنا عن رحيل الروائي اللبناني الكبير إلياس الخوري، مبدع «باب الشمس» و«سينا لكول» و«أولاد الغيتو» وسواها من الأعمال السردية الرائعة.. رحل إلياس خوري وهو يحمل في شعوره الإنساني العميق ووجدانه الجرح الفلسطيني. وتابع أن إلياس خوري «كاتب مبدع اجتمع فيه ما تفرق في غيره، اجتمع فيه الإبداع التخييلي بجنسيه الروائي والقصصي، كما اجتمع فيه وعنده النقد الأدبي والكتابة المسرحية، فضلا عن عمله وانشغالاته الصحافية، حيث شغل مواقع المسؤولية في عدة منابر إعلامية عربية وفلسطينية، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: ترؤسه تحرير مجلة «شؤون فلسطينية» ومدير تحرير مجلة «الكرمل» ومدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة «السفير» اللبنانية».
وأكد أن إلياس خوري عُرف عنه غزارة إنتاجه وتنوع عطاءاته الأدبية والفكرية، حيث شملت مختلف المجالات الإنسانية، وحققت انتشارا عز نظيره، إذ ترجمت أعماله إلى اللغات الهولندية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والإيطالية والإسبانية وغيرها.. وأورد بن شريف شهادته كذلك: «أفاد إلياس خوري من تجربته في التدريس في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى غربية، إذ صقلت موهبته وأمدته بهوامش واسعة لمعرفة الآخر وكيفية تفكيره أساليب تفكيره ونظرته وتمثلاته للثقافة العربية الإسلامية، الأمر الذي يسمح لنا بالقول إن الراحل إلياس خوري مارس في كتاباته ونشاطه الثقافي تنظيرا لواقع عربي حزين، يعيش العديد من التناقضات القاتلة، إن على المستوى السياسي العام أو على المستوى الاجتماعي أو الثقافي».
وكتب الروائي والناقد المغربي أحمد المديني تدوينة على «فيسبوك» جاء فيها «يوم حزين للرواية العربية والأدباء العرب في لبنان وكل مكان، برحيل الكاتب الملتزم والروائي الفذ إلياس خوري، عزاؤنا واحد في هذا الفقد الجلل ولروحه السلام».
وكانت تربط الراحل علاقة قوية بالثقافة المغربية والمثقفين المغاربة، عبّر عنها في مقال نشره العام الماضي في صحيفة «القدس العربي» من باب التضامن مع المغرب إثر فاجعة زلزال «الحوز» حيث كتب «تذهب إلى المغرب لتتعلم دروس الأساتذة الكبار في زمننا: عبد الكبير الخطيبي الذي أخذنا إلى الخط العربي؛ محمد برّادة الذي نقل المشرق إلى المغرب، مثلما نقل المغرب إلى المشرق؛ محمد بنّيس الذي رسم الشعر المشرقي مغربياً؛ عبد الله العروي مفكّر النهضة الجديدة؛ عبد اللطيف اللعبي الشاعر الذي حوّل الفرنكوفونية إلى أحد أشكال اللغة العربية؛ فاطمة المرنيسي التي هي إحدى رائدات الدراسات النسائية؛ وطبعاً من دون أن ننسى جان جينيه وصديقته ليلى شهيد. وفي المغرب تعلّمنا أخيراً من عبد الفتّاح كيليطو كيف نقرأ التراث ونعيد قراءة ماضينا بحاضرنا، وحاضرنا انطلاقاً من ماضينا».
ويضيف «هذا المغرب الشاسع الجميل الذي تفوح منه روائح مطبخ زرياب التي حدّثنا عنها للمرة الأولى الكاتب السوري فاروق مردم بك، والتي هي روائح الحضارة والنكهة والعادات الجميلة، كلها تأتي من هناك، من أرض هي لنا أرضٌ نعود إليها لأننا لم نخرج منها يوماً، لأنها كانت ولا تزال بلاد الجمع بين العرب والبربر، بين التواريخ المتعددة لثقافتنا العربية ولحياتنا العربية».
شهادات الأصدقاء:
أنعي رفيق النضال وصديق العمر أخي إلياس خوري، غادرنا بعد 14 شهرا من العذابات والآلام قاومها بالكتابة من حلاوة الروح وبالأمل والصبر المكتوم. أبكيه مع نجلا وعبلة وطلال، وسائر أفراد عائلته ومع رفاقه ومحبّيه الكثر.
(فواز الطرابلسي)
رحل الفلسطيني الصميم، رحل إلياس خوري وبقيت روحه ترفرف فوق فلسطين التي عشقها وأخلص لها. نعزي لبنان وفلسطين والأدب برحيل قامة كبيرة مثل الروائي الكبير إلياس خوري.
(فاتنة الغرة)
المعروف أن إلياس خوري من الكتاب المنحازين للمقاومة الفلسطينية، ولم يتزحزح عن هذا، على الرغم من كل التحولات.
(إبراهيم خليل)
إلياس خوري، أيها الكاتب في عصره.
(نوري الجراح)
إلياس خوري روائي كبير ومهم أضاف الكثير للرواية العربية.
(أمير تاج السر)
خبر محزن، رحيل الروائي اللبناني الكبير إلياس خوري، الذي انحاز طوال حياته إلى القضايا العادلة في رواياته ومقالاته ودراساته. فقد مؤلم، في وقت يدعونا فيه إلى إعادة قراءة رواياته.
(علي المقري)
قد يكون إلياس خوري الروائي وكاتب المقال الفكري والسياسي تغلّب على إلياس خوري الناقد الأدبي. لكن، مع ذلك، تظلّ كتبه النقدية المعدودة «تجربة البحث عن أفق» (1974) «دراسات في نقد الشعر» (1979) «الذاكرة المفقودة» (1982) نصوصا ثمينة لإعادة قراءة تجارب الكتابة الأدبية العربية في مرحلة تاريخية مصطخبة، ممزّقة ومنشقّة. (إسماعيل أزيات)
كان أول ما قرأته لإلياس كتبه النقدية من «تجربة البحث عن أفق» إلى «الذاكرة المفقودة» وتشعر حتى في مقالاته النقدية أن المبدع فيه يتجلى في قراءاته للتجارب الأدبية، وأن المبدع أقوى من الناقد، لهذا تخلى عن ذلك المسار والتحم بالرواية متشابكا معها في أعمال تشعر بأن اللغة هي مدار اللعبة وسر قوتها في تشكيل عوالم روائية، وبقي الموضوع اللبناني والفلسطيني هو المهيمن على مختلف رواياته. (البشير مفتي)
اجتزتَ «باب الشمس» نحو «مجمع الأسرار» حيث تنكشف لـ«أولاد الغيتو» أخيراً «نجمة البحر» وحيث ترتقي «الوجوه البيضاء» معارج التي تبدو «كأنها نائمة» وصولاً إلى الأرض الكنعانية، التي منها استنبتّ معظم الشخوص الفلسطينية لأعمالك.
سيظل منقوشا في عمق ذاكرتي أنك كنت تواقا لنشر ترجمتي لرواية «المجرى الثابت» لعزيزنا الراحل إدمون عمران المالح حين كنت مشرفا على سلسلة «ذاكرة الشعوب» التي أطلقتها مؤسسة الأبحاث العربية، لولا أن ندرة الورق جراء أهوال الحرب الأهلية اللبنانية المشتعلة آنذاك حالت دون ذلك.
كما سيظل وهّاجاً في دواخلي تواصلُنا العميق ذات ندوة عربية في مكناس حين حضرنا معاً، في سياقها، الأمسية الشعرية التي ألقى خلالها الشاعر الراحل محمود درويش قصيدته الملحمية «مديح الظل العالي» وسألتك خلال الاستراحة: «أما تزال في بيروت؟» فأجبتني: «أجل» ثم أضفت باسماً: «نعني طبعا بيروت بفتح التاء لأنها ممنوعة من الصرف» فرددت عليك: «أنا أيضا لا أجرّها يا إلياس» فوضعت يدك على كتفي وقلت لي ضاحكا: «يا أخي جرّها الله يخلّيك أحسن ما يجرّوها الصهاينة». وداعاً إلياس. لقد علّمنا صديقنا عمران أن الكاتب لا يموت، بل فقط يعود إلى الليل المحروس بالكلمات الذي منه جاء. (محمد الشركَي)