
اللهم إنّي صائم: حكاية رمضان كما رواها بعض الأدباء

عبداللطيف الوراري
الطفولة خزينة الأيام الخوالي، ورمضان بهجتها. كان إذا هلّ الشهر سرَتْ في العالم حركة غير عادية، وسادت روائحه وأطايبه، فلا تجد عنتا في أن تُميّزه عن غيره من الشهور، في العادات الغذائية ووقتها وترتيبها. حتى شكل السماء، وبريق نجومها، والسمت الذي يغشى الكائنات التي صعدت إليها، يأخذ في عين المرء، طفلا أو شيخا، لونا آخر من الوجود. سمعت برمضان منذ فتحتُ وعيي على هذا العالم، وكنت أسمع كيف يتداولون اسمه برهبة وترقّب، وأحيانا بنكات ومقالب مضحكة. وكان يتهيّأ لي أنه شخص بلحمه وعظمه يزورنا من بلاد بعيدة، فأظلّ أتطلع إلى رؤيته، حتى يمضي الشهر، وأنا بعد لم أره أو أنعم بمصافحته.
في عالم القرية كان يلفت انتباهي تحول سلوك بعض الرجال القساة في الأمس القريب، الذي أخذوا يصطنعون لغة حذرة تتخلّلها العبارة المشهورة: «اللهمّ إني صائم»، بل باتوا يتردّدون على الجامع للصلاة ويلازمونه بين وقت وآخر، فيتودّدون إلى الفقيه الذي يُفقّههم – بمشقّة وعسر- في دينهم ودنياهم، ووجدتهم يتلعثمون بأدعية وأذكار، ويتناصحون فيما بينهم في أمور الدين والموت وعذاب القبر والحساب، وكنت تسمع بعضهم يتأفّف من متاع الدنيا ولا نفعها.
خلال شهر كامل، كانت مثل هذه الأمور الطارئة تثير فضولي ولا تشبعه. كان الإفطار واحدا على موائد بسطاء القرية، يتكوّنُ من شوربة الحريرة والتمر وحلوى الشَّبّاكية والفطائر المُحلّاة، عدا القهوة بحليب البقرة الطازج. أمّا وجبة السحور التي كانت تفوتنا في أكثر المرّات، فكانت في الغالب من الرغيف المطليّ بالسمن والزيت، الذي يجري سائغا بكؤوس الأتاي، قبل أن يقطعه أذانُ الفجر. كانت لنا في رمضان ألعابنا ومُتعنا ومباهجنا الصغيرة وأحاديثنا السعيدة، لكن ما كان يُحدثه في نفوسنا وفي رؤيتنا للعالم من آثار فوق العلم وقتئذ.
لكلّ منا حكايته منذ الطفولة: أيام الصيام الأولى ومشاقه، مائدة الإفطار، انتظار أذان المغرب ومدفع الإفطار، طقوس رمضان، نشاط الدار الكبيرة وأعمالها طوال النهار. قد تكون هناك أمور تغيرت في رمضان، لكن ما الذي لم يتغير فيه؟
أحمد عايد (مصر): الفانوس الذي يجمع مصر
أخَّر أهلي صيامي، لأنني عانيتُ من الحُمَّى كثيرا في صغري. صمتُ في الثامنة، ولم أصم أيام الشهر كلها، أفطر وقتما يدهمني التعب، فجرَّ عليَ هذا الأمر ويلات السخرية في المدرسة، كثيرا ما عدتُ إلى البيت مزفوفا: «يا فاطر رمضان، يا مخاصم دينك». في هذه السنِّ أيضا اصطحبني أبي للصلوات في المسجد، أتذكر أول رمضان صمته كان في منتصف الشتاء. نتسحر، ثم نذهب أنا وأبي للصلاة. المسجد بعيدٌ عن بيتنا، اختاره أبي لحُسن صوت إمامه، الشيخ عبد الصبور، شاويش شُرطة. تتميز صلاته بالتوازن؛ لا هي طويلة ولا قصيرة، يقرأ بهدوء. ننتهي من الصلاة، ويجلس أبي وأنا جواره، يقرأ القرآن، ويسبح إلى أن تطلع الشمس، ثم نعود، فأنام قليلا، ثم أذهب إلى المدرسة.
في جزء ما قبل أذان المغرب، تُلعب مباريات كرة القدم في الشوارع، كل الشوارع تكتظُّ بأهلها كبارا وصغارا، يلعبون ويشاهدون ويشجعون. ثم أنشأنا ملعبا، تتنافس فيه كل منطقة بفريق، وتنتهي المباريات بنهاية شهر رمضان، بجوائز يتبرع بها أسخياء المنطقة. متى تنتهي المباراة إذنْ؟ مع مدفع الإفطار. حين ينطلق الأذان، لا تكف الشوارع عن أصوات الصواريخ والألعاب النارية الصغيرة. كنا وقتها نعمل مدفعا يتكون من مسمار من مسامير قضبان الحديد، نصنع له يدا، ونثقب المسمار، ونضع في الثقب رؤوس أعواد الثقاب الحمراء، ومع النفخ ثم ضغطها بمسمار آخر، يتولد صوت انفجار. يُهرع كل منا إلى بيته، والمائدة تنتظره طبعا.. مائدة يسودها الحب والدفء والحكايات عما حدث في المدرسة والعمل والمباراة. مع متابعة ما يبثه التلفزيون، وفي جيلي لـ(بوجي وطمطم) و(بكار) مساحة كبيرة من الذاكرة. صلاة التراويح طقسٌ دينيٌّ آخر.. لم يُلحقني به أبي إلَّا حين دخلتُ المرحلة الإعدادية، بسبب كثرة عدد الركعات وطول القراءة.
في الأيام الأولى نمرُّ على البيوت، وفي يد كل منا فانوسٌ في وسطه شمعة موقدة، ونطرق بابا بابا مغنين: «ادونا العادة»، ولا نمشي من أمام البيت إلَّا إذا أعطانا أهله شيئا، حتى ولو كان قليلا، كتمرة أو عملة معدنية كبريزة أو شلن، حسب مقدرتهم.في هذه الأيام كنا نعدُّ زينة رمضان بأيدينا، نشتري خيطا سميكا، ونحضر الورق ونقصه بأيدينا، ثم نلصقه بالعجين على الورق، وبين كل عمارتَين نوصل هذه الأفرع بأشكال هندسية مختلفة. لكن اللحظة الأجمل هي لحظة إعداد الفانوس الكبير، الذي يُقارب طوله مترين، وتعليقه.. الفانوس هو محل التنافس الحقيقي بين العمارات وبين الشوارع والمناطق. حين ينتهي رمضان، لا ننزع الزينة، كأننا نرفض رحيله بعدما غرس فينا الحب والود والتشارك في كل شيءٍ.. لا أقول طقوس رمضان فقط، بل حتى كعك العيد الذي تتبادله البيوت في أول أيام عيد الفطر المبارك.
نجوى عمامي (تونس): حياة القلوب
تعود بي الذاكرة عقودا من الزمن إلى أوّل رمضان صمته، كنت في بداية المراهقة في الثّالثة عشرة من عمري، وكان رمضان حينها في الصيف. كنت طفلة ضعيفة البنية، والصيام يمتدّ على ستّ عشرة ساعة، يزعجني النهوض من عزّ النوم لأتسحّر، ورغم المشقّة أتممت الصوم. كانت الساعة الأخيرة قبل ضرب المدفع وصوت آذان المغرب، ساعة نشاط وأنا أجهّز الطاولة مع أمي وأعد السَّلَطة وأقلي «البْرِيكْ». وقبل دقائق من الإفطار يكون كلّ أفراد أسرتي مُلْتفّين حول الطاولة في جوّ حميمي رائق، منتظرين صوت أخي الصغير الذي يراقب انبعاث الضوء من صومعة الجامع وانطلاق صوت الآذان، ليعلمنا بحلول لحظة الإفطار.
لرمضان صيفا في تونس رونق آخر، تحلو فيه السّهرات وتطول حتى موعد السحور؛ دقائق قبل الإمساك. سهرات تتجمّع فيها العائلات حول التّلفزيون، أو تتزاور في جوّ من البهجة والمسرة. سهرات تحضر فيها الحلويّات التقليدية من «بُوزَة « و»مْخارِقْ» و»زْلابِيَة» و»وِذْنينْ القاضي»… وأثناء السهرة تُجهّز ربة البيت وجبة السحور فتطبخ الكسكس، الذي يخلط في ما بعد بالحليب الرائب، أو اللبن، أو تصنع من النوع الدقيق منه «المَسْفوفْ» الذي يخلط بزيت الزيتون والزبدة وماء الزهر والتمر والزبيب والمُكسّرات. وفي الأسبوع الأخير من الشهر الكريم يقلّ الاعتناء بتصنيف الطعام لتحضير حلويات العيد.
إنّ أحلى وأجمل ما في رمضان هو إخراج طعام صائم وإقامة الأغنياء موائد إفطارٍ جماعيٍّ للمحتاجين، وتجمّع العائلات حول مائدة واحدة وتبادل الزّيارات للإفطار «شَقّانْ الفَطْرْ» كما نقول. غير أنّ شواغل الحياة اليوم، في ظلّ ما يمرّ به العالم من متغيرات وصعوبات وعولمة، جعلت التونسي يعيش كلّ مشاكل هذه القرية الكونية، التي باعدت بين أفراد الأسرة الواحدة، وقد تفرّقوا في بلدان أوروبية وخليجية، أو في كندا وأمريكا، بحثا عن آفاق أرحب ضاقت عنها بلادهم. ورغم كلّ ذلك ما زال التونسيّون أينما كانوا في العالم يحفظون لرمضان المنزلة المميزة والمقدسة، ليظلّ شهر التسامح والرحمة وبابا للمغفرة.
زينب لوت (الجزائر): ذاكرة الروح
يحلّ الشهر بالذكريات الجميلة التي نحاول المحافظة عليها. قد يأتي شخص ويرحلُ آخر، لكن الراحلين يتركون أثرا يحفر وجوده كلما ابتعد وجودهم عنا. كنا نجتمع على مائدة الطعام ونحن نعدها بالتفاصيل الحميمية: الأواني الفخمة والكؤوس البهية في مظهرها. كان كرسي والدي في مقدمة المائدة، وكم أحسسنا أنه مركز حياتنا ودائرة استمرارية تلك الروح التي أبهجتها بالأحاديث الجميلة والمزاح والحوارات، ولطالما حاولت والدتي أن تنبهنا إلى أن الحوارات الكثيرة تكون بعد الفطور. برامج التلفزيون يطبعها الاختلاف والتنوع لإبهاج المشاهدين، لكن لم تتغير منذ سنين: قبل الأذان خطبة وموعظة وبعدهما قرآن كريم، وسرعان ما يحين أذان العاصمة، لندرك أنّ ميقات الإفطار في مدينتنا سيدي بلعباس قد اقترب، ولا بد من تسخين المأكولات ووضعها بشكل يليق للنظر والتمعن والاشتهاء. تلك والدتي التي لم تفتر عزيمتها وبراعتها كذلك، كان المطبخ في أيام رمضان بالنسبة لها بمثابة حنين دائم للأشياء ولأمومتها التي لم تنقطع. عبر السنين كانت تثبت أنها الأحسن في تجديد أشكال التقديم وتنويع طرائق الطبخ، ولطالما عاملتني كطفلة مدللة أصابها الإرهاق من الصوم.
قضيت طفولة رمضان مع جدتي في بيت كبير تجتمع فيه العائلة على طاولة الإفطار، وكانت جدتي تتوسط تلك الجلسات بالحكايات القديمة والمناورات الكلامية حول ماضيها، وأننا أكثر حظا منها، لكنها كانت محظوظة بالموقد الطيني وقهوة تطهى فوق الجمر وخضر طازجة تأخذ مساحتها من الاخضرار في الحقول وحاجتها من الشمس والتغذية.
عز الدين الماعزي (المغرب): على طريقة الكبار
لا أذكر من سجل طفولتي الأولى في رمضان إلا القليل، سوى أني كغيري من إخوتي، وكعادة أهل البادية، نسعى لاتباع نصائح الوالد الطيب رحمه الله، في ذكر مناقب رمضان والحث على اتباع سنة رسوله عليه السلام، والرجال الأوائل من السلف الصالح، والأم التي تفرح لصوم أبنائها نصف اليوم، وتشجعهم على تحمل المشاق. كنا نشارك الكبار في الذهاب إلى المسجد، وفي المائدة التي تبدو بسيطة لكنها تمنحك مقاما أعلى بين الأسرة، وتفاخرا بأول صوم الرجال وصبرهم وتعويدهم على مواجهة الشدائد. أذكر من صيامي الأول بعد انتقالي للدراسة في المرحلة الإعدادية والثانوية في مدينة الجديدة، بين أبناء العمومة، وافتضاح أمري بعد نهاية مباراة في كرة القدم الشاطئية، حيث أصبتُ بعياء شديد ورفضت شرب الماء.. وافتخار عمّي رحمه الله بذلك أمام أبنائه ببنْياتهم القوية. علمتني هذه الأمور، أن أروض الجوع وشدة العطش في مرحلة كراء غرفة مع الطلبة والجيران، وتحمل كل أشكال الاضطهاد والقسوة والصبر بالاعتماد على النفس.
لم يتغير شيء في رمضان المبارك، فالطقوس ظلت هي من حيث الاحتفاء حول المائدة والعبادة في المسجد بصلاة التراويح والاستماع إلى الأغاني الدينية وقراءة القرآن، عدا ممارسة الرياضة في الحي، أو على الشاطئ أو في الدوريات المحلية. لكن بتّْ الآن أفضل المشي والمطالعة، بدل متابعة بعض المشاهد التي يندى لها الجبين.. والقول: اللهم إني صائم.
أحمد الفراصي (اليمن): مباهج الطفولة
ما أن تُطلّ تباشير هلال رمضان حتى تتنفس الأرواح عبقَ التقاليد الروحية العتيقة، وتستعيد الذاكرة فيضا من المشاعر الدافئة التي تختبئ في زوايا الطفولة كأطيافٍ مضيئة. إن قدوم رمضان يمثل احتفالا حقيقيا بالدفء العائلي واللمة الاجتماعية؛ حيث تُزيَّن البيوت وتتهيأ لاستقبال هذا الزائر الكريم. في آخر ليلة من شعبان يستعد الجميع لاستقباله بكل حماس وترقب، وعند إعلان ثبوت الهلال، تندفع الفرحة كالنهر بين الأزقة، فيُرَدِّد الصغار أغانيهم البريئة: «يا رمضان يا أبو الحماحم اعط أبي قُرعة دراهم»، ويتحول الليل إلى احتفال متكامل يمتد إلى الألعاب المصاحبة، التي تُضفي عليه بهجة خاصة. فعلى ضوء النيران المشتعلة في القرى، ولاحقا الفوانيس المتلألئة، ونداءات الأذان التي تُعلن البدء بصلاة التراويح، تبدأ لحظات اللعب الجماعي الذي يجمع الأطفال في أرجاء الأحياء والطرقات، وتصبح الألعاب مثل «الغُمّيضة» و»الكوفية الخضراء» وسيلة لإحياء هذه الليلة وسائر الليالي الرمضانية، في أجواء من البهجة والألفة والمرح.
من أولى مباهج قدوم رمضان المرسومة في ذاكرة الطفولة، حرص الأهل على اجتماع أفراد الأسرة على أول وجبة سحور، وتشجيع الأطفال على الصيام؛ وهي لحظة تتوحد فيها فرحة البراءة مع دروس المسؤولية، لتكون بداية لمسيرة روحية مفعمة بالالتزام تتردد أصداؤها في أعماق الوجدان. في النهار، يعيش الأطفال تجربة فريدة تُجمع بين الصوم واللعب، إذ ينطلقون في جولات من اللعب لا تكاد تنتهي، فينخرطون في لعبة «المُسبّعَة» (تشبه الشطرنج حيث بيادقها من لونين مختلفين من الحصى)، و»البِربرة» (القفز على الخطوط المرسومة على التراب)، والقِيز (وضع نوى التمر في حفرة صغيرة)، وغيرها. وفي كل لعبة منها تُضاف حكاية، وفي كل ضحكة تُروى ذكرى، ليصبح رمضان لوحة فنية تجمع بين العبادة والمرح واللعب. فهذه الألعاب التي تتخلل النهار والليل، ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل هي امتداد للتجربة الرمضانية التي كانت تسمُ هذا الشهر وتميزه عن غيره من الشهور. ولا ننسى تلك اللحظة التي يشارك فيها الأطفال أول تجربة لهم في الإفطار الجماعي في المساجد، بحيث تُرتب فيها موائد الإفطار بمأكولات تقليدية خفيفة أشهرها الشفوت (قطع صغيرة من الخبز والخيار تخلط باللبن الممزوج بالفلفل والبقدونس) والبطاطا المسلوقة، والتمر، والقهوة العربية، وشراب الليمون، والعنّاب. يتحلق الجميع حول هذه المائدة بانتظار انسياب صوت الأذان. يرى الصغير خلالها العالم بعينيه اللامعتين وهو يترقب لحظة إفطاره الأول، وفي قلبه مزيج من الحماس والخجل، مستشعرا عبق الطقوس الروحانية التي تُخلَّد في ذاكرة الطفولة وتُرسِّخ قيم الانضباط الروحي.
كاتب مغربي