ثقافة وفنون

صناعة المستحيل حرفة من يستطيع العبور للمستقبل

صناعة المستحيل حرفة من يستطيع العبور للمستقبل

نعيمة عبد الجواد

الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius (121-180) كان آخر الحكَّام في سلسلة «الأباطرة الخمسة الصالحين»، وهو يعد آخر إمبراطور فيما يعرف باسم «حقبة السلام الرومانية» أو الـ «باكس رومانا» التي عمّ فيها هدوء نسبي واستقرار في الإمبراطورية الرومانية. لقد حقق المستحيل بكونه أوَّل حاكم فيلسوف، وكان أيضًا ينتمي لمذهب «الفلسفة الرواقية» التي تضع الفضيلة نصب الأعين، وتدعو إلى السيطرة على النفس للبعد عن الرذيلة، والارتقاء بالنفس البشرية.
ويعد كتابه «التأمُّلات» Meditations من أوائل كتب التنمية البشرية وأيضًا العلاج النفسي والروحاني بطريقة تلامس المفاهيم الحديثة. ولعل السبب في هذا هو البعد عن المبالغة الشديدة، وكذلك الإغراق في تمجيد الفضيلة. فلقد آثر الأسلوب العملي المنطقي الذي يلامس الإنسان حتى في عصر التكنولوجيا والتطوُّر العلمي المذهل. ومن الطريف أن ذاك الكتاب، الذي يقع في اثني عشر مجلَّدًا، اتَّخذ منه ماركوس أوريليوس مرشدًا روحيًا وهاديًا، كما لو كان كتبه لتذكير نفسه، أوقات الشدائد، بأنه أقوى من الظروف وقادر على السيطرة على ذاته. وأمَّا الأطرف أن ذاك الكتاب، الذي يأتي في صورة خواطر، قد كتبه أوريليوس بينما كان في بعثات حربية أو يخطط لمعارك، وربما كان ذاك هو السبب الأساسي في أنه عمليّ اللغة والأسلوب، ولا يسعى إلى الإغراق في الإسهاب أو الجدل أو حتى الغموض الذي يلف المخطوطات الفلسفية.
ولقد بعث كتاب «التأمُّلات» من جديد بعد العقد الأوَّل من الألفية الثالثة؛ بسبب أهمية ما احتوى عليه من نصائح تساعد الإنسان الحديث في البعد عن التخبُّط في عالم اختلط فيه الواقع بالعالم الافتراضي، ما أذاب الفواصل بين الفضائل والرذائل. ولأن ماركوس أوريليوس يتَّبع المذهب الرواقي في الفلسفة، كان يقدِّر أهمية الفضيلة ووجوب اعتبارها ليس فقط الخير الأعظم، بل الوحيد. أمَّا ما يليها من أمور فهو مجرَّد أشياء خارجية يجب التعامل معها بحكمة.
فلقد اعتبر الرواقيون أن، على سبيل المثال لا الحصر، الصحة والثروة والمتع بأشكالها مجرَّد أمور لا تنم على الخير أو الشرّ؛ فهي مجرَّد أشياء ليست سيئة أو جيدة في حد ذاتها، لكن أيضًا لها قيمة كبيرة لأنها مادة تعمل على اختبار الفضيلة بداخلنا. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبارهم مقياسًا لمدى مرونة الشخص عند مواجهة الهموم والشدائد. فالرواقي يجب أن يشعر بالسعادة في جميع الأحوال؛ لأنه يعتقد أن التحلِّي بالفضيلة هو الشيء الوحيد الذي يكفي لتحقيق السعادة.
وعلى هذا، فإن العاقل سوف يصبح سعيدًا عند مجابهة سوء الحظ أو علو نجمه، وتلك هي المرونة العاطفية التي تحققها الفضيلة. فالشعور بالتعاسة ينجم فقط من المشاعر المدمرة التي تسيطر على البشر بسبب الخطأ في الحكم على الأحداث والوقوع في دائرة عدم المرونة العاطفية، والتي تسلب المرء إرادته الحرَّة. وعلى مر العصور، فإننا قد نشهد حكماء يتفوَّهون بأعظم الكلمات، أو -على النقيض- سفهاء عاقروا التفاهة، لكن في وقت الشدائد وتعثُّر الحظوظ قد تذهب الأمور إلى النقيض، ويتحوَّل الحكيم إلى شرير أو أناني، والعكس صحيح. وبناء على ذلك، فالفلسفة الرواقية تهدف إلى تنمية إرادة تتوافق مع الطبيعة، وأن الحكم على المرء لا يجب أن يكون قائمًا على أقواله بل على تصرفه، وخاصة في أوقات تبدُّل الحظوظ.
ويعج التاريخ بالنماذج الرَّاقية التي اهتدت إلى درب الفضيلة، ولهذا استطاعت تخطي حدود الزمان والمكان، بل وأن تلك النماذج يعاد اكتشافها مرة تلو الأخرى، مهما شابها الغبار. ولعل السبب في خلود تلك الشخصيات هو الاعتقاد فيما ذكره ماركوس أوريليوس، وخاصة في مقولته: «لديك السلطة على عقلك، وليس على الأحداث الخارجية. أدرك هذا، ولسوف تجد القوة». ولا يعني هذا أنهم كانوا أتباعًا للفلسفة الرواقية أو حتى قرأوا مخطوطة «أوريليوس»، بل كانوا أشخاصًا اهتدوا لينبوع الفضيلة، وعاشوا تبعًا للإرادة التي تتوافق مع الطبيعة.
ومن الشخصيات التي استطاعت عبور حدود الزمان والمكان، الروائي الروسي الرائع فيودور ديستويفسكي Fyodor Destoevesky (1821-1881) الذي صارت رواياته بمثابة نبراس تحليلي لخفايا ودوافع النفس البشرية. كانت مسيرة حياة «ديستويفسكي» تسير تجاه الهاوية في كل الأمور. فلم يتمتع بالبنية الجسمانية الروسية التي تعطي للرجل هيبته. فمقياس الرجولة والفحولة عند الشعب الروسي منذ قديم الأزل وحتى وقتنا هذا هو البنية الجسمانية القوية، والطول والصحة الجيدة، والقدرة على ممارسة الرياضة أو الأعمال الجريئة جسمانيًا. لكن على النقيض، كان «ديستويفسكي»؛ فهو ضعيف البنية ومعتل الصحة. وبالإضافة إلى هذا، لم يدركه الحظ أو الثراء، بل كانا أيضًا، فيما يبدو، ينفران منه. فبالرغم من موهبته العظيمة، كان محل ازدراء ونفور من دائرة الأدباء. وناله أكبر نصيب من سوء الحظ عندما تم سجنه في أعتى السجون الروسية، سجن سيبيريا، بسبب مواقفه السياسية.
وبالرغم من فقره واعتلال صحته وتحمله للمعاملة التي لا يمكن أن تليق بفرد يتمتع بموهبته الكبرى، كان يقابل الجميع بابتسامة كبرى ونفس راضية بشوشة، ويحاول أن يلعب دور المضيف المثالي حتى ولو كان يشعر بأشد الآلام التي لم يكن يستطيع أن يتحمَّلها أحد. لقد اتسمت رحلة حياته بمرونة عاطفية غير مسبوقة، وكان على أتم الثقة أن الدنيا لن تتأثر مسيرتها بموته، بل سيطويه التراب ولن يتذكَّره أحد. لقد عاش ديستويفسكي تبعًا للفضائل الرواقية دون أن يدري، وجابه الحياة بشجاعة وصلابة على الرغم من ظروفه القاسية. ولذلك، صارت جائزته الكبرى الخلود والقدرة على تحقيق المستحيل. ففي الوقت الحالي، لمع نجم «ديستويفسكي» لأن ما يسطره من حكايات حكيمة عميقة المعنى في رواياته يجد فيها الإنسان الحديث وسيلة للشعور بالقوة، كما لو كانت علاجًا نفسيًا وروحيًا. وتتويج صبره على منايا الدنيا ورذائلها كان أيضًا فوريًا. فلقد اعتبر ديستويفسكي أن حياته التي استمرَّت في الظلال سوف تنتهي في ظلمة حالكة. لكن المفاجأة كانت جنازته التي قيل إن عدد الحضور فيها فاق المائة ألف فرد، رغمًا عن تشديد الرقابة السياسية على الاحتفاء به. واستمر تأبينه في روسيا وعبر حدودها إلى العالم بأكمله، وهذا اعتراف بموهبته الكبرى التي لم تحد عن الفضيلة. لقد حقق السعادة في حياته وبعد موته بسبب أفكاره النوعية وعدم الانخراط في المشاعر المدمرة؛ وهذا لاعتقاده أن ما يحدث حوله هو مجرَّد أحد جوانب الحقيقة.
وعلى الجانب الآخر، أكَّدت رحلة حياة وشهرة الروائي الروسي ليو تولستوي Leo Tolstoy (1828-1910) أن الثراء والصحة والمتع مجرّد أدوات لاختبار الفضيلة، أو كما يشاع في القول الدارج، مجرَّد ابتلاء لاختبار المعدن الحقيقي لصاحبها. فعلى نقيض ديستوفسكي، تمتع تولستوي منذ مولده بكل شيء، وحياته في طبقة النبلاء جعلت كل أحلامه أوامر واجبة التنفيذ، لكنه دومًا كان يشعر بأن هناك أمراً ما ينقصه ويقض سعادته. وعندما بدأ كتابة الرواية وتحدث عن المشكلات التي تواجهها طبقة النبلاء والتعقيدات الناجمة بسبب الحياة العسكرية، كان يقلقه أنه لا يلامس الطبقات الفقيرة المهمشة. وكلَّما كان يعلو نجمه على المستوى العالمي، لم يكن يملأه الفخر والغرور، بل يبحث عن شيء يرضيه؛ فلقد كان دومًا يشعر بالتعاسة، تعاسة خلقتها أفكاره المدمرة وحرمته من نعمة السعادة والمرونة.
وحتى يشعر بالسعادة، نبذ حياة الترف وعاش مع الفلاحين البسطاء وارتدى أسمالاً بالية، بل وتبرع للفقراء بأمواله وبنى لهم مدرسة. لكن الشهرة لم تهجره، ومدارسه التي بناها، لم يرتدها أحد من المزارعين أو أبنائهم؛ لأن حياتهم الصعبة كانت تملي عليهم ضرورة العمل لإيجاد لقمة العيش، وهذا بالنسبة لهم أفضل من التعليم. فشظف العيش يجعلهم يعتقدون أن التعليم مضيعة للوقت. النجاح خنق تولستوي وعذبه، فمات تعيسًا بالرغم من كونه فارق الحياة وهو محاطًا بالأدباء والصحافة العالمية وشهرة حدودها السماء. تعاسة تولستوي مصدرها البحث عن الفضيلة وإقامة الحق. لقد حقق ذاك الحلم بالفعل، وأيضًا أصبح نموذجًا رائعًا لها، لكن حلمه كان أكبر. حلم تولستوي بتغيير الواقع الصعب الذي لا تفيق منه الطبقات المهمشة، لكن أسلوبه الذي يحض على الفوضوية لم يجلب له سوى التعاسة. لقد حلم بتغيير العالم ما بين ليلة وضحاها، فصار حلمه ثقلًا ألهب ظهره، ومصدرًا لألم عميق.
الذي فهم وطبَّق المذهب الرواقي دون أن يدري كان ديستوفسكي، ودون أي عناء يستطيع حتى وقتنا هذا تغيير الواقع والعبور إلى المستقبل بسلاسة وقدرة بالغة. لقد كان منهاج ديستوفسكي، الذي أمَّن له السعادة هو «لو داهمك الحزن من جرَّاء أمر خارج عن إرادتك، فإن الألم الذي تشعر به ليس بسبب هذا الأمر ذاته، بل بسبب تقديرك لحجمه. ومن ثمَّ، لديك القدرة على درء الألم متى شئت»، وهذا كان أحد أبرز مبادئ ماركوس أوريليوس في مخطوطته الرائعة «التأملات».
السيطرة على الذَّات تجعل الإنسان يدرك مباهج الحياة ويراقب حركة النجوم وتتراءى له نفسه بأنه صار جزءًا منها، ويسير بثقة في أفلاكها. تلك حقيقة ليس من المستحيل تحقيقها، لكن أكبر المستحيلات هو إجبار نفس آثرت أن تنظر للحياة من منظور ضيق أن تخرج إلى النور وترى أن الكون فسيح ويتسع للجميع. المستقبل مازالت أبوابه مفتوحة للجميع، لكن من يستطع العبور منه ويكتب اسمه بين الخالدين هو من استطاع أن يفهم ويتأمل معنى الحياة.

٭‭ ‬أكاديمية‭ ‬مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب