
قبة حديدية سورية في مواجهة طوفان التزييف

راشد عيسى
هل يمكن أن يكون الواقع السوري اليوم، بعد الأحداث المروعة التي عاشها الساحل السوري، ومناطق أخرى، نسخة مما صنعه الإعلام، الرسمي كما البديل؟
يمكن القول إننا نعيش، حرفياً، في قلب طوفان من الأخبار المزيفة، ولا يمر يوم، وربما ساعة، من دون أن نتلقى خبراً مزيفاً، وقد نقع في فخاخها بالفعل، من شدة الإلحاح وقوة وسرعة التداول. فخاخ لن ينجو منها إلا من أغلق كل أجهزته وقنوات تواصله مع العالم.
ليس غريباً أن تكون سوريا، وكل الدول المتأثرة بالتطورات فيها، هدفاً كبيراً للأخبار المضللة، فليس من السهل على محور الممانعة أن يخسر تلك البقعة «العزيزة»، طريق السلاح وغدق الأموال والكبتاغون، وما خسروه بقوة الثورة وأحلام الحرية والسلاح سيجهدون على استعادته بشتى الطرق الممكنة.
كان من السهل، في الأيام الأخيرة، أن نصدق أي فيديو، أو سكرين شوت، بالقدر نفسه الذي ننكر فيه أي فيديو، إذ بات لدينا الإيمان الكافي أن للذكاء الاصطناعي قوة هائلة على اختراع أي حقيقة
منذ ما بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول نعيش فعلياً، إن لم نقل نغرق، في طوفان الأكاذيب، وبالطبع لم تكن تلك لتنطلي لو كان هناك من اليقظة ما يكفي عن جمهور السوشال ميديا. ولقد أثبت تطور الوقائع في الساحل السوري أخيراً حيث انقلاب الفلول الخبيث واللئيم على الدولة أن التزييف أتى أكله، وأن الأرض سهلة لتصديق أي شيء. هناك عدد هائل من الصفحات المزورة التي نالت حظاً كبيراً من المتابعة، وهناك وجوه وألسنة مشهود لها بالكذب والتلفيق والإنكار تحظى بآلاف أو مئات الآلاف من المتابعات والمشاهدات من دون أن تجد من يقول لها كفى، من دون أن يعاقبها أحد حتى بمجرد المقاطعة.
لم نرد أن نصدق، أو ربما لم نكترث كثيراً، أن أكياس القمامة تلك في طريقنا ستتحول إلى كومة هائلة راسخة بعد حين، وربما سنسأل أنفسنا من أين جاءت!
كان من السهل، في الأيام الأخيرة، أن نصدق أي فيديو، أو «سكرين شوت»، بالقدر نفسه الذي ننكر فيه أي فيديو، إذ بات لدينا الإيمان الكافي أن للذكاء الاصطناعي، للمؤامرات الصنعية، قوة هائلة على اختراع أي حقيقة، وجعلها تمشي على الأرض فوراً ككائن فرانكنشتاين.
تأخرنا في استيعاب وتكان من السهل، في الأيام الأخيرة، أن نصدق أي فيديو، أو ‘سكرين شوت’، بالقدر نفسه الذي ننكر فيه أي فيديو، إذ بات لدينا الإيمان الكافي أن للذكاء الاصطناعي قوة هائلة على اختراع أي حقيقة.صديق انقلاب الفلول، إلى أن بتنا نشاهد نعوات أصدقاء لنا لأبنائهم وأعزائهم ممن استشهدوا في كمائن هنا وهناك، كما تأخرنا في تصديق حدوث مجازر، إلى أن باتت عائلات أسماء معروفة موثوقة، وعلى ضفة المعارضة، ضحايا الاقتياد والقتل في الشارَع.
وما زلنا، مع ذلك، حتى الساعة، ضحايا سيل لا يتوقف من التزييف.
وقد حذّرت وزارة الإعلام السورية، بالفعل من حملات تحريضية، بهدف إثارة الفوضى ونشر التضليل. وتحدّثَ بيانٌ لها عن «تكثيف جهات معادية حملاتها التحريضية، عبر وسائل الإعلام، بهدف إثارة الفوضى ونشر التضليل». وأنها «رصدت خلال اليومين الماضيين، محاولات ممنهجة لإعادة تداول صور ومقاطع مصورة قديمة، يعود بعضها إلى سنوات سابقة وأخرى مأخوذة من خارج البلاد». وأن ذلك «بهدف التلاعب بالرأي العام، وتقديمها على أنها أحداث جارية في الساحل السوري، في محاولة واضحة لإثارة الفتنة وزعزعة الاستقرار». كما دعت الوزارة المواطنين إلى «التحلّي بالوعي وعدم الانجرار وراء الأخبار المضللة، التي تستهدف النسيج الاجتماعي.، وأكدت على «ضرورة الاعتماد على المصادر الرسمية للحصول على المعلومات الدقيقة، لما لذلك من أهمية في الحفاظ على الأمن والسلم الأهلي».
مطالبة صادقة تعكس مقدار ما أصابته الأخبار المزيفة من ضحايا، ولكن هل تكفي مطالبة الحكومة الجديدة للمواطنين باليقظة والانتباه حتى يتيقظ المواطنون وينتبهوا بالفعل؟ أليس من الواجب دعم تلك اليقظة بالمعلومات والكافية وبإعلام رصين يستحق الثقة؟
فما الذي فعلته الحكومة على صعيد الإعلام خلال شهور ما بعد سقوط النظام؟ حتى الآن الشاشات التلفزيونية الرسمية معطلة، ويجري بدلاً منها الاعتماد على إعلاميين قليلي الكفاءة (اللهم إلا براعة التقاط النجوم وصور السيلفي)، وعلى صفحاتهم على فيسبوك، وتيلغرام، كما لو أنها تنظيم مطارد لا دولة. فالخبر الأول، والمقابلة الأولى، والسبق الإعلامي يعطى لقناة بعينها، لا لمرة واحدة، بل طوال الوقت. فهمنا ورضينا بمحاولات كسب جهات عربية وعالمية مؤثرة وحاسمة للعب دور في معيشة السوريين، ولكن ليس إلى حد احتقار إعلامنا المحلي. وعلى أي حال، ليس الغرض الآن لا إعلاء الشأن، ولا الاستخفاف، بل أن تأخذ كل تلك الوسائل دورها في وصول المعلومة الموثقة، بالصورة والصوت، بكل ما أمكن من أدوات.
الميديا الاجتماعية كانت الأرض الأكثر خصوبة لأخبار مزيفة هدفها استثارة النزعات الطائفية وخطاب الكراهية، ظلوا ينفخون بهذا الصُور، إلى أن أرفقوه أخيرًا بانقلاب الفلول الدموي
ثم أين هم الخبراء السوريون في الإعلام؟ لماذا أصواتهم تملأ كل قنوات وشاشات وصحف العالم إلا حيث يجب أن تكون؟ في إدارة مؤسسات إعلامية ذي كفاءة على الأرض السورية.
لقد كان من أبرز إنجازات الثورة السورية أنها صنعت جيلاً رائعاً من إعلاميين وسينمائيين، خصوصاً في مجال الفيلم الوثائقي، وإذا أضفت إليهم الحقوقيين ومنظماتهم التي يشار إلى إنجازاتها بالبنان، سيكون لدينا قبة حديدية لا يستهان بها في مواجهة الأكاذيب.
معلوم أن إنجاز الثورة الأول، ومنذ لحظة انطلاقها، اجتراحُ أساليب مبتكرة في التوثيق، فلأن حجم إنكار النظام البائد كان هائلاً، وكذلك إنكار مؤيديه، فقد جاءت قوة التوثيق على قدره وأكثر. ولعلنا نذكر تلك القصاصات من صحف النظام اليومية التي يظهر فيها تاريخ ذلك اليوم، توضع بارزة في أول فيديو المظاهرة، وتكاد ترن في آذاننا الآن أصوات مصوري الفيديوهات، تلهج بأسماء القرى والمدن المنتفضة.
إذن لماذا نضيّع الإنجاز، ونصر على البدء من الصفر، ما دام هناك تجربة متراكمة وخبرات بعضها يناشدكم الاستفادة من خبراته.
الميديا الاجتماعية كانت الأرض الأكثر خصوبة لأخبار مزيفة هدفها استثارة النزعات الطائفية وخطاب الكراهية، ظلوا ينفخون بهذا الصُور، إلى أن أرفقوه أخيراً بانقلاب الفلول الدموي، فاشتعل فتيل التحريض والطائفية لدى البعض. وما ظللنا ننفيه، وبحق، عقداً بحاله، من شعارات طائفية مزعومة ألصقت بظهر الثورة، خرّبه فيديو لمجموعة متطوعين يوزعون وجبات على الصائمين، مع عبارة طائفية في منتهى البغض.
في خلفية المجزرة الرهيبة في رواندا، حيث أفظع صور القتل، والكراهية، والتحريض على جريمة التي ارتكبها الجيش ومعه الشرطة والميليشيات، كانت الإذاعة البغيضة تحرّض علناً على القتل، ولا تتردد في وصف التوتسي بالصراصير، ولا تكفّ عن الشحن، إلى حد أن الإدانة كانت من نصيب الإذاعة، تماماً كما ميليشيا الشبيحة والجنرالات وسواهم.
«إن القتل حرام، وجميع أنواع القتل يعاقب عليها القانون، إلا إذا نفخ في الصور فيصبح القتل بالآلاف مباحاً». بعبارة فولتير هذه يقدم جوشوا أوبنهايمر فيلمه الوثائقي المذهل «the act of killing».
أما كيف ينفخ في صور التحريض، فهذا له ألف طريقة وطريقة، وقد تبدأ بالسؤال (وفي ظل المجزرة!): «وين كنتوا لما؟».
* كاتب من أسرة «القدس العربي»