ثقافة وفنون

الغيّ والرّشد في التنزيل: النبوة والهوى

الغيّ والرّشد في التنزيل: النبوة والهوى

توفيق قريرة

لم يكن إبليس ذا برنامج مسبق وهو يغوي حواء بالتفاحة، بل كان عنصرا من عناصر تنفيذ خطة إلهية يكون فيها المنطق السببي هو ما يفسّر انتهاء الأوضاع إلى مآلات بعينها. كان اتباع الهوى طريقا إلى الغواية، وقد جاءت التوصية الربانية واضحة في قوله تعالى: قال الله تعالى في سورة الأعراف (176): (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ).
صحيح أنّ هذا القول لا ينطبق صراحة في منطوق النصّ على آدم، بل على الإنسان بصفة عامة، لكنّ آدم خاضع لهذه المقولة من جهات ثلاث فهو، أوّل من نزل إلى الأرض وغادر جنات الخلد، وهو أيضا من اتبع هواه، وهو ثالثا لم يكن ممّن شملته رحمة الربّ بأن يجعله مترفعا عن هذا الهوى، بل جعله خاضعا له.
لقد اقترن فعل الهوى بسياقات سلبيه جعلته متمحّضا للغواية وفقدان الرشد. يمكن القول مبدئيا إن دلالة الجذر (ه. و.ي) موجّهة إدراكيا وجهة واحدة غالبة هي، وجهة الغي المناقضة لوجهة الرشد، ذلك أنّ الهوى لا يطلق في القرآن على العاطفة الموجبة، بل يطلق على نتائجها السالبة، التي قد تعني العدول عن الحقّ والانحراف عنه، في مقابلة مع العلم بالشيء، أي العلم بما هو أخذ للرأي بالعقل وبالحجة، وأمثلة هذا كثيرة، كما في قوله تعالى في سورة البقرة (120): ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾. الخطاب الموجّه صراحة إلى النبي عليه السلام فيه ضرب من التوجيه، الذي يقترن بفعل منذر. فإرضاء اليهود والنصارى لن يكون إلا باتباع ملتهم، أي الخروج من تعاليم الدين الجديد؛ وقد تضيع الأمانة بفقدان الرسالة، وهذا هو هوى من اتبع اليهود والنصارى لإرضائهم ونفذ بالتالي خطتهم في الترغيب والغواية للوصول إلى ما يخرج عن التعاليم الربانية الأصلية. الهوى حسب هذه الآية: معالجة إدراكية فيها تفاعل مع المحيط المخاتل، بما يرضيه ولا يرضي المنطق الإيماني الجديد المعلل والمنجي من التهلكة. إنّ الهوى هو طلب للتكيف مع الآخرين، ولكنّه تكيّف مقلق في المنتهى والمآل، وإن كان مريحا راحة أولى في مبادئ الأشياء.
إنّ الهوى هو مرحلة مؤسسة للإغواء وهو بما هو عاطفة فاقدة للبوصلة نوع من العاطفة التي ربما استبدت بالأنفس، لا لكي تبعث فيها الطمأنينة، بل لكي تشوش على التوازن العالم والعارف الذي يكون للبشر بعد اليقين. ليس العلم معالجة عقلية لمعطيات دينية مقنعة، بل للعلم أيضا مصدر قلبي، ولكنه قلب من يصيب في اختيار الحق على النقيض من القلب الذي يفقد الاتجاه ويضيع البوصلة. وقد نجد في بعض المواضع من النص القرآني ذكرا لتغليب قلب الهوى على قلب الإيمان الصحيح إذ يقول تعالى في سورة «الكهف: 28): ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وكان أمره فرُطا﴾. يقول الطبري مفسرا: «ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار بالكفر.. واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه، وهم فيما ذُكر: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم».
ما يلحظ في كلام المفسر ورواياته سعيه إلى تسميه أصحاب الغواية، الذين يريدون بالهوى إغواء النبي (صلى الله عليه وسلم) وإبعاده عن سواء السبيل. هل من الممكن أن يحتفظ التاريخ بأسماء أصحاب الهوى، دون أن يكونوا فاعلين في التاريخ؟ وهل من الممكن أن يكون التاريخ احتفظ بأسمائهم، دون أن يحتفظ بالأحداث التي دبروها من أجل الكيد للرسالة الجديدة؟ لكن دعنا نفسر ما يمكن أن يحدث من أمر الهوى حين يراد له أن يؤثر في الهاوين ويزحزحهم عن مسارهم الصحيح ليوقع بهم في المهوى. إنّ الأمر ليندرج ضمن ما يسمى بالتحيز العرفاني وهو طريقة في توقع الأشياء وتسيير الأحداث، يعتقد فاعلها أنّها مجلبة للخير ولكنّها في الواقع ليست كذلك.

فقد روى المفسرون في مناسبة هذه الآية «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه، في ما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبائل العرب ممّن لا بصيرة لهم بالإسلام، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا، قالوا: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القيام، ويتركهم قعودا، فأنزل الله عليه ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، الآيَةَ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يريد زينة الحياة الدنيا: مجالسة أولئك العظماء الأشراف». التحيز العرفاني يتمثل في الميل إلى مجالسة الأشراف على حساب مجالسة الصادقين الثابتين. التحيز العرفاني هو طريقة في تحليل الوقائع وتفسيرها، بشكل غالبا ما لا يكون ذا صلة بالواقع. لأنّ الهوى هنا هو اختيار أشراف يراد لهم أن يدعموا الدين الجديد، وهذا اختيار براغماتي يؤيده الواقع، لكنه هوى يمكن أن يوقع في الزلل، باعتبار أنّ التراتب لا يكون إلاّ بالإيمان الثابت، وليس بالشرف الأثيل. والأمر نفسه يصدق على الآية السابقة، إذ تشير أيضا إلى أنّ التحيز العرفاني يمكن أن يكون بناء على تكريس تجربة اجتماعية سابقة فيها الاحتفاء بالأهمّ في ترتيب الأفضلية الاجتماعية، على حساب الأقل أهمية؛ وهذا سلوك قد ذكر في (سورة عبس 1، 2) في قوله تعالى: (عبس وتولّى أن جاءه الأعمى) قال الطبري: «عن عائشة قالت: أنـزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أمّ مكتوم قالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر ويقول: «أتَرَى بِما أقُولُهُ بأساً؟ فيقول: لا؛ ففي هذا أُنـزلت:  (عَبَسَ وَتَوَلَّى)».

كان النصّ من هذه الجهة ناقدا بمعنى أنّه يطالب الرسول بأن يكون بعيدا عن هذا الضرب من التحيز البراغماتي. إنّ في الهوى في هذا المعنى حسابا نفعيا من يتمثّل في أنّ دعوة المشركين من أصحاب السطوة والمال يمكن أن تنفع الدين الجديد على الأقل من جانبها التأثيري؛ وأنّ إيمان من كان دونهم أمر مفيد، ولكنّه قد يأتي في مرتبة ثانية على الأقل مرحليا. لقد مارس القرآن بهذا التوجيه الصريح للرسول الداعي سلطة الحقّ المطلق الذي يبدو نقيضا لهوى من يمكن أن يُعرض له تحيز عاطفي في مرحلة ما من المراحل. إنّ الهوى بما هو تحيز إدراكي يعني في هذا السياق تصديق العادة، ذلك أنّنا ونحن نتعامل مع وقائع يمكن أن نتعامل معها، حسبما ساد في أذهان من يعيشون معنا: أنّ الأشراف مؤثرون ويمكن أن يفيدوا الدين الجديد؛ وأن يعيش المرء بهذه المعلومات دهرا يصبح ذلك هوى وغواية له، تمنعه من أن يكون داعية محايدا راجح العقل لا يتبع إلاّ ما يوحى إليه.
إنّ من أهداف التنزيل أن يصلح الهوى الأوّل، والتحيز الذي يمكن أن يحدث بناء على اعتبارات واقعية براغماتية لها وقعها في التاريخ؛ ولذلك كان للتنزيل دور تحديثي؛ فقد ورد في التفاسير أنّ ابن مكتوم أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمه، وقال له: «ما حاجَتُك، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيءٍ؟». هذا هو معنى التحديث: أن يراجع الرسول وللتو سلوكه الذي تعلق فيه قوّة العادة وسطوة الإنساني، ممثلا في الهوى من أجل أن يسمو سمو الرسل ويتعالى بالدين الجديد الذي هو رسوله عن حسابات الواقع من أجل يوم الحساب.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب