محسن دلول في «الطريق إلى الوطن»: كمال جنبلاط اغتيل بسبب عدم تزلفه أمام الزعماء العرب وتمسكه بمبادئه

محسن دلول في «الطريق إلى الوطن»: كمال جنبلاط اغتيل بسبب عدم تزلفه أمام الزعماء العرب وتمسكه بمبادئه
سمير ناصيف
تختلف دوافع القراء والنقاد لدى قراءة كتب تشمل مذكرات وسير شخصيات لعبت دوراً سياسياً هاماً في مرحلة من مراحل تاريخ بلد أو إقليم أو مجموعة اجتماعية، سياسية محلية أو عالمية.
فالبعض يقرأ مثل هذه الكتب ليوسع معلوماته ومنظاره حتى ولو اختلف في مواقفه عموماً عن مؤلفها، والبعض الآخر يفعل ذلك لانتقاد مواقف المؤلف وقيمه ومعتقداته أو لدحض ومخالفة المعلومات الواردة في كتابه أو لتكييل المديح للكاتب لتوافقه معه.
كما هناك آخرون لديهم دوافع أخرى كالفضول أو محبة القراءة والشغف بالمطالعة المثيرة. دافع هذا المقال الذي يُراجع كتاب السياسي اللبناني المخضرم محسن دلول بعنوان «الطريق إلى الوطن، ربع قرن برفقة كمال جنبلاط» الذي صَدَر مؤخراً متضمناً وقائع سابقة ولكن مفيدة للمرحلة الحالية كان توسيع المعلومات، إذ يصعب الإنكار بأن محسن دلول كان أحد أقرب رفاق الراحل كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية اللبنانية ومؤسس ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» اللبناني في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي لعب دوراً رئيسياً في لبنان والعالم العربي في تلك المرحلة قبل اغتياله في 16 آذار/مارس عام 1977.
جنبلاط لم يكن سياسياً عربياً أو عالمياً عادياً بل كان مفكراً وفيلسوفاً على الصعيد الفكري بالإضافة إلى كونه لاعباً مؤثراً في ما حدث ويحدث في لبنان والشرق الأوسط آنذاك وحالياً. وقد اغتيل جنبلاط بنظر كبار المحللين بسبب معتقداته الفكرية الإنسانية والتزامه التمسك بها حتى في لقاءاته مع كبار قادة المنطقة وعدم تزلفه أمام تجاوزاتهم وأخطائهم وإبلاغهم مواقفه بصراحة في شتى الأمور.
ولعل لقاء كمال جنبلاط الذي يورده دلول في الفصل الثالث من الكتاب، مع الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 يوضح إلى حد كبير مدى احترام القادة العرب له وجدية استماعهم لآرائه. فحسب ما وردَ في الكتاب في مقطع عن ذلك اللقاء: «الملك فيصل بن عبد العزيز أبلغ جنبلاط في اللقاء الذي تم بينهما في السعودية (بحضور المؤلف) بعد حرب أكتوبر 1973 عتبهُ على الاتحاد السوفييتي لعدم تزويده العرب بالأسلحة المتطورة القادرة على هزيمة إسرائيل. وانتقد الملك فيصل الأحزاب العربية التي تتعاون مع الاتحاد السوفييتي بسبب ذلك. فسأل جنبلاط الملك عن رأيه بالبلد الذي يزود عدونا بالأسلحة المتطورة ويزودنا بسلاح غير متطور وحديث وفاعل، فانتفض فيصل وسأله قائلاً: وما العمل وماذا بعد؟ فأجابه جنبلاط أن حجم المملكة العربية السعودية السياسي يجب أن يكون موازياً لحجمها المعنوي والمادي، وأكثر من ذلك، ولكن وللأسف لم يوظف هذا الحجم كما يجب في الصراع مع العدو الإسرائيلي، فقد اخطأتم عندما وضعتم أنفسكم في صف دول الغرب وحده وقاطعتم الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، فماذا لو قدمتم عرضاً بعشرة مليارات دولار لإنعاش زراعة القمح في سيبيريا (روسيا) في مقابل تزويد السعودية بالأسلحة السوفييتية الصنع الأكثر حداثة وتطوراً؟» (ص 175 إلى 177). وبدلاً من أن يغضب الملك فيصل مما اقترحه عليه جنبلاط، شكرَ شقيقه الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان أميراً آنذاك لكونه رتّب ذلك اللقاء مع جنبلاط بعدما كان القائد اللبناني المُلم بالطب الطبيعي ساهم في شفائه من مرض في الأمعاء بواسطة أعشاب معالجة كان قد استقدمها من الهند، مما وثّق صداقتهما.
ويشير الكاتب إلى أنه بعد اشتعال فتيل الحرب الأهلية اللبنانية 1975 ـ 1990، ولدى قيادة كمال جنبلاط الحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة الأحزاب والميليشيات المسيحية اللبنانية التي كانت مقربة من رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، بعد ذلك تهادنت مع القيادة السورية في النصف الثاني من عام 1976. وأصبح ممنوعاً على كمال جنبلاط تسلم المناصب الوزارية التي نجح فيها في السنوات السابقة لتلك الحرب وخصوصاً وزارات الداخلية والتربية والأشغال العامة والتصميم، كما لم يعد جنبلاط قادراً على لعب دور فاعل في تسمية مرشحيه للمناصب العليا كرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والوزارات الهامة، فشعر بالقرف من العمل السياسي في لبنان برغم أن الكاتب دلول (حسب قوله) بذل مجهوداً للوساطة بينه وبين النظام السوري فيما كانت قيادات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية غير مشجعة ومتحفظة إزاء مثل هذا التوجه. ويضيف الكاتب: «بعد انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية في مطلع صيف عام 1976 عَرض سركيس على جنبلاط المساهمة في إدارة شؤون البلاد فاشترط الأخير القيام بالإصلاح السياسي للنظام، ووعده سركيس بذلك بعدما يتسلم منصبه رسمياً. ولكن علاقة جنبلاط مع القيادة السورية كانت تتأزم في الوقت عينه فقرر السفر إلى القاهرة والتشاور مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات». (ص 236).
وعندما قام جنبلاط بالسفر بحراً إلى القاهرة عن طريق قبرص، «تعرضت الباخرة التي كانت تقله مع رفاق له بينهم المؤلف لهجوم عسكري بحري عنيف من طرّادات إسرائيلية استطاعت الباخرة تفاديه والوصول إلى ميناء لارنكا في قبرص حيث اتصل بجنبلاط الرئيس القبرصي آنذاك المطران مكاريوس وهنأه على النجاة وساهم في تسهيل باقي رحلته إلى مصر». ولما سأله الصحافيون في لارنكا عما حدث، قال جنبلاط إن ذلك كان «نتيجة للروح العدوانية التي تتسم بها دولة إسرائيل بحيث تتعرض وحداتها البحرية العسكرية لوفد مدني أعزل على متن باخرة مدنية في عرض البحر». (ص 237).
ولدى وصول جنبلاط إلى مصر، «أقام الرئيس السادات له استقبالاً حافلاً ودعاه لزيارة مجلس الشعب المصري مُعرفاَ إياه على النواب بالمناضل العظيم والمفكر الفيلسوف. وكال السادات في لقائه الخاص مع جنبلاط نعوتاً سلبية ضد سوريا وقيادتها». (ص 239).
بيد أن جنبلاط لم يوفر السادات من بعض الانتقادات لنظامه المعبرة عن مواقفه من الديمقراطية والقومية العربية التي يجب أن تُطبق في المنطقة وفي كل بلدانها.
وفي الوقت عينه كانت الأخبار ترد عن امكان إرسال قوات عربية ودولية إلى لبنان لوضع الحد للاقتتال بين اللبنانيين في النصف الثاني من عام 1976. وكان جنبلاط (حسب قول الكاتب): «يحرص خلال التداول مع السادات على أهمية مشاركة قوات من فرنسا وبعض الدول الأوروبية بالإضافة إلى الدول العربية في إطار تلك القوات المزمع إرسالها إلى لبنان، كما حاول أيضاً إقناع القيادة السوفييتية بأن تشارك فيها. إلا أن الجهات الدولية تحفظت خشية تورط قواتها في لبنان (آنذاك) قبل أن تحصل مصالحة حقيقية بين القوى اللبنانية المتقاتلة». (ص 240).
وأشار دلول في الفصل الرابع من الكتاب وعنوانه «الحرب الأهلية اللبنانية» أن جنبلاط كان في بداية تلك الحرب يسعى إلى مصالحة مع خصومه اللبنانيين برغم عدم اقتناعه مبدئياً بصيغة حكم عام 1943 التي تركز على أن ميثاقا وطنيا بين الطوائف اللبنانية سيوفر الازدهار للبنان. برأي جنبلاط، «هذه الصيغة أتت مبتورة وزادت الفوارق الاجتماعية والمناطقية وفاقمت التوتر في لبنان ما سيؤدي إلى ثورة». (ص 198).
كما أن جنبلاط (حسب الكاتب) حاول إطفاء فتيل الانفجار العسكري الخطير الذي كان قد يحصل بين قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وقيادات الميليشيات اللبنانية في أكثر من مناسبة وخصوصاً عندما كان وزيراً للداخلية في أوائل السبعينيات من القرن الماضي وحتى بعد ذلك.
فقد عالج أزمة حدثت في منطقة الكحّالة الواقعة قرب بلدة عاليه بعدما أطلق شباب مسلحون من تلك المنطقة النار على اوتوبيس يقل فلسطينيين عائدين من تشييع شهيد فلسطيني في دمشق وقتلوا عشرة منهم. فبعدما استعدت مجموعات فلسطينية للرد، «اتصل جنبلاط بالقائد الفلسطيني الراحل أبو يوسف النجار واقنعه بعدم القيام بذلك ونظم جنبلاط بالتعاون مع أبو يوسف تبادل تعازٍ بين الجانبين جنّب البلاد وقوع أزمة حرب أهلية قبل حرب 1975». (ص 89).
كما يقول الكاتب إن «جنبلاط أقنع أبو أياد، خلال غياب الرئيس ياسر عرفات عن بيروت، بعدم الرد العسكري على حادثة عين الرمانة في عام 1975 بعدما قتلت عناصر ميليشياوية مسيحية مسلحة هناك عدداً من الفلسطينيين كانوا متوجهين في اوتوبيس مرّ في منطقتهم فاعتبروه تحدياً لهم، وذلك في حادث مشابه لحادث الكحّالة السابق. ونجح جنبلاط آنذاك في إقناع قيادات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير باتخاذ المواقف السياسية المتشددة ضد تلك الميليشيات بدلاً من المواجهة العسكرية الأكثر خطورة».
غير أن إصرار الجهات المعادية للبنان على تنفيذ مثل تلك الجرائم والفتن لإشعال فتيل الحرب الأهلية نتج عنه اغتيال شقيقة جنبلاط ليندا التي كانت تسكن في منطقة بدارو التابعة للشطر المسيحي لبيروت.
وبرغم ذلك، يقول الكاتب: «عُقِد لقاء تعزية بين بشير الجميل قائد القوات اللبنانية الكتائبية آنذاك في منزل المؤلف دلول وذلك في أوائل آذار/مارس 1976 عبّر فيه الجانبان عن استعدادهما لضبط الأمور والاتفاق على برنامج إصلاحي للبلد. ووافق بشير الجميّل في ذلك اللقاء على برنامج الإصلاح الذي أعدته الحركة الوطنية كصيغة للتسوية السياسية بين الأفرقاء في البلد لإنهاء الصراع المسلح. وقال إنه مع تطبيق كامل لبنوده باتجاه الدولة المدنية في وقت كانت فيه القوات السورية العسكرية بدأت بالتمدد والانتشار على الأرض اللبنانية وهو أمر عارضه كمال جنبلاط وبشير الجميل. ووصف القائد الفلسطيني الراحل أبو حسن سلامة الذي رافق بشير إلى ذلك الاجتماع بجنبلاط هذا التمدد السوري بمحاولة للتشويش على ذلك الاجتماع». (ص 213).
علماً أن جنبلاط بادر إلى عرض ما توصل إليه مع الجميل على أركان الحركة الوطنية، ولكن الجبهة اللبنانية المؤلفة من القيادات التقليدية القديمة في الجانب اللبناني المسيحي السياسي، «سارعت إلى إعلان رفضها لما اتفق عليه كمال جنبلاط وبشير الجميل تحت حجة أن بشير قدّم للحركة الوطنية أكثر مما يجب تقديمه». (ص 214).
ويذكر الكاتب أن كمال جنبلاط كان قد رفض حدوث ردٍ عسكري سوري على مجزرة الكرنتينا التي ارتكبتها الميليشيات المسيحية في عام 1975 وذهب ضحيتها عدد من اللاجئين الفقراء الذين يسكنون تلك المنطقة على مقربة من بيروت. واستقر رأي الحركة الوطنية على القيام بهجوم عسكري على بلدة الدامور ذات الأكثرية المسيحية في جنوب بيروت «وحدثت مجازر مؤسفة هناك ارتكبها فيلق من جيش التحرير كان تحت امرة النظام السوري». (ص 208) حسب قول الكاتب.
يحاول الكاتب دلول تفسير تحول القائد كمال جنبلاط إلى اعتماد موقف معارض للنظام السوري تحت قيادة حافظ الأسد بعد كونهما سابقاً على تشاور بان «جنبلاط أصبح تحت التأثير الكبير للرئيس ياسر عرفات خصوصاً على أثر التقدم العسكري للقوات المشتركة في الدامور والنشوة العسكرية للحركة الوطنية وحلفائها ورغبتها في إكمال غزوها لمناطق أخرى من المناطق ذات الأكثرية المسيحية في لبنان المتن والكحّالة وجونيه، فيما لم يوافق حافظ الأسد على ذلك ولم ينجح الأسد في إقناع جنبلاط بمجاراته في مواقفه، فحدث اجتماع صاخب وطويل بين القائدين في دمشق أدى إلى قطيعة نهائية بينهما».
ولكن مثل هذا التحليل يتناقض مع تحليلات الكاتب الأخرى عن شخصية جنبلاط التي وردت في الكتاب. وعلى الأرجح أن تفسير خلاف جنبلاط والأسد يرتبط إلى درجة أكبر بسيطرة قوات الردع العربية السورية على القرارين اللبناني والفلسطيني، بالإضافة إلى إصرار جنبلاط على المشاركة في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة في آذار/مارس 1977 وتقديم موقف لبناني ـ فلسطيني مشترك يعارض استمرار دور القوات السورية في لبنان.
محسن دلول: «الطريق إلى الوطن ربع قرن برفقة كمال جنبلاط»
هاشيت أنطوان، بيروت 2025
275 صفحة.