ثقافة وفنون

«تكة» ومرقة بامية: ذكريات طباخ بغدادي عن صدام حسين

«تكة» ومرقة بامية: ذكريات طباخ بغدادي عن صدام حسين

محمد تركي الربيعو

بعيد عام 2003، كانت المكتبة العربية على موعد مع ظهور عدد كبير من السير والذكريات التي تتحدث عن عراق صدام حسين، وذكريات من عاشوا معه، أو عارضوه لاحقاً. ومع هذه الذكريات كنا نقترب أكثر من حياة صدام حسين الشخصية، ومعرفة كيف تطورت منذ الصغر، وحتى آخر اللحظات الأخيرة ما قبل الإعدام. وعلى الرغم من أن عدد هذه المذكرات تضاعف بشكل كبير، إلا أنه مع صدور كل سيرة ذاتية، نرى أنفسنا أمام معطيات جديدة لا تتعلق بشخص صدام نفسه، بقدر ما ترتبط بفهم تحولات العراق منذ السبعينيات، وحتى القرن الجديد.
وكمثال على هذه السير الجديدة، التي تبدو للوهلة الأولى سيرة مطبوخة بسرعة، هي السيرة التي جمعها الكاتب البولندي ويتولد زابلوفسكي عن حياة طباخ صدام حسين لمدة عقدين تقريبا، ونشرت في كتاب بعنوان «كيف تطعم الديكتاتور.. في عيون طباخيهم»، ترجمة عمار كاظم محمد، دار سطور.. يضم الكتاب ذكريات خمسة طباخين لخمسة ديكتاتوريين حكموا العالم مثل أنور خوجا وفيديل كاسترو، وقد خصص كاتبه فصولاً واسعة لتدوين سيرة طباخ (أبو عداي) كما كان يلقبه العراقيون.
يذكر طباخ صدام في أكثر من جزء من السيرة، أن قصته ربما لا تحتوي على الكثير من الأشياء السرية، أو المعلومات الأمنية التي لم تنشر، فهو في نهاية المطاف طباخ، وليس ضابط أمن. مع ذلك، فإن حياة هذا الطباخ وكيفية دخوله للقصر الجمهوري، وعمله لعشرين سنة وأكثر في إعداد وجبات طعام صدام، توفر لنا تفاصيل عن عراق الثمانينيات والتسعينيات، وأطباق الزعيم، وحياة القصر الجمهوري في هذه الفترة. عادة ما يضم مطبخ القصر عشرات الأنواع من البهارات، وفي هذه المذكرات نراه يضم أيضاً قصصا وتفاصيل من حياة ساكني هذا القصر، وهو ما نلمسه في أكثر من جزئية من سيرة هذا الطباخ.

ذكريات طباخ:

كيف تطعم ديكتاتوراً عربيا غلاف

يبدو موضوع ذكريات الطباخين اليوم، من المواد الجديدة لفهم حياة الرؤساء العرب، والمهم في هذا السياق، هو أن بعض الصحافيين تمكنوا في السنوات الأخيرة من الوصول لعدد من هؤلاء الطباخين، وبالأخص في مصر، مثل ذكريات طباخي أنور السادات أو مبارك. وهذه الذكريات باتت تتيح لنا معرفة تفاصيل من حياة بعض الديكتاتوريين العرب، وأمزجتهم في أحلك الظروف، وهو ما نراه بشكل جلي في بعض الدفاتر التي عثر عليها في القصر الجمهوري السوري بعد هروب بشار الأسد وعائلته. ففي بعض دفاتر المطبخ، نعثر على طلبات بإعداد وصفات تركز على الصحة والنحافة لبشار وزوجته، كما أظهرت بعض الصور من داخل مطبخ القصر، كيف أن طباخي القصر كانوا يعتمدون في إعدادهم للطعام على المكونات العضوية، وأن هناك مزرعة كانت مخصصة لجلب هذا المواد. ففي الوقت الذي تدهورت فيه أحوال السوريين، وباتت مطابخ شرائح واسعة منهم شبه خاوية أحياناً، ولا نبالغ في هذا التوصيف، نرى العائلة الحاكمة تعيش حياة باذخة.
وبالعودة لمذكرات طباخ صدام، فإن ما يحسب للكاتب هنا، أنه حاول الكتابة مرة أخرى عن حياة ديكتاتور من خلال سيرة طباخه، وهو ما يعتبر بمثابة شيء جديد في عالم الكتابة عن الزعماء والسياسيين العرب، ويذكرنا ربما بما كتبه قبل سنوات المؤرخ التركي مراد بردكجي عن حياة أتاتورك، عندما اختار الكتابة عنه من خلال أرشيف مطبخ القصر وذكريات طباخه.
بدأت قصة طباخ صدام مع إعداد الطعام في فترة مبكرة، فخلال فترة الطفولة كان عمه يمتلك مطعماً صغيراً في مدينة بغداد، ولأن العائلة لم تكن قريبة من التعليم، لذلك فضل والده ترك ابنه في مطعم عمه، وهناك أخذ هذا الشاب الصغير يتعرف على طرق إعداد أكثر الأطباق العراقية شيوعا، بما في ذلك الكباب والكبة والدولمة والباچة. وشيش الكباب هو عبارة عن قطعة من اللحم المثروم متبلة بالثوم وغيرها من البهارات، ومن ثم يتم شيها على النار، وتقدم مع الأرز أو على شكل ساندويتش مع الخبز، أما الكبة فهي كرات من اللحم مصنوعة من الطماطم وحبوب البرغل وتقدم مع الحساء، والدولمة عبارة عن لحم مخلوط مع أرز وملفوف في ورق العنب، والباچة هي طعام مصنوع من رأس الخروف مع أقدامه (الكراعين).
مع مرور السنوات، أخذ الفتى ينجح في عمله، ولذلك قرر ترك مطبخ عمه والعمل في فندق خمس نجوم. وهناك أخذت حياته تتحسن، لكن قوانين العراق في الخدمة العسكرية أجبرته على ترك عمله، والالتحاق بخدمة العلم العسكري في منتصف السبعينيات تقريبا من القرن الماضي. شاءت الظروف أن تكون خدمته في مدينة أربيل شمال العراق، التي كانت آنذاك تشهد معارك بين السلطة العراقية والقائد الكردي ملا مصطفى البارزاني، فبعد سنوات من الحكم الذاتي لكردستان العراق، عادت الحكومة وتدخلت في المدينة، وحاولت اغتيال البارزاني. ولذلك كان من حظ طباخنا السيئ أنه وصل إلى مكان يعج بالعتاد والسلاح، بينما كان قد أمضى معظم طفولته وشبابه وهو يعد الطعام فقط. بعد وصوله بأيام اكتشف طباخنا أن الطعام الذي يقدم للعساكر سيئ المذاق، ولذلك اقترح على قائد الكتيبة تولي مهمة الطبخ، وهو ما حدث فعلاً، فقد أخذ يطبخ للجنود وقائدهم الضابط محمد مرعي، وهكذا مرت سنوات الخدمة وهو يعمل في مطبخ الجيش العراقي.
أنهى طباخنا أبو علي، والذي بقي يرفض ذكر اسمه الحقيقي بعد سنوات من سقوط نظام صدام، خوفا من الملاحقات الأمنية، حياته العسكرية، وعاد للعمل في أحد المطابخ، وبحكم العلاقة الجيدة التي تمكن من نسجها مع عدد من الضباط بسبب وجباته اللذيذة، اقترح عليه أحدهم التقدم للعمل في مطبخ قصر السلام، وهو القصر الذي كان يتكفل باستقبال الوفود الدبلوماسية القادمة من الخارج. لم تكن رحلة طباخنا البغدادي سهلة في البداية، فهو وإن كان يجيد الطبخ العراقي، إلا أنه كان عليه بالمقابل تعلم أصول تقديم الطعام، وكيفية إعداد بعض الوجبات الأخرى، ولذلك أخذ يدرس على يد طباخين، أحدهما يدعى جون من بريطانيا، والآخر يدعى صلاح من لبنان، وخلال أشهر أظهر الطباخ الشاب قدرة على استيعاب وإعداد ما كان يطلب منه، وأصبح يعد طعاما لكل الوفود الدبلوماسية. وبعد فترة من الزمن، أخبره أحد العاملين في القصر بقرار نقله لقصر آخر خارج المدينة، وعندما وصل للقصر الجديد أعلم بأنه سيصبح طباخ الرئيس صدام حسين.
داخل مطبخ صدام..

بعد توقيعه على وثيقة تعهد بعدم إفشاء أي سر، وإلا ستكون عقوبتها الإعدام، أخذه طباخ صدام القديم كامل حنا إلى المطبخ، وقد قتل حنا لاحقا على يد عدي صدام حسين. كان والد حنا يعمل أيضا طباخا لدى صدام، وهنا نتعرف على معلومة طريفة بأن صدام كان يعتمد في الغالب على طباخين من أصول مسيحية. يرسم لنا أبو علي صورا من عالم مطبخ صدام، ومما يذكره أنه كان هناك ستة طباخين، علاوة على ذلك كان اثنان من الطهاة يقضيان الوقت كله لدى زوجة صدام ساجدة، أحدهما يدعى شاكر، وكان كبير الطهاة للرئيس السابق أحمد حسن البكر، والآخر يدعى حبيب.
وكان الطباخ الذي يعمل معه يدعى ماركوس عيسى، وهو مسيحي من كردستان، وقد طلب منه في أحد الأيام إعداد تكة عراقية (قطع لحمة صغيرة مشوية)، استحسن صدام خلطة الوجبة، ولذلك طلب من طباخه الكبير حنا إعطاء أبو علي 50 ديناراً كإكرامية. بعد ذلك أصبح طباخنا يدرك مزاجية صدام، من خلال الإكراميات، فعندما كان يكرمهم، كان يعني ذلك ان الرئيس في مزاج جيد، وعندما كان يغضب يطلب من كبير الطباخين خصم خمسين دينارا من راتب الطباخين كعقاب لهم.
كان طباخو صدام يحصلون مرتين في العام على مجموعة من الملابس الجديدة المصنوعة خصيصا في إيطاليا، كما حصلوا على ملابس للطبخ ومآزر وقبعات وقلنسوات وبذلتين مع سترات، وكان صدام يأخذهم في بعض الأحيان إلى الخارج معه، لذا كان عليهم أن يبدوا بمظهر جيد. كما يذكر أبو علي أن صدام كان يشتري لكل واحد منهم سيارة جديدة، في كل سنة سيارة مختلفة.

رائحة عراق الثمانينيات والتسعينيات
عندما بدأ الطباخ العمل في قصر صدام، كان العراق في حالة حرب مع إيران، وكان طباخوه يرافقونه وهو يتجول بين القطع العسكرية. فقد أراد صدام أن يظهر أنه مهتم بجنوده لدرجة قيامه بطبخ الأرز لهم شخصيا. في وجبة الفطور كان صدام عادة ما يتناول البيض أو السمك وشوربة العدس أو الباميا، أما بالنسبة للغداء فكانوا يعدون ثمانية أطباق مختلفة تتضمن نوعين من الحساء ونوعين من الدجاج وبعض السمك وشيئا من الشواء، فكان لديه الخيار دائما في ما يريد أن يأكل، لكنه دائما ما كان يفضل مرقة الباميا. وكان لديهم مرة واحدة على الأقل في كل أسبوع وجبة السمك المسكوف التي يحبها للعشاء، وحين لا يحصل عليها لعدة أيام يخبر كامل حنا عن موعد إعدادها.
كان كامل حنا يتذوق الطعام قبل تقديم الطعام لصدام، وإذا لم يكن موجودا، يطلب من أحد الطهاة تناول بعضٍ منه. وفي كل الأحوال، لم تؤثر الحرب العراقية الإيرانية على أطباق ومائدة صدام، ولذلك لا يظهر اي شيء غريب في ذكريات المطبخ.
في فترة التسعينيات، وصل أبو علي إلى العمل، وتفاجأ بأن الدبابات العراقية قد غزت الكويت. وهنا يؤكد لجامع سيرته، أنه كان من الطبيعي أن يتفاجأ، فالطباخ لا يشارك في السياسة، ولا يوجد في أي بلد في العالم أن يسأل الرئيس طباخه، في ما إذا كان بإمكانه أن يبدأ الحرب. وخلافا لفترة الحرب العراقية الإيرانية، تغير حال مطبخ صدام في هذه الحرب. ففي العادة كان صدام يتناول الغذاء في منزله، بينما أصبحت الطائرات الأمريكية تلاحقه بعد حرب الخليج الثانية، ولذلك كان عليهم حمل قدورهم ومرافقه حراسه إلى المنازل التي كان يوجد فيها.
فرضت لاحقاً عقوبات شديدة على العراق، مع ذلك نرى أن مطبخ القصر الرئاسي عاد لحياته الطبيعية، إذ كان المطبخ يحتوي على كل شيء تقريبا، خاصة أن طعام صدام بقي طعاما تقليديا عراقيا، ولذلك كان من السهل توفير مكوناته من أرز أو لحم بالدرجة الأولى. إلا أن طباخ صدام يؤكد بالمقابل أن مطبخ العراقيين اليومي أخذ بالتغير في هذه الفترة، من خلال ما كان يلمسه بعد خروجه من القصر، ولعل في هذه الملاحظة ما يذكرنا بملاحظات الباحث العراقي فليح خضير الزيدي، التي دونها في كتابه «خبز وشاي»، من أن سنوات الحصار وظهور عالم الحصص التموينية، أدت إلى ولادة مطبخ وإنسان عراقي آخر، فتناول النشويات بإفراط وغياب البروتينيات خلق الكروش المدورة والمؤخرات العريضة لدى الرجال العراقيين في فترة ما بعد التسعينيات، حتى غدت وكأنها تمثل سمات الذات العراقية الجديدة، كما أخذ طباخ الجمهورية (مؤسسات تموين الدولة) يفرض وصفات رؤية الدولة الشمولية بشكل أوسع من السابق، فأخذ يطعم العراقيين في اليوم الأول والثاني والثالث من الشهر التمّن والمرق والفاصولياء وفي الأيام الثلاثة الأخرى مرق حمص مجروش أو العدس الأحمر وهكذا بقية أيام الشهر.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب