
الجزائر: الشخص ومصير أمة
نور الدين ثنيو
كاتب جزائري
في هذا المقال عن مذكرات عمار الطالبي نؤكد حقيقة قَلَّما توفرت في غيرها من مناسَبَات الكتابة وهي، سرد الماضي على خلفية الاعتراف بما حصل فعلا، لا التنكر له أو إغفاله ولو نوعا من الإغفال، لأن لحظة استحضار مشاهد الماضي لحظة مفعمة بتوتر للانتقال إلى عالم آخر، الأمر الذي يدفع إلى البوح بكل الحقيقة، خاصة منها المُرَّة والمؤلمة، وتلك التي تتعلق بالمؤسسة لأن طبيعتها معقدة جدّا وتتطلب الوعي الكبير، من أجل تقدير النجاحات أو الإخفاقات التي تنجم عن تجربة كاملة ليس للشخص وحسب، بل للأمة قاطبة، بل للعالم كله لأننا نعيش فعلا وليس مجازا عصر العولمة الفائق.
عندما كان يكتب عمار الطالبي مذكراته، ويستند إلى خزانة بعيدة عنه، كان يسجل ذلك وكأن اللوح المحفوظ قريب منه، سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة، وفي هذا المقال والمقام يستوجب الكشف عن ما يستطيع الإنسان كشفه أو الإعانة على كشفه. ومن هنا، فاللاحق من تاريخ الشخص الذي يسجل حياته، هو ماض أيضا ويجب أن لا يُنْسَى، بل يدرج في الوعي الكامل، من أجل أن تأتي الكتابة مستخلصة كامل لحظاتها بأبعادها الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، الذي لم يعد في ذهن وحياة الكاتب مستقبلا.
كانت لعمار الطالبي مناسبة تاريخية مواتية لكي يرسي حضارة الإسلام الحديث والمعاصر في تاريخ الجزائر والعالم الإسلامي، والمناسبة التاريخية هي السعي إلى بناء إسلام حضاري بناء على تجربة انتصرت فيها الحركة الإصلاحية الجزائرية على النظم الطُّرقية والاستعمار الأوروبي في آن معا، ومن هنا تاريخية الإسلام في الزمن المعاصر، والمناسبة الحديثة والمعاصرة في حياة عمّار طالبي هي توَلَيِّه قيادة وإدارة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، بداية من عام 1984 إلى نهاية عام 1989، بعد عقدين على الاستقلال، والجامعة تساير المسجد الكبير في وحدة ينصهر فيها العلم والدين، وتستقطب أعظم شخصيتين في تاريخ العالم الإسلامي في الجزائر، هما شخصية الأمير عبد القادر الذي حارب الاستعمار وقاومه بحد السلاح، وشخصية عبد الحميد بن باديس مرسي الحركة الإصلاحية في مدينة قسنطينة. فقد كان هناك تساوق وتوافق بين شخصية عمّار الطالبي العلمية، ومؤسسة جامعية، تدشن لأول مرّة تاريخه ومساره، مع مؤسسة توفر له إمكانية الانتقال من الذات، أي الشخصية الطبيعية إلى تكوين وإرساء وفرض شخصية معنوية للأمة الجزائرية المستقلة، ليس عن الاستعمار فحسب، بل عن حالة تدَيَّن عاشت عليها لحقب زمنية بغيضة، كانت تحتاج فعلا إلى مؤسسة علمية وثقافية وبيداغوجية، فضلا عن مؤسسات أخرى من أجل الخروج من وهاد التخلف والتراجع الحضاري، على ما كان يسميه زميل وصديق المؤلف مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار.
وهذا ليس مصادرة ولو كانت نوعا من المصادرة على فكر وعقل صاحب المذكرات، بقدر ما أنها تجربة يجب أن تذُكر لِتذُكِّر به الأمة، لأن الدولة الحديثة والمعاصرة التي تطلعت إليها الحركة الإصلاحية في الجزائر ولدت مع الطموح إلى بناء المؤسسات المنَزَّهة عن القبيلة والعشيرة والزاوية والشيخ وأولاد الشيخ والمرابط وحاشيته.. فقد ظفر الكاتب بشرف البداية، لكن كم كانت خائبة النهاية عندما أبعد المدير، إثر إضراب شامل من الجامعة ومنها غادر الجزائر مع كل الحسرة والشعور بالضياع، ليس عليه وحسب، بل على الجزائر أيضا. وعليه، أو هكذا يجب أن ينظر إلى الماضي عند استرجاعه، فإن التأسيس واجتراح المهمات وتدشين الحقب والمراحل ليس كنهاياتها وخواتمها، لأن صاحب المذكرة لا يأتي فقط على المقدمات، بقدر ما يأتي أيضا على النهايات، لأن كل شيء يدخل في الزمن الذي مضى، ولم يمضِ على الذاكرة لأن عمار الطالبي عاش لحظات التأسيس والتكوين في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، كما عاش كل تاريخ جامعة العلوم الإسلامية إلى اليوم، أي ماضي ومستقبل الجامعة في وعاء زمني واحد لا ينفصل عند سرد وقائعه وأحداثه. ويمكن أن نذكر الاختلاف الكبير بين المقدمات والنهايات على النحو التالي:
لم تُرَتِّب تجربة التعليم العالي للعلوم الإسلامية السلطة الضرورية التي تعصمها من الانحراف، عن المهمة والإخفاق في ما أوكل إليها من الناحية الشرعية، أي الاستناد إلى المرسوم المؤسس لها عام 1984، ومن الناحية المشروعية، ونقصد تكريس حالة نموذج المؤسسة الدينية المرجع والمعيار للدولة الوطنية الحديثة والمعاصرة.. ولا نعتقد أن هذا تحقق، لأن عمار طالبي زُحْزِح عن إدارة الجامعة على إثر إضراب هائل نَظَّمه الطلبة.. ولم يكن يدري الجميع أنها مقدمة من جملة اعتبارات أخرى لما تُسْفر عنه الانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني 1992 التي أدْلى فيها الشعب الجزائري لأول مرة في تاريخه بصوته بكل ديمقراطية.
الربط هنا بين المؤسسة الجامعية وحياة الأمة والدولة ليس ربطا ميكانيكا ولا عضويا، بقدر ما أنه يؤكد ضرورة الحرص الشديد عند الخيارات الكبرى على الربط بين السلطة وما تقتضيه من شرعية ومن مشروعية. السلطة العلمية في مجال العلوم الإسلامية تقتضي الشخصية العلمية والفكرية المناسبة وإلا ضاع الطلب والمطلوب معا، وهذا ما وقع لحظة مغادرة عمار طالبي على ذلك النحو الخائب، بل مغادرته أرض الوطن إلى الدوحة بقلب ملؤه الحسرة والشعور بحالة ضياع مصير الجزائر. إن الرصيد من التعليم الجامعي للعلوم الشرعية لم يكن كافيا لبناء المؤسسة التاريخية والمرجعية من نظام المشيخة والوقار العلمي والمرجعية الدينية والانتظام التاريخي في تجربة الإسلام في الجزائر ونصيبها في حياة العالم المعاصر.. كل هذه الاعتبارات تعرضت للانتهاك وضاعت الجامعة في حسابات انتهازية وتقديرات وصولية وذهنيات أصولية وشعبوية تغذت من بعضها بعضا لتتمخض في نهاية المطاف وفي التحليل الأخير عن مؤسسة لا تحمل معناها، بل صارت مطية لمآرب حزب الإدارة المفلس، تجرّأ فعلا على اقتحام روح ونواة وحرمة جامعة العلوم الإسلامية وهو أعلى وأعظم ما يمكن أن يقترفه الإنسان حتى ولو هو تنكر لذلك.
كاتب وأكاديمي جزائري