فيلم «الوصايا» لسناء عكرود: مرافعة سينمائية باسم كل أم حاضنة وكل طفلة سُلبت حق الحياة

فيلم «الوصايا» لسناء عكرود: مرافعة سينمائية باسم كل أم حاضنة وكل طفلة سُلبت حق الحياة
ماجدة أيت لكتاوي
الرباط ـ خلق الفيلم السينمائي المغربي «الوصايا» لمخرجته سناء عكرود نقاشا متجددا حول جملة من الملفات المرتبطة بالأسرة المغربية وحقوق المرأة داخل رباط الأسرة كالحق في الولاية والحضانة وقضية تزويج القاصرات والطفلات، في ظل المراجعات والتعديلات المنتظر إدخالها على «مدونة الأسرة» (مدونة الأحوال الشخصية) في المغرب والتي انطلقت منذ شهور.
وتحكي أحداث الفيلم، المعروض في القاعات السينمائية بعدما حظي بدعم وزارة العدل ووزارة الشباب والثقافة والتواصل، قصة «الضاوية»، وهي سيدة تخوض معركة قضائية مع طليقها من أجل الاحتفاظ بحضانة ابنتها، في حبكة تعكس الواقع القانوني والاجتماعي لهذه القضايا.
في مشاهد حارقة، تنزع سناء عكرود الستار عن القسوة المشرعنة، والخذلان الرسمي، والعنف المُغلف بنصوص القانون. نرى المرأة الحاضنة التي تنتزع منها حضانة أطفالها لا لذنب اقترفته، بل لأن القانون لم يخلق لها حضنًا آمنًا. كما نرى الطفلة التي تُزف قسرًا باسم الأعراف، حيث الموافقة تُستخرج بالقوة، والبراءة تُطمس بتوقيعٍ بارد. ونرى المساعد الاجتماعي، ليس مجرد ظل أو إجراء إداري، بل شاهدًا على الجريمة، وفارسًا بلا سلاح في معركة غير متكافئة بين الضحية والجلاد.
بالنسبة لمحمد حبيب، أخصائي اِجتماعي وباحث في علم النفس، فإن «الوصايا» ليس مجرد فيلم سينمائي، بل هو صفعة مدوية على وجه التواطؤ الاجتماعي، ومرآة صادقة تعكس تجاعيد القهر في عيون النساء الحاضنات، وأوجاع الطفولة المصادرة في صمت الأحكام القضائية. إنه صرخة امرأة لم تختر المساحيق لتجمل الحقيقة، بل كشفتها كما هي عارية، وموجعة، وبلا مواربة.
وأبرز حبيب ضمن تصريح لـ«القدس العربي»، أنه وسط هذا الركام، يبرز اختيار المخرجة لكلمة «مساعد اجتماعي» عوض الصيغة المؤنثة للمهنة كرسالة رمزية عميقة، اعترافٌ متأخر ربما، لكنه انتصارٌ لنضال طويل في سبيل فصل المهنة عن جنس من يمارسها، والاعتراف بها كرسالة إنسانية قبل أن تكون وظيفة. إنها لحظة يُستعاد فيها الحق من بين أنياب العُرف، ويُنتزع فيها الدور من قوالب الجندر، ليصبح الإنسان فاعلًا في معركة العدالة لا مجرد عنوان فارغ.
ويرى الأخصائي الاجتماعي أن سناء عكرود، المخرجة، والسيناريست، والأهم الصوت الذي لم يخشَ أن يُعري الألم، تستحق منا كل الامتنان، حيث حفرت بعدستها في عمق الجرح، ولم تخفف وطأة الحقيقة، بل أطلقتها كصرخة مدوية تهز الجدران وتكسر الصمت، مبرزا أن هذا الفيلم ليس مشهدًا يُشاهد وينسى، بل نداءٌ للتفكير، وثورةٌ صامتة على الورق، ومرافعة سينمائية باسم كل أم أُجبرت على الفقد، وكل طفلة سُلب منها حق الحياة بقرار لا يقرأ دموعها.
من جانبها، قالت الصحافية خولة اجعيفري، إن سناء عكرود عوّدتنا في أعمالها على الغوص في كينونة المجتمع المغربي، لكن «الوصايا» بالذات حقيقة عمل سينمائي يتجاوز حدود السرد التقليدي، إلى كونه مرآة عميقة تعكس واقع المرأة المغربية في مجتمعٍ يتصارع بين تقاليد صارمة وأنظمة قانونية متحجرة.
وأفادت الإعلامية المغربية، ضمن حديث جمعها بـ«القدس العربي»، إن الفيلم متعدد الأبعاد يفضح التناقضات التي تواجهها المطلقات عموما والأمهات الحاضنات خصوصا، في آن واحد يُظهر هشاشتهن وقوتهن على حد سواء، فكل مشهد وكل رمز بصري يُستَخدم كأداة لفضح القيود الاجتماعية التي تُعيق تحقيق الذات، ما يجعل الفيلم منصة فنية للنقد والتحرر.
من منظور فني واجتماعي، يقوم الفيلم بتقديم لغة سينمائية غنية تُعيد صياغة مفاهيم الهوية والعدالة. ويستخدم العمل الرمزية لتسليط الضوء على معاناة النساء في شخصية «الضاوية» في مواجهة الأنظمة القضائية التي غالبًا ما تُهمل صوتهن، حيث يتحول كل حوار ومونولوغ لهذه الشخصية وكل لقطة إلى نقد بنّاء يستهدف إعادة النظر في المفاهيم السائدة حول الأمومة والطلاق.
هذه الطريقة الفنية لا تعمل فقط على تحريك المشاعر، بل تُثير أيضًا أسئلة جذرية حول كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير مساحات للفردية والتمكين. تقول الجعيفري، وتابعت أن أهمية مثل هذا النوع من الأفلام يكمن في دوره الفعال في بناء وعي مجتمعي قادر على إحداث التغيير.
وأكدت أن المغرب في أمسّ الحاجة لأفلام مثل «الوصايا» كونها بذور تُنمي الفكر الجماعي وتفتح أبواب النقاش العام، مما يُساعد على خلق ضغوط بنّاءة نحو إصلاح الأنظمة الاجتماعية والقانونية، مُثمّنة دعم وزارة العدل لهذا الفيلم الذي أظهر أيضا أن الطريق نحو الإصلاح يبدأ من الوعي والتأمل في معاناة الآخرين، مما يجعل السينما عاملاً محوريًا في عملية التجديد الاجتماعي.
وهكذا، يعيد فيلم «الوصايا» التأكيد على أن الفن ليس مجرد وسيلة للتسلية، بل هو أداة حيوية للتغيير والتحفيز على النقاش حول القضايا الحساسة التي تمس حياة المغربيات، خاصة حينما تتصاعد الدعوات لإعادة صياغة القوانين بما فيها دعوة العاهل المغربي بما يتناسب مع متطلبات العصر، يبقى هذا النوع من الأعمال الفنية بمثابة جسر يربط بين الواقع المرير والطموحات المجتمعية للإصلاح والتمكين.
واقتبست الناشطة النسائية حفيظة بن صالح، رئيسة جمعية نعمة للتنمية، تحليلا اعتبر فيلم «الوصايا» مرافعة سينمائية تحاكم الصمت وتنصف الحقيقة. وجاء فيه أن «وصايا» ليس مجرد فيلم، بل صفعة مدوية على وجه التواطؤ الاجتماعي، ومرآة صادقة تعكس تجاعيد القهر في عيون النساء الحاضنات، وأوجاع الطفولة المصادرة في صمت الأحكام القضائية. إنه صرخة امرأة لم تختر المساحيق لتجمل الحقيقة، بل كشفتها كما هي: عارية، موجعة، بلا مواربة.
وذهب التحليل إلى القول: «سناء عكرود، المخرجة، السيناريست، والأهم: الصوت الذي لم يخش أن يعري الألم، تستحق منا كل الامتنان. لم تختر الزوايا الجميلة، بل حفرت بعدستها في عمق الجرح، ولم تخفف وطأة الحقيقة، بل أطلقتها كصرخة مدوية تهز الجدران وتكسر الصمت. وبالتالي، فهذا الفيلم ليس مشهدًا يُشاهد وينسى، بل نداءٌ للتفكير، وثورةٌ صامتة على الورق، ومرافعة سينمائية باسم كل أمّ أُجبرت على الفقد، وكل طفلة سُلب منها حق الحياة بقرار لا يقرأ دموعها. وصايا… شهادة اجتماعية تكتب بالدمع، وتحفر في الضمير».
فيلم مؤسساتي
أما الصحافية والناقدة الفنية سعيدة شريف فقد كان لها رأي مخالف، حيث كتبت تدوينة جاء فيها «شاهدت العرض ما قبل الأول لفيلم الوصايا للمخرجة وكاتبة السيناريو والممثلة سناء عكرود، ولم أعثر فيه للأسف على السينما». وتابعت: «العمل هو فيلم مؤسساتي رصد له دعم سخي من طرف وزارة العدل والمركز السينمائي المغربي والمكتب الشريف للفوسفات والقرض العقاري والسياحي ووو… ولكنه مع ذلك لم يفلح في تقديم عمل سينمائي كبير نستحقه وتستحقه القضايا النسائية والحقوقية التي ما زال المغرب يتخبط فيها، والتي ناضلت وما زالت الجمعيات النسائية تناضل من أجل صون كرامة المرأة المغربية وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل. لا أثر للجمعيات النسائية في العمل اللهم إلا ما جاء على لسان المحامي/ الممثل ناصر أقباب الذي اعترف بعمل الجمعيات».
وفي سياق متصل، نشرت الصحافية عزيزة حلاق مقالا نقديا عن «الوصايا»، تحت عنوان «برافو سناء… ولكن!» رأت فيه أن أحد أبرز نقاط قوة الفيلم هو أداء بطلته التي جسّدت معاناة المرأة بحساسية وصدق، ما جعل المشاهد يتفاعل عاطفياً مع معاناتها. كان تمثيلها قويا وعميقًا، حيث استطاعت أن تنقل مشاعر الغضب، الإحباط، والأمل بطريقة مقنعة، ما أضفى على القصة بُعدًا إنسانيًا مؤثرًا. وتابعت أنه «على الرغم من قوة الفكرة ورسالتها الواضحة، فإن الفيلم افتقد للجانب السينمائي الإبداعي الذي يميّز الأعمال الفنية الحقيقية»، واعتبرت أن هذا العمل الفني كان أقرب إلى فيلم «مؤسساتي تحسيسي وتوعوي»، يُقدّم رسالة مباشرة من دون ترك مساحة كافية للرمزية أو العمق البصري الذي يجعل الفيلم تجربة سينمائية متكاملة. فقد بدا واضحًا ـ تقول الصحافية ـ أن الأولوية كانت لإيصال القضايا المطروحة بوضوح، لكن ذلك جاء على حساب البنية الدرامية، الإخراج الإبداعي، والتصوير السينمائي الذي يمكن أن يرفع من قيمة الفيلم الفنية.
واستطردت قائلة «كان بالإمكان استثمار الفكرة القوية في سيناريو أكثر عمقًا وتماسكًا، واستخدام أدوات إخراجية أكثر إبداعًا لتعزيز التأثير الدرامي من دون الوقوع في المباشرة المفرطة. فالجمهور يتفاعل أكثر مع القصص التي تُروى بطريقة غير تقليدية، حيث تترك لهم مساحة للتفكير والاستنتاج بدلاً من تقديم الرسالة بوضوح خطابي مباشر». وختمت عزيزة حلاق مقالها بالقول: «يظل فيلم (الوصايا) عملاً هامًا من حيث القضايا التي يطرحها، ولكنه لم ينجح تمامًا في أن يكون عملاً سينمائيًا متكاملاً. كان بإمكانه أن يرقى إلى مستوى فني أعلى لو تم دمج الرسالة الحقوقية بلمسة فنية أكثر تميزًا، مما يجعله ليس فقط وسيلة توعوية، بل تجربة سينمائية ممتعة وملهمة في آنٍ واحد وفيلم يشبهنا».
معارك يومية
بالنسبة لصاحبة العمل سناء عكرود، فإن الصعوبات التي عبرت عنها في الفيلم «لا تقتصر على المرأة المغربية فقط، بل تشمل جميع النساء العربيات». وقالت في تصريحات صحافية «إنهن يواجهن نفس الترسانة القانونية ونفس المسار الشاق في المحاكم».
وعند سؤالها عن المراجعة الجارية لمدونة (قانون) الأسرة في المغرب، أعربت المخرجة عن فخرها بالتطور الإيجابي الذي يشهده هذا المشروع. كما ذكّرت بأن مقاطع الفيديو التي تنشرها على «يوتيوب»، حيث تتناول معاناة النساء وتشارك أفكارها، تمثل امتدادًا لالتزامها. وأضافت: «نخوض معارك يومية، وبصفتي شخصية عامة، شعرت أنه من واجبي تسليط الضوء على هذه الصعوبات».
ومع ذلك، تؤكد سناء عكرود أن فيلمها ليس دليلاً ولا «قائمة نصائح»، موضحة: «إنه مجرد مساهمة إنسانية، حرصت من خلالها على مشاركة تجاربي». كما شكرت وزارة العدل على الدعم التقني والإداري الذي قُدِّم لإنتاج الفيلم، الذي استفاد أيضًا من مساعدة لجنة الدعم التابعة للمركز السينمائي المغربي.
وجوابا عن سؤال حول مشاريعها المقبلة، قالت سناء عكرود إنها ترغب حاليًا في الاستمتاع بنجاح فيلم «الوصايا». وأضافت: «هذا الفيلم هو ثمرة نضال طويل وتأمل عميق، وآمل أن يلهم إنتاجات أخرى في المستقبل».
«القدس العربي»: