ثقافة وفنون

المتدينون الجدد

المتدينون الجدد

د. ابتهال الخطيب

تقول بعض النظريات إن البشرية استبدلت بالمنظومة الدينية المؤسسية بصفتها منظومة تنظيمية تجمع البشر تحت أيديولوجية محددة تؤمّن ولاءهم وطاعتهم وتضمن استعدادهم لمخالفة كل الثوابت الإنسانية والفطرية عند الحاجة لذلك، منظومة دولية حديثة شكلت مفهوم الهوية الوطنية التي تتطلب بدورها درجة من الولاء والتضحية، حد التضحية بالحياة، مماثلة تماماً لما تتطلبه المنظومة الدينية في الماضي وفي بعض الحاضر كذلك.
فلطالما عمد المسيطرون من جنسنا على إيجاد المزيد من الطرق لتقسيم البشرية فوق انقساماتها «الطبيعية» حتى يسهل تحريكها والتحكم بها. وقد كانت المؤسسة الدينية، التي تختلف عن الدين ولكنها تتحكم به وتفرض تشكيله وتطبيقه، خير مؤسسة استبدادية تحكمية استطاع النافذون من خلالها السيطرة على البشر وتحريكهم واستغلال أموالهم وضمان طاعتهم حد التضحية بالحياة. ومع استقواء العلم وبروز الأسئلة الفلسفية المستحقة المصاحبة لهذا الاستقواء، بدأت المؤسسة الدينية بكل كهنتها تضعف، لتبدأ رحلة جديدة من تقسيم البشرية من خلال صنع حدود دولية وتعريف البشر جغرافياً وتثبيت فكرة الولاء لهذه الحدود حد الاعتداء على الآخرين لتوسعتها أو فقدان الحياة لحمايتها. بشكل تدريجي، حل الولاء للدولة محل الولاء للدين، واستبدل بشعار الموت من أجل الدين، الموت من أجل الوطن. وتبررت كل الممارسات بحجة مصلحة الوطن والمحافظة على بقائه تماماً كما تبررت الموبقات ذات زمن بحجة مصلحة الدين والمحافظة على بقائه.
بلا شك، الإخلاص لدين أو لوطن هو شعور أخلاقي حميد لا يمكن التخوف منه إلا إذا اتخذ شكلاً مؤسسياً يزرع في الإنسان ولاء أعمى غير عقلاني وغير منطقي، ولاء يبيح ارتكاب كل الشرور بحجة أن الغاية تبرر الوسيلة. نرى مثلاً نوعاً من هذا الولاء الوطني التعصبي الذي يتلازم دوماً ودرجة خطيرة من الفوقية والشعور بأفضلية «بشرية» تجاه الآخرين في المجتمع الأمريكي، هذا المجتمع الذي يزرع من خلال كافة مؤسساته، بما فيها الأكبر والأقوى وهي مؤسسة سينما هوليوود، شعوراً راسخاً عند الشخص الأمريكي ليس فقط بأفضليته البشرية وتفوقه الحضاري ولكن كذلك بأحقيته في توجيه العالم عسكرياً وإنقاذه من «الديكتاتورية» بقوة السلاح، مستخدماً مفهوم Manifest Destiny أو ما معناه القدر الملزِم الذي كان مفهوماً استخدمه الأمريكي الأبيض في البداية للسيطرة على كل أمريكا الشمالية بحجة أن تلك السيطرة ما هي إلا قدر الإلهي للإنسان الأبيض، ليتسع بعدها استخدام هذا المفهوم ليبرر لأمريكا السيطرة على العالم بأكلمه و«إنقاذه» من «ديكتاتورياته» ولو قسراً وبقوة السلاح.
نجد تجلي هذا المفهوم بوضوح في عنجهية ترامب وفانس، التي تخطت كل حدود المعقول أو المقبول، لتصل هذه العنجهية حد إعلانها على الملأ سياسياً مؤخراً إبان المقابلة المتلفزة مع زيلينسكي. أتصور أن المقابلة أصابت كل مشاهديها «الطبيعيين» بدرجة عالية من التقزز والقرف والغضب من هكذا تسلط وفوقية علنيين تخطيا كل حدود الوقاحة، معيدين للمشهد فكرة «القدر الأبيض الملزِم» الذي يفرشه ترامب في وجه أصدقائه قبل أعدائه، كما تفرش أوقح سليطة لسان ملايتها لمجادليها في خناقة شوارعية، أو كما يفرض أعتى فتوة شرسة على أهل حي غريب جباية لحماية هم لم يطلبوها. هذا هو عصر التفاهة الذي سبق وكان موضوع أكثر من مقال، وتلك هي شواهده وتداعياته، وهي شواهد وتداعيات إذا لم يقاومها العالم ويضع حداً للشخصيات الوضيعة التي تروج لها، فإنها ستتسرب إلى العالم بمجمله، غارسة الفكرة الخطرة للولاء الأعمى والاستعلاء الكارثي التي ستأتي على جزء كبير من البشرية بلا شك.
ولطالما كانت الملحوظة أن هناك سائداً واضحاً لغلظة في القلب واكفهرار في الوجه وفحش في اللسان عند المتدينين حين دفاعهم عن الدين أو حين التصدي لأي رأي أو تساؤل مخالفين للتقليدي، ولطالما كان السؤال هو كيف تستخدم فلسفة أخلاقية يفترض فيها الرقة والتسامح ولين الطبع والرحمة بالآخر وقبول المختلف، تبريراً لفظاظة القلب وسلاطة اللسان مهما كان اختلاف الشخص المستهدف أو درجة خروجه عن تعاليم الدين؟ كيف يشتم المتدين ويسب ويلعن ويحقد ويكره وينزل وابل دعواته على الآخرين بحجة المحافظة على دين يفترض أنه يقدم الرحمة وعفة اللسان ورقة الطباع على ما عداها؟ اليوم تتكرر الملحوظة ويتبعها التساؤل ذاته تجاه «المتدينين الجدد»، عابدي الدول والحكومات، أن كيف تستخدمون أسوأ الألفاظ وأقذع الشتائم والتهديد والوعيد والشماتة والتشفي والخوض في الأصول بل والأعراض، بحجة الدفاع عن الوطن وبدافع المحافظة على هويته؟ كيف يمكن استخدام أحط الأدوات وأسوأ السلوكيات للمحافظة على أجمل المنظومات، تلك التي تشكل الثقافة وتجمع أفراد المجتمع على الحب وتوحدهم بتلاقي تقاليدهم وأعرافهم ولغتهم ودينهم، وتعزز فيهم فكرة المساندة والمساعدة والحماية للآخر؟ كيف يلتقي مفهوم الوطن الشاعري الرقيق الحالم الذي يكتب تاريخاً ويرسم مستقبلاً، هذا الوطن الذي له رائحته الخاصة في أنوف محبيه، الذي له لون سماء والتفافات دروب ولفحة هواء لا يعرفها سوى عشاقه بقلب أسود ولسان زفر وشعور استعلائي على الآخر وحقد وكراهية للمختلف أو الزائر أو الضيف، بل ومحاولة طرده وتمني زواله؟ كيف يتجاور الحب والإخلاص والانتماء والشغف والشجن والنوستالجيا مع الكراهية والحقد وغلاظة الطبع ووقاحة اللفظ؟
هاكم انتماء وحباً للوطن في غزة، ليس شعاراً يقال، لكنه تضحية بالروح وعودة لدمار وإصرار، وحب واجتهاد خياليين، كلها تخلو من أي درجة من درجات الفوقية أو العنصرية أو الإساءة للآخر، بل شهدنا في عز الحرب الإبادية على غزة تواصل أهلها المنكوبين بحد ذاتهم بالمواساة للبنانيين إبان قصف الصهاينة للأراضي اللبنانية. وهاكم ترامب بحكومته الوقحة واستعلائه المتسرب لبقية العالم، هاكم آثار «وطنيته العنصرية القمعية» في صنع انتماء استعبادي مغلظ، وقح التعامل غليظ اللسان، وهاكم الجهلة المتأثرين به وبوقاحة علنيته ودنو أسلوبه، المتعرين من كل خلق أو احترام للذات، منطلقين على وسائل التواصل، يضربون في خلق الله بحجة حب الوطن، وهم لا يحبون سوى عنصرياتهم ولا يستلذون سوى بتعذيب وتخويف وإهانة الآخر في تجل لأبشع بيولوجية بدائية في النفس البشرية. هاكم وطنية الغزاويين، وهاكم عبودية ترامب، على أي طرف من المعادلة تودون أن يضعكم التاريخ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب