سوريا إلى أين؟ تكرارٌ للسؤال

سوريا إلى أين؟ تكرارٌ للسؤال
جلبير الأشقر
طرحنا السؤال قبل ثلاثة شهور وحاولنا الإجابة عنه بالتأكيد على استحالة اتفاق جميع الفصائل المتواجدة في سوريا على الخضوع لسلطة واحدة، وبإبداء الشك في تحوّل «هيئة تحرير الشام» (هتش) من السلفية الجهادية إلى الديمقراطية الشاملة لكافة مكونات الشعب السوري («سوريا إلى أين؟» 10/12/2024). وقد شهدت الأيام الأخيرة أحداثا قد توحي بسير الأمور في اتجاهين معاكسين بالنسبة لما توقعنا.
فإن مؤتمر «الحوار الوطني السوري» الذي دعت إليه سلطة هتش، بعد أن نصّبت نفسها حكومة لكامل الأراضي السورية ونصّبت زعيمها أحمد الشرع رئيساً للبلاد، إنما جاء غير مقنع على الإطلاق، تذمّرت شتى أطراف المعارضة السورية التاريخية من حيثيات الدعوة إليه. بل أكدت طريقة عقد المؤتمر نيّة هتش في السيطرة الكاملة على سيرورة إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية وصياغة دستورها الجديد. وإذ حظي الشرع بدعم إقليمي عربي تجلّى في الزيارات التي قام بها، لم يحظَ بثقة أو بدعم مماثل من بعض مكونات الشعب السوري الأساسية، سواء أكانت سياسية، أو طائفية، أو إثنية، أو مناطقية.
والحقيقة أن الشرع يتصرّف وكأنه سيّد الموقف بينما قوات هتش بعيدة عن أن يكون تعدادها كافياً للسيطرة على كامل الأراضي السورية، حتى لو استثنينا الجولان المحتل. فإزاء هذا الواقع الجلي، يسعى الشرع نحو تحييد المنافسين والأخصام كسباً للوقت، مراهناً على حصول هتش على دعم وتمويل يسمحان لها بناء قوة عسكرية تفوق قوة سائر الأطراف المسلّحة المتواجدة في شتى أنحاء الأراضي السورية. وفي هذا الانتظار، يقوم عادةً السلوك المنطقي على مهادنة القوي ريثما تتوفّر القدرة على التغلب عليه، مع استفراد الضعيف في هذه الأثناء.
أما الحدث الوحيد الذي قد يوحي بالسير على درب توحيد البلاد ديمقراطياً، فهو الاتفاق الذي أُبرِم يوم الإثنين الماضي بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي
وتأتي في هذا الإطار المجازر الطائفية البشعة التي وقعت في الأيام الأخيرة في المنطقة الساحلية والتي ذهب ضحيتها ما يزيد عن ألف من المدنيين العلويين حسب تقارير «المرصد السوري لحقوق الإنسان» وقد تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات مروّعة عن بشاعة المجزرة. وإذ ادّعت هتش أن جماعات غير منضبطة هي التي ارتكبت المجازر، يبقى أنها رعت هذه الجماعات المتطرّفة وتتحمّل مسؤولية أفعالها بالتالي، وقد انتهزت الفرصة كي تبسط سيطرتها على منطقة الساحل. أما إلقاء مسؤولية ما جرى على «فلول» نظام الأسد، فلا يجيب عن حقيقة أن هذه «الفلول» امتنعت عن القتال دفاعاً عن النظام البائد ولم تتحرك من جديد انتصاراً له، بل دفاعاً عن أهل طائفتها. بمعنى آخر، من يوصَمون اليوم بأنهم «فلول» إنما باتوا قوة طائفية على غرار ما لدى الطائفة الدرزية، وعلى غرار هتش نفسها التي هي قوة طائفية بامتياز، ناهيك من القوة الإثنية-القومية الكُردية.
أما الحدث الوحيد الذي قد يوحي بالسير على درب توحيد البلاد ديمقراطياً، فهو الاتفاق الذي أُبرِم يوم الإثنين الماضي بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، قائد «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) والذي ينص نظرياً على دمج قسد في إطار الدولة السورية الجديدة التي تهيمن هتش عليها. والحقيقة أنه من المرجّح أن يلحق هذا الاتفاق بالقائمة الطويلة من الاتفاقات التي لم تشهد تطبيقاً لها، أو تكاد، وانتهى بها الأمر في طي النسيان. ذلك أن ما أدّى إلى هذا الاتفاق، بعد وعيد الشرع نفسه بفرض هيمنة دولته على الشمال الشرقي السوري، هما أمران: الأول هو إدراك الشرع أن لدى قسد من القوة العسكرية ما يفيض عمّا لدى هتش اليوم، ناهيك من الدعم الأمريكي الذي تحظى به قسد حتى الآن. والثاني هو ضوءٌ أخضر تركي متعلّق بالخطوات القائمة داخل تركيا لإنهاء الحرب مع «حزب العمال الكردستاني» بعد دعوة زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، إلى إلقائه السلاح.
لذا يبدو اتفاق يوم الإثنين الماضي وكأنه أقرب إلى هدنة مؤقتة مما هو إلى خطوة فعلية نحو رسم معالم سوريا جديدة، تسمح بإعادة اندماج حقيقية للبلاد على قاعدة ديمقراطية تشمل درجة من اللامركزية الإدارية، بما يتيح لشتى مكونات الشعب السوري التعايش بسلام وإعادة الانصهار بعد عقود من القهر القومي والعرقي والطائفي بإشراف النظام البعثي المخلوع.
كاتب وأكاديمي من لبنان