ثقافة وفنون

نسوة في مظاهرة.. متى تحكم الجزائر امرأة؟

نسوة في مظاهرة.. متى تحكم الجزائر امرأة؟

سعيد خطيبي

قارب عددهن 12 ألف امرأة، وهنّ يتظاهرن في وسط الجزائر العاصمة، من بينهنّ نساء يخرجن لأول مرّة من بيوتهنّ، أخريات يخرجن لأول مرّة من الحيّ الذي يسكنّ فيه، وهنّ يرتدين أزياء تقليدية أو بنطلونات، وعندما قطعن شارعاً في وسط المدينة استغرق الأمر ساعتين كي يعبر الموكب، حسب واحد من الشهود. بينما الرجال على الأرصفة يتفرجون في ذهول. إنّها المرّة الأولى التي يجتمع فيها هذا العدد من النساء، منذ الاستقلال. خرجن استجابة إلى نداء من «الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات»، وكانت الشعارات، التي هتفن بها في البدء، تتعلّق بالتعاطف مع نساء أخريات من دول افريقية يسعين إلى التحرر، وفي منتصف الطّريق، تغيّرت الشعارات، وصارت دعوة إلى المساواة بين الجنسين، ومع التقدم في المظاهرة صارت الشعارات سياسية فحسب: «الرجال في المطبخ والنّساء في البرلمان»، هكذا قلن. ثم طالبن كذلك بحقّهن في المشاركة في الحكم، حلمن بأن تحكم البلاد امرأة.
ظنّ البعض أن المظاهرة سوف تنقضي، في غضون ساعة أو ساعتين، ويعدن إلى بيوتهنّ، لكنّهن واصلن المسير وترديد الشعارات، وسرعان ما تزايد عددهنّ، ما اضطر رئيس البلاد إلى التدخل. تخلّى عن التزاماته وقرّر أن يلتقي بهنّ، أن يصغي إليهنّ، أن يقلّل من حماستهنّ، مثلما فكّر. هذا ما حصل في الجزائر العاصمة، في 8 مارس/آذار 1965. وعندما وصلت النساء إلى قاعة سينما «ماجيستيك»، تفاجأن أن المكان ضيّق ولا يتّسع لهنّ. قمن بالتخلص من الكراسي كي يتاح لهنّ متسعا للجلوس والوقوف. ثم جاء الرئيس أحمد بن بلة، وقد ذهل هو كذلك بعددهنّ. استمع إليهنّ، تحادث معهنّ، ودام اللقاء إلى غاية التاسعة والنصف ليلاً. وخرجت النّسوة إلى الشارع، مرّة أخرى، أقمن حواجز في الطرقات، وكان يوماً حكمت فيه النساء عاصمة البلاد. في الصباح، حاولت الجرائد التقليل من شأن المظاهرة، وكتبوا أن مطالبهنّ إنّما تتعلّق بالتحرر، من غير إشارة إلى مطالبهنّ السياسية. وسادت مقولة في المجالس السياسية بين الرجال أن «من يودّ الحفاظ على منصبه، عليه أن يحفظ زوجته في البيت». انتهت تلك المظاهرة وصارت المرأة في الجزائر مرادفاً للوعي والرغبة في الانعتاق. ساد شعور بالأمل بين النّساء. لكن الأئمة انبروا لهنّ في المساجد وفي خطب الجمعة، ثم وقع انقلاب على أحمد بن بلة في السنة نفسها، فصارت مطالبهنّ في مهب الرّيح.
ولم ينقض سوى عقدين قبل أن تكسر أحلامهنّ. وجرى الانقلاب على مظاهرة 8 مارس 1965، عقب إقرار أوّل قانون للأسرة (1984)، وهو قانون يتعلّق بالأساس بحال النّساء، في البلاد، جعل منهنّ في تبعيّة للرّجال. لم تتحق لهنّ المساواة ولا الرغبة في المشاركة السياسية، بل انخفض سقف مطالب المرأة، صارت مشغولة بصراع طويل الأمد من أجل إعادة النّظر في قانون الأسرة.

قانون خلف الجدار
في صيف 1984، جرى التصويت على قانون الأسرة في الجزائر، وهو قانون جرى إقراره كمن يلعب الغميضة، أو من يصوّت على قانون من خلف جدار، خفيّة عن الأنظار. فالبرلمان كان يضمّ 282 نائباً، ولم تحضر جلسة التّصويت سوى امرأتين، فقد تزامن الموعد مع شهر رمضان آنذاك. كيف يعقل أن نصوّت على قانون يخصّ المرأة، بينما النساء غائبات؟ كما جرى تماطل في الإعلان عنه في الصحف، ومن النساء من لم يسمعن عنه إلا بعد أيّام، أو أسابيع. وكان قانونا مستمداً، في جلّه، من الشّريعة، يخدم الرجال بالدّرجة الأولى، لاسيما فيما يتعلّق بالولاية على المرأة قبل الزواج، وفي مسائل الطلاق أو حضانة الأطفال. بعدما كان سقف طموحات المرأة عالياً، عقب الاستقلال، وتطالب بحقّها في الممارسة السياسية، وجدت نفسها عقب هذا القانون في الصفّ الخلفي، محكوما عليها بمسايرة أهواء الرجال، بالخضوع والطاعة. ثم توالت سنوات، ولم يعد يشغل بال النساء في الجزائر سوى التحرر من هذا القانون، والتفكير في تغيير مواد منه. وطال الأمر إلى غاية 2005، حيث أدرجت تعديلات على القانون، لكن مواد أخرى تنتظر تعديلات أخرى، مثلما تطالب نسويات ومناضلات في الشؤون الحقوقية. هكذا إذن انحدرت حال النساء في البلاد، من تسيّد المشهد، في مساواة مع الرجل، إلى انحدار ولا رغبة لها سوى في الإفلات من القوانين، التي تضيّق حريتها، وتجعلها في مرتبة التابع لا الندّ مقابل الرجل.

كلّ عام، في يوم الثّامن مارس، نسمع خطابات تغمرها الحماسة، في الحديث عن حقوق المرأة وحقّها في المساواة، خطابات مستوردة من أزمنة غابرة، وتتكرّر كلّ مرّة مثل أسطونة مشروخة، نعيد التذكير بدورها في حرب التحرير أو في العشرية السّوداء، وفي اليوم التّالي تعود المياه إلى ما كانت عليه. تعود المرأة إلى خندقها. وهي تقاسي وطأة القانون من جهة، ومن جهة أخرى وطأة المعتقد والعادات الاجتماعية. لا نزال نسمع، من حين لآخر، عن العنف الممارس عليها، نسمع عن زيجات قسرية، عن انتهاك لحرياتها في مجتمع ذكوري بامتياز، لا يتوانى في بسط سطوته عليها، ولن يتوانى في تشييد حيطان قصد منعها من الخروج إلى العلن. فلا بدّ ألا ننخدع من الصّورة اللامعة التي نصادفها في الجزائر العاصمة، أو في المدن الكبرى الأخرى، والتي يتداولها الإعلام، بل من الضّروري أن ننظر إلى عمق الأشياء، إلى المرأة التي تعيش خلف الظلّ، بعيداً عن الكاميرات وعن مدن المركز، والتي تضغط عليها المعتقدات الاجتماعية أكثر مما يفعله بها القانون، والتي تعيش في انحياز إلى الصمت، لأنّ «صوتها عورة»، كما يقول البعض، امتثالاً إلى آراء المتديّنين، هذه المرأة التي كلّما تقدّمت خطوة إلى الأمام، عارضتها السلطة الاجتماعية وأعادتها إلى مربع البدايات، هذه المرأة التي تحلم بتكرار مظاهرة 8 مارس 1965، والتي تعرف أن ماضيها أفضل مما تعيشه في الزمن الحاضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب