كتب

المؤرخ الإيطالي إنزو ترافيرسو في «غزّة تواجه التاريخ»: انقلاب المفاهيم في ثنائية الجناة والضحايا

المؤرخ الإيطالي إنزو ترافيرسو في «غزّة تواجه التاريخ»: انقلاب المفاهيم في ثنائية الجناة والضحايا

نزار صالح

«قد ينتصر الأعداء على غزة (وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة قد يقطعون كل أشجارها)

قد يكسرون عظامها‏‏

قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها

وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم ولكنها

لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم‏‏

وستستمر في الانفجار‏‏

لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة..‏‏

وستستمر في الانفجار‏‏

لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة».

بهذه السطور من الشاعر الفلسطيني محمود درويش يقدّم المؤرخ الإيطالي إنزو ترافيرسو كتابه «غزّة تواجه التاريخ»، الذي صدر بالإيطالية أولاً ثم تُرجم إلى لغات عديدة، بينها الإنكليزية التي تعتمدها هذه المراجعة. والمؤلف غير غريب عن القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي عموماً، فقد صدرت له مؤلفات مثل «المسألة اليهودية والسجال الماركسي»، و«نهاية الحداثة اليهودية»، كما كانت مؤلفات أخرى قد عالجت مسائل العنف والفاشية والثورة، مثل «وجوه الفاشية الجديدة: الشعبوية واليمين المتطرف»، و«كآبة الصفّ اليساري: الماركسية، التاريخ، والذاكرة»، و«أصول العنف النازي».
وفي امتداح كتاب ترافيرسو الجديد عن غزّة، يكتب المؤرخ والأكاديمي الفلسطيني رشيد الخالدي: المؤلف «يقدّم ردّاً لاذعاً، بارع الارتباط بإجادته التاريخ اليهودي الأوروبي، وبالمباركة النشطة وشبه الإجماعية التي أبدتها النخب الغربية لحرب إسرائيل الإبادية ضدّ غزّة، وتسلّحهم غير النزيه بالعداء للسامية (وبالعداء للسامية الحقيقي لدى اليمين المتطرف في بعض الحالات) للهجوم على مناصري الحقوق الفلسطينية». فلسطيني آخر هو رجا شحادة، يقول التالي عن الكتاب: «في وجه المحاولة الكاسحة لتزييف الحقائق يأتي هذا التحليل الجلي ليشرح، بين أمور أخرى، سبب عجز الغرب وعزوفه عن وقف تسليح إسرائيل، وكيف تُستخدم ذاكرة الهولوكوست للدفاع عن إسرائيل، وكيف تنجح إسرائيل في طرح ذاتها كضحية بينما تمعن في تدمير غزّة تحت وابل من القنابل وما هو أدهى بكثير».
والكتاب يطرح جملة من الأسئلة المنهجية التي تستهدف تأطير حرب الإبادة خارج المقولات التقليدية، الاختزالية غالباً، التي شاعت في القراءات الغربية للحرب، والتي روّجت لها آلة الدعاية الإسرائيلية أساساً، وتلقفها الغرب على مستوى رسمي لدى الحكومات، وعلى مستويات سياسية وإعلامية وأكاديمية وثقافية في غالبية هيئات ومؤسسات المجتمع المدني. فهل تدمير غزّة ينحصر في الردّ على حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، يتساءل ترافيرسو، أم أنه أيضاً حصيلة سيرورة طويلة من الاقتلاع والتجريد؟ وهل يمتلك الفلسطينيون الحق في مقاومة الاحتلال؟ وهل الحديث عن الإبادة يندرج تلقائياً في العداء للسامية؟ تلك بعض الأسئلة التي تُمكّن ترافيرسو من التوغل عميقاً في جذور النوع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، عن طريق مساءلة التاريخ وتقديم تأويل نقدي بديل يقلب المنظور أحادي الجانب، الذي اعتاد عليه الغرب في قراءة ما يجري في غزّة.
ويتوقف ترافيرسو عند المقولة الشائعة في الغرب والقائلة بأنّ إسرائيل جزيرة ديمقراطية وسط محيط ظلامي، وحماس حركة تستلهم التعصب المتعطش للدماء، ليجادل في المقابل بأنّ تدمير غزّة يذكّر بـ«العصر الذهبي» للاستعمار، حين ارتكب الغرب سلسلة إبادات في آسيا وأفريقيا باسم المهمة التمدينية. ذلك لأنّ الافتراضات الجوهرية بقيت على حالها: الحضارة ضدّ البربرية، والتقدم ضدّ التعصب، وفي السياقات هذه تتعالى التصريحات حول حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، فلا يأتي أحد على ذكر حقّ الفلسطينيين في مقاومة عدوان عمره عقود.
ولكن حين تُشنّ حرب إبادية باسم محاربة العداء للسامية، فإنّ قيمنا الأخلاقية وأعرافنا السياسية هي التي تتلطخ، يعتبر ترافيرسو: فرضيات ضميرنا الأخلاقي ــ حيث التمييز بين المعتدي والمعتدى عليه، الجناة والضحايا ــ تصبح عرضة لخطر الانقلاب رأساً على عقب. صحيح أنّ ما جرى في 7 أكتوبر كان رهيباً، حسب ترافيرسو، ولكن ينبغي أن يُحلل أيضاً لا أن يُكتفى بإدانته، ويتوجب أن نقوم بذلك عن طريق استخدام كلّ الأدوات النقدية للبحث التاريخي. فإذا انتهت الحرب في غزّة إلى نكبة جديدة، فإنّ شرعية إسرائيل سوف تخضع للطعن بصفة دائمة، وفي هذه الحالة لن تفلح في إنقاذها الأسلحة الأمريكية، ولا وسائل الإعلام الغربية، ولا ذاكرة الهولوكوست المشوهة الفاضحة.
في الفصل الأول المعنون «جناة وضحايا»، يقيم ترافيرسو مجموعة مقارنات بين حرب الإبادة على قطاع غزة وقرائن في الماضي تضمنت فظائع قوى استعمارية غربية كبرى خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، ونظائرها التي ارتكبتها إسرائيل نفسها ضد قطاع غزّة تحديداً. الأرقام الأحدث عهداً تشهد بذاتها على جرائم الجيش الإسرائيلي، إذا بدأت من سنة 2008: 1400 قتيل فلسطيني؛ في 2012: 170؛ في 2014: 2200؛ وخلال تظاهرة سلمية لأهل غزّة، آذار (مارس) 2018: 189 قتيل، و6000 مصاب. وبغض النظر عن تعقيد السياقات التاريخية للإبادة، فإنها دائماً تنهض على ثنائية الجناة والضحايا، والمراقب/ المؤرّخ الذي سيكتب في المستقبل القريب، سوف يجد نفسه أمام انقلاب في المفاهيم بين طرفَيْ الثنائية، لأنّ الأدوار عُكست بما يجعل الجاني الإسرائيلي يزعم أنه الضحية أمام الفلسطيني، لا لأي اعتبار آخر سوى أنه سليل الهولوكوست.
وهذا رغم أنّ 7 أكتوبر لم يكن انفجاراً مفاجئاً بين الجاني والضحية، بل له سلالته المأساوية التي تضرب بجذورها إلى ابتداء الاقتلاع من الأرض واغتصابها وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين وتدمير البلدات والقرى، وتوطيد الاستيطان على الأنقاض، وممارسة التهجير والتطهير والترانسفير… لذلك فإنّ الفصل الثاني، الذي يحمل عنوان «الاستشراق»، يذهب أبعد في رصد جذور التاريخ الاستعماري السياسي والاجتماعي والثقافي للسلالة ذاتها التي لا يجوز إغفالها عند أي محاولة جادة ومنصفة لقراءة الحاضر والراهن. فالاستشراق في ناظر ترافيرسو لم يمت، بل هو على العكس يُغرق الأجواء، وافتراضاته الأساسية لم تتبدل بقدر ما أُعيد تأهيلها لترسيخ التناظرات الزائفة بين الحضارة والبربرية، وبين الاستنارة والظلمات. وكما لاحظ إدوارد سعيد في كتابه اللامع قبل 40 سنة، الغرب قادر على تعريف نفسه بالتعارض مع الآخَرية الجذرية فقط، أي مع إنسانية استعمارية غير بيضاء تُعدّ أقلّ قيمة وأدنى مكانة في الهرم. وحجيج جميع قادة الغرب إلى إسرائيل بعد 7 أكتوبر كانت لافتته الكبرى حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لأنها ربيبة الغرب وقيمه في مواجهة حماس التي يتوجب تصنيفها في قطب الآخر النقيض.
الفصل الثالث يتناول الاعتبارات العليا التي تعتمدها (أو بالأحرى تزيّف مضامينها) الدولة الغربية على سبيل تغطية تواطؤها مع الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، أو حتى مساندتها تحت أقنعة شتى، لعل الأبرز فيها ذريعة مكافحة العداء للسامية. ويشير ترافيرسو إلى أنّ بلدان الاتحاد الأوروبي تكرّم ذاكرة الهولوكوست بطرائق شعائرية أقرب إلى التديّن المدني، أو الدين الدنيوي، ولكن مع الحرص على إضافة مسحة ديمقراطية وحقوقية يُراد لها أن تجمّل المظهر. ولكنها خلال حرب الإبادة اتخذت تدريجياً صبغة الدفاع عن إسرائيل ومحاربة العداء للصهيونية، على نحو جعل هذا الموقف المندرج في ميادين حرية الرأي والتعبير مساوياً للعداء للسامية، يتوجب بالتالي ترقيته إلى مصافّ أمن الدولة. والمثال الأبرز هو موقف المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وخليفتها أولاف شولتس، وما شهدته ألمانيا من حملات صيد السحرة ضدّ المتعاطفين مع القضية الفلسطينية عموماً، وأهل غزّة خصوصاً.
وإلى جانب عقدة التكفير عن الذنب تجاه الماضي النازي والهولوكوست، والظهور بمظهر الدولة الأكثر تشدداً في أوروبا ضدّ معاداة السامية حتى إذا ظلّ المفهوم غائماً وفضفاضاً، فإنّ بعض أعضاء البرلمان الألماني ذهبوا إلى درجة المطالبة بتوقيع تعهد صريح بتأييد إسرائيل شرطاً لا غنى عنه لقبول طلبات الحصول على الجنسية. وفي حزيران (يونيو) 2024 جرى إقرار قانون جديد حول الجنسية، يجعل الاعتراف بدولة إسرائيل شرطاً لازماً لحيازة المواطنة. وهذه حالة ازدواجية جعلت المؤِرخ الإسرائيلي ــ الأمريكي أومير بارتوف، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة في جامعة براون الأمريكية، يتهم ألمانيا بوضع ذاته في موقع أخلاقي تضليلي بين تخفيف جرائمها الاستعمارية والنازية من جهة، وإنكار ذنب إسرائيل في حرب الإبادة وتجويع أهالي غزّة وتدمير عمران القطاع ومشافيه وجامعاته ومدارسه ومساجده وكنائسه.
في الفصل الرابع يتناول ترافيرسو أكاذيب إعلام غربي لا يشوّه الحقائق على سبيل مساندة إسرائيل في حرب الإبادة ضد المدنيين الفلسطينيين فقط، بل يعمد إلى توظيف بعض المعطيات الخاصة بعذابات اليهود خلال سنوات الهولوكوست لتأثيم الفلسطينيين عموماً، حيث يستوي المنتسبون إلى حركة حماس مع المدنيين غير الملتزمين بأي تنظيم، وبينهم النساء والأطفال. وترافيرسو يستذكر أقوال المؤرخ الفرنسي مارك بلوك، أحد مؤسسي مدرسة الحوليات الشهيرة، الذي شخّص العديد من أنساق تزوير الحقائق خلال أطوار الحروب خاصة، وأنّ «الإنسانية عجّت على الدوام بالأكاذيب والخرافات»، خاصة وأنّ الأكذوبة «تتغذى على ذاتها، وتتنامى حين تجد بيئة حاضنة لها». والتصديق على أكاذيب الجيش الإسرائيلي لم يقتصر على وسائل الإعلام الغربية المتعاطفة مع إسرائيل، بل تعداه إلى كبار مسؤولي أمريكا مثل الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، وسواهما من زعماء وساسة الاتحاد الأوروبي.
الفصل الخامس مخصص لمناقشة التوازي بين العداء للسامية والعداء للصهيونية، أو بالأحرى كيف جرى الدمج بين المفهومين وتسليحهما بطرائق تجعل الواحد منهما مترابطاً مع الثاني، وبحيث يصبح أي عداء للصهيونية بمثابة عداء آلي وتلقائي للسامية. التغيير، يجادل ترافيرسو، تمثّل أولاً في الإقلاع التدريجي عن الفهم القديم لمعاداة السامية، أي الذي كان ينطوي على العداء لليهود حصرياً، واستبداله بمضامين تجعله ينحصر في العداء للصهيونية أولاً، ثم العداء لدولة إسرائيل استطراداً، وهذا هو الجانب الأخطر في المعادلات التي جرة تسويقها خلال الأسابيع الأولى التي أعقبت 7 أكتوبر. هي بالتالي معاداة للسامية تستهدف تيارات مناهضة الحروب إجمالاً، وقد تمتدّ إلى القوى المعادية للتمييز العنصري وحقوق الأقليات، وهي في كل حال يتوجب أن تشمل الفلسطينيين، كل الفلسطينيين وليس حماس وحدها.
الفصول الثلاثة التالية تتناول التشويه المقصود للعلاقات بين العنف والإرهاب والمقاومة، وتتوقف عند الذاكرات المتقاطعة بين عذابات اليهود خلال سنوات الهولوكوست وعذابات الفلسطينيين على امتداد السنوات والعقود التي أعقبت زرع الكيان الصهيوني في فلسطين التاريخية قبل تاريخ 1948 وبعده. الفصل الثامن الختامي عقد له ترافيرسو عنوان «من النهر إلى البحر»، وفي فقراته ناقش الفكرة التي تثير حساسية بعض الإسرائيليين بينما يرحب بها بعضهم الآخر من منطلقات توسعية.
ويختم باستذكار مفكرين يهود أمثال غيرشوم شوليم وحنة أرندت ومارتن بوبر ممن رفضوا صهيونية تيودور هرتزل السياسية واعتبروا فكرة دولة عبرانية بمثابة خطأ تاريخي، ويشدد في السطور الأخيرة على هشاشة وضع إسرائيل وليس قوّتها المفرطة كما يلوح.

Enzo Traverso: «Gaza Faces History»
Translated by Willard Wood
Othe Press, New York 2024
128 pages.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب