«أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية» رواية الأردني صبحي فحماوي: تفكيك فكرة التوحيد والثورة

«أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية» رواية الأردني صبحي فحماوي: تفكيك فكرة التوحيد والثورة
عادل ضرغام
في روايته «أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية» يثير الكاتب الفلسطيني الأصل والأردني الجنسية صبحي فحماوي الكثير من الأسئلة، حول كتابة الرواية التاريخية في ظل سيادة ما بعد الحداثة، أو رواية ما بعد الحداثة التاريخية، حيث هناك تغييب متعمد لفكرة الأصل أو الحقيقة أو المتفق حوله، وهناك أيضا خطابات متوازية متقابلة، لها المساحة نفسها من المشروعية والمصداقية، حتى لو جابهت التاريخ والحوادث المتفق عليها. تثير الرواية شيئا من أخلاقيات الكتابة التاريخية، بعيدا عن التحيزات السردية والأيديولوجية.
رواية ما بعد الحداثة التاريخية تحتفي بتعدد الخطابات، لإقرار رؤية حداثية نقدية يرفد بها الحاضر الماضي، لكنها لا تنتج – ارتباطا بتوجه أخلاقي بدأ يلوح محذرا في السنوات الأخيرة – خطابا يهدم المستقر إلى حد ما، فقد تسمح بتمرير مغايرة جزئية تتساوق مع روح العصر، للوصول إلى فكرة ما، أو إلى توجه معرفي خاص، من خلال فجوة لم تتوقف عندها الكتب التاريخية. من العنوان تضع الرواية القارئ أمام صدمة أولى تتمثل في جعل (نيفرتيتي) الملكة المصرية كنعانية، وكأنها إشارة أولى كاشفة عن التوجيهات السردية والتحبيكات البنائية لبعض الإضافات التي تشكل تحديا متعمدا للسائد والمقرر والمتفق حوله.
في الرواية مساحات اشتغال على الثورة ضد تعاضد الكهنة والفرعون، أو ضد تغوّل السلطة الدينية، فثورة أخناتون – ربما تحت تأثير رفدها بمنطلقات حداثية – ليست ثورة دينية من التعدد إلى التوحيد، بل هي عند التفكير العميق ثورة اجتماعية، تنتصر للفرد ولفكرة العدل والمساواة، وتفكيك الكهنوتية، لتجعل الوصول إلى الإله بشكل مباشر دون وسيط متاحا ويسيرا. فهي تتيح من خلال الأشعار الفرعونية الموجودة في النص الروائي التي يتوجه بها أخناتون إلى الشمس تعرفا مباشرا ومواجهة فردية. كل ذلك جعل الرواية مهمومة بطرح أسئلة ترتبط بالآلهة القديمة وتعددها، سواء لدى المصريين أو الكنعانيين، وعن خالق هذه الألهة في بحثها عن فكرة التوحيد عن طريق قطبين متقابلين كما تطرح الرواية بعيدا عن الثابت، أو المتفق حوله تاريخيا.
السرد التاريخي والتحبيك
استفاق منظرو ما بعد الحداثة بعد أن أسهموا بقصد أو بدون قصد في شيوع قصص وخطابات عديدة لكل حادثة تاريخية، على خطر يمكن أن يكون داهما ومريعا، يتمثل في قدرة السرد والتحبيك على تشكيل خطاب يخلو في بعض جوانبه من المشروعية، أو مساحة من مساحات الاتفاق. وتحدث بعضهم في ظل ذلك عن أخلاقيات الكتابة التاريخية الروائية. فخطورة التحبيكات أو التوجيهات السردية تتمثل في أحيان ليست قليلة في زحزحة المتفق عليه، ووضع المزيف مكانه، بالرغم من وجود أفكار كثيرة تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر.
وأعتقد أن الأمر- بعيدا عن التوجيهات الجزئية السردية بكون زوجات أمنحتب الثاني والثالث والرابع وهن على الترتيب شوتارنال وتيي وإلهام كنعانيات دون سند تاريخي واضح – مرتبط بجرّ فكرة التوحيد وتهشيم ارتباطها (بأخناتون)، وإعادة تأسيسها بالفكر الكنعاني، من خلال جعل الملكة نيفرتيتي/ إلهام ذات الأصول الكنعانية صاحبة الفضل في توجيه زوجها أخناتون نحو هذه العقيدة التوحيدية. وهذه الفكرة- أي تحريك دور نيفرتيتي من مساند للزوج إلى مشارك ومؤسس – لم يكن لها وجود قبل كتاب العالم الألماني (شلوغل) الذي نشر كتابا عن سيرتها من خلال مخطوطات عثر عليها في معبد الكرنك، أشار فيه أنها كانت تشيع أنها التي عثرت على آتون.
تتمثل أولى هذه التحبيكات في الصراع الدائم بين الحضور والغياب، ففي اللقطات الأولى المتوالية للحركة بين بلاد النيل وحاكمها أمنحتب الثالث وبلاد الكنعانيين وهي الحركة التي يتيحها المنظار الصيني للعودة إلى الأزمنة القديمة، هناك غياب لفكرة الدين بشكل عام، سواء في ظل (آمون) أو (آتون)، ولكن هناك تصوير لحياة اللهو والدعة التي يعيش فيها أمنحتب الثالث، وهناك تغييب لأمنحتب الرابع الذي سيصبح (أخناتون). وفي مقابل هذا التغييب هناك توجيه سردي خاص للفتاة (إلهام) ابنة الملك (رافائيل) والملكة (مثال) التي ستتحول إلى نيفرتيتي، فهي على لسان أمها (مفطورة على القيادة مثل أبيها)، وفي تحبيك دال على بداية الفكرة نجدها تحمل تمثالا صغيرا للألهة الكنعانية (شاباس) أي شمس.
وقد تظهر التحبيكات بشكل لافت في سياق المقارنة ومعاينة الفاعلية بين الجانبين، بداية من المستوى الأخلاقي الذي يمكن أن يكون ذا أثر في تقبّل الفكرة ومشروعيتها، يتجلّى ذلك واضحا في بعض الأحيان بشكل متفرق متباعد، وفي أحيان أخرى بشكل متوال كاشف عن البون الشاسع بين الجانبين. ففي سياق المقارنة بين موقف إلهام الكنعانية قبل أن تصبح نيفرتيتي نراها ترفض قبلة أمنحتب الرابع (أخناتون)، لإيمانها بالزواج المقدّس، وفي المقابل نجد أن للملكة (تيي) والدته عاشقين في غياب زوجها الأمبراطور أمنحتب الثالث. ويظهر حتى الانحياز واضحا في المقارنة بين أمنحتب الثالث والملك رافائيل ملك مملكة مجدو.
في مقابل الفاعلية والحركة السابقة ظل الوصف الخاص بأخناتون طوال صفحات الرواية وصفا يقف به عند حدود الشاعر الحالم أو الإنسان المتأمل لإلهه الشمس، من دون أن يكون ذلك مشفوعا بالقدرة على قيادة حملة أو أن يكون إمبراطورا لأمة عظمى. فبعد عقد الصلح بين المصريين والكنعانيين يقول قائد الجيش المصري حور محب «هذه الملكة الأم لم ترسل معي قائدا أعلى، بل أرسلت شاعرا مجنونا.. لماذا لم تقم له حفلا شعريا بدل أن ترسله قائدا أعلى لي». فهذا الوجود الشاعر المرتبط بالسكون والانتظار وعدم الفاعلية، تؤسس له مجموعة الأناشيد والنصوص المثبتة في النص الروائي، وهي كشف عن استغراق تام دون قدرة على التخطيط أو النفاذ، في مقابل وجود فاعل للفتاة إلهام أو للملكة نيفرتيتي التي تأخذ مكان الرجال من القادة وتسدّ مسدهم.
في هذه الرواية تتمثل خطورة التحبيك السردي في القدرة على اجتراح المؤسس، والتقليل أو النيل منه، وإن ظلّ كل ذلك مشروعا، ولكن توطين ثلاث زوجات كنعانيات بشكل متوال لأمنحتب الثاني والثالث والرابع، شيء يدعو إلى الاستغراب والدهشة، وربما يوجّه نحو هدف محدد، يتمثل في تفكيك فكرة التوحيد الأصيلة في الفكر المصري القديم قبل أخناتون نفسه، فقد أشارت الرواية إشارة خافتة على لسان الملكة تيي في مناقشتها لابنها أخناتون قائلة «بغض النظر عن فلسفتك الوريثة لفلسفة المصري منف».
عين الكاميرا ومعاينة الحدث
استند الكاتب إلى آلية سردية بها نوع من الجدة، تتيح له العودة إلى الزمن الماضي ومعاينته أثناء حدوثه، وكأن في ذلك إثباتا وتأكيدا لتوجيهاته وتحبيكاته السردية التي أراد أن يمررها مع نصّه الروائي، فمعاينة الحدث مغايرة لتأمل الخطاب. فقد اختارت إدارة منظار الزمن الصينية الراوي للاطلاع على هذا المنظار، ومشاهدة حوادث أي زمن يريد استرجاعه ومعاينته على شكل حوادث فعلية. وقد أتاحت هذه الآلية التي تشبه إلى حد بعيد عين الكاميرا المتحركة رؤية أشياء عديدة، وضعتها في منطق الكشف والتعرّي بشكل مباشر، وكأنها بهذه الآلية تلصق بها نوعا من الموضوعية.
الراوي في ظل هذه الآلية غائب إلى حد بعيد، ويعطي للكاميرا مساحة للحركة والوجود، ويبقي لنفسه مساحة مختزنة للاختيار والتوجيه، وحضوره المباشر لا يزيد عن حدود التعليق على بعض الحوادث أو الصور، كأن يتحدث عن نساء الإمبراطور الفرعوني في محمية الخليل (يا إلهي ما هذا الفضاء العامر بالجمال والمحبة). ولكن الراوي أبقى لنفسه حضورا لافتا يتمثل في السردية الانتقائية الموجهة بدقة ارتباطا بالهدف الفكري أو المعرفي. فالإشارة الدائمة إلى رصده لأمنحتب الرابع بعد عودته من سفره من أرض الكنعانيين وانشغاله بالشمس بعد لقائه بالأميرة إلهام، إشارة مقصودة، مع تغييب هذا الاهتمام قبل ذلك اللقاء، بالإضافة إلى الاستعاضة عن ذلك بتصوير ورصد ومعاينة انشغال والده الإمبراطور بالصيد والنساء. كل ذلك للتوجيه نحو الاشتغال على فكرة الإيقاظ وتوليد الفكرة في مكان خاص من أرض الكنعانيين.
القارئ المتأمل لهذه الآلية السردية يدرك أنها آلية كشف وتعرية، لأنها تتخلل الحوادث من أفق علوي راصد، لا مجال فيه للاحتراز أو للاحتياط أو للتخفي، فهي آلية كشف للفرد أمام نفسه من جانب، ومن جانب آخر تكشف عن رأيه في الاخرين دون مواربة. وقد أتاحت هذه الآلية مساحة للقارئ لكي يدرك الداخلي المتواري الذي لا يظهر في السرد العادي بشكل مباشر.
تبدأ المساحة الكاشفة فيما يخص الثورة وأسبابها من خلال الحوارات بين أخناتون ونيفرتيتي، أو من خلال المونولوج الذي يقدمه كل واحد منهما. ولا تتم مقاربة كل جزئية بشكل منفصل، ففكرة تعدد الألهة التي يتمسك بها كهنة آمون، لها علاقة بالتعاضد المعروف بين السلطة السياسية والدينية، تقول الرواية على لسان أخناتون «نحن نعاني من ثقل آلهة كثيرة، وخاصة الإله آمون، إن كهنته ورجاله يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة». ويتكرر الأمر ذاته في إشارات مشابهة من خلال حديث نيفرتيتي عن الكنعانيين.
في ظل ذلك الفهم تأخذ ثورة أخناتون أبعادا أكبر من كونها ثورة دينية ضد التعدد ودعوة إلى التوحيد، فهي ثورة اجتماعية شاملة، تنادي بمبادئ العدل والمساواة، وتجلى ذلك في المساحات التي كشفت عنها الممارسات بين ممثلي السلطة والشعب في تل العمارنة، حيث كشفت عن مساواة لافتة بين الحاكم والمحكوم. وقد نفهم معارضة الكهنة لهذه الثورة، لأنها تهدد مكانتهم الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وقد كشفت الرواية في سياق آليتها الكاشفة عن الوعي الخاص من كل الأطراف بعضها ببعض، خاصة الموقف من الكهنة الذي يختلف ويتعدد نظرا للمصلحة ولزاوية الرؤية. فالأم- الملكة تيي- يبدو موقفها من الكهنة مشابها لموقف الأب الإمبراطور أمنحتب الثالث، حيث تقول لابنها ردا على ثورته ضد الكهنة «أنا أتفهم موقفك، ولو أنني أخضع لما خضع له أبوك الإمبراطور الذي كان لا يؤمن أيضا، ولكنه يهادن».
النمط المتبع بين الكهنة والحاكم قائم على المساندة والتعاضد، وعلى وجود المعرفة التامة بين القسيمين المتقابلين، فهم- أي الكهنة- يدعمون سلطته السياسية، وهو يدعم سلطتهم الدينية، ويحافظ على أموالهم وممتاكاتهم. ولكن هذا النمط أخذ مع بداية الثورة شكلا مختلفا، فلم يعد الأمر مع (أخناتون) مرتبطا بالمهادنة، فقد أصبح له هدف ينبع من الثورة الشاملة، يتمثل في تقويض سلطة الكهنة، فرؤيته بعيدة عن رؤية الأب الأمبراطور، وبعيدة عن موقف الأم/ الملكة الحذر التي تريد الحفاظ على مملكتها، فقد أصبح كاشفا عن المواجهة، فنجده يهاجمهم هجوما مباشرا في قوله «وهكذا صار لكل أسطورة عرّاب، يعين لها رجالا، يستطيعون اللعب بالبيضة والحجر، يسمونهم كهنة المعبد».
ويمكن للقارئ أن يبصر تراجع كبير المستشارين (تي) عن مناصرته ليقينه بهزيمته وطلبا للمصلحة، ويبصر كذلك اشتغال كهنة آمون على أخيه الأصغر سمنخ كا رع بموافقة الملكة الأم خوفا من الصراع أو ضياع الحكم، فالكاميرا تستطيع أن ترصد كل هذه المكائد حول توجه مثالي شاعري، ليس لديه سوى الإيمان المطلق بالفكرة، لكنه لا يملك القدرة على تحقيقها بشكل واقعي.
صبحي فحماوي: «أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية»
الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2025
230 صفحة.