مقالات

سوريا وناظمها الانتقالي: سؤال الشرعية

سوريا وناظمها الانتقالي: سؤال الشرعية

موفق نيربية

بعد تحقيق نتيجة باهرة لانطلاقة هيئة تحرير الشام من إدلب إلى دمشق، وانهيار نظام عائلة الأسد، جرى انتخاب أو اختيار رئيس “بديهي” ومؤقت للجمهورية من قبل ما سُمّي “مؤتمر النصر”، الذي جمع بضع مئات من قيادات الفصائل المسلّحة، التي ساهمت أو واكبت العملية. كان ذلك ضرورياً للإقلاع بالعملية السياسية للتغيير، التي ستُؤسّس على حالة رهيبة من التداعي الاجتماعي والاقتصادي والإداري والعسكري، خصوصاً المعيشي المباشر.
تمّ تشكيل “الحكومة المؤقّتة” من حكومة إدلب للإنقاذ نفسها تقريباً، مع إضافة وزير للخارجية وآخر للدفاع من أرفع كوادر الهيئة، وأقربها للرئيس الجديد، أحمد الشرع. وأُعلن مباشرة أن هذه الحكومة سوف تُستبدل بأخرى تقود المرحلة الانتقالية، وتكون محققة لشروط الشمول والمصداقية واللاطائفية. كما جرى تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر للحوار الوطني، أنجزت عملها تحت إشراف الرئاسة، وتمّ “سلق” المؤتمر وإغراقه بالحضور الذي لا يتناسب عدده وعدّته مع معايير مؤتمر للحوار، كما يعرفها الآخرون. وبطريقة أقرب لاستطلاع الرأي مع فريق تيسير متقدّم، بالاستعانة ربّما بالذكاء الاصطناعي، لتجميع توافقات الحضور؛ أنجز المؤتمر ورقة معقولة ترضي حدّاً معقولاً من الطلبات العامة للناس وليس كلّها.
وحتى تعمل الرئاسة والحكومة الانتقالية بشكل مقنع، كان لا بدّ من وضع إعلان مبادئ أو دستور مؤقت أو موجز، تستند إليه العملية المقبلة كلّها، حتى وجود دستور دائم وإجراء انتخابات. هذان الهدفان الأخيران كانا يتطلّبان حواراً سياسياً تلتقي فيه النخب السياسية والمدنية والمهنية والثقافية، لا كما جرى الأمر.
رغم ذلك، فإنّ موضوع هذا المقال عمليّاً هو الإعلان الدستوريّ، الذي سيتوسّع قليلاً بمُخرجات مؤتمر الحوار، وسيكون حتماً أرضية تؤخذ بالاعتبار بقوة أثناء كتابة مسوّدة الدستور الدائم، كما هو معروف في تجارب الأمم وتغيير الأنظمة.
لا بدّ أن موضوع” الشرعية” يُقلق أيّة سلطة جديدة أو طارئة، فلا بأس بالتوقّف قليلاً عندها، حيث هناك “شرعية سلبية” تتعلّق بالإجابة على سؤال “ما هو الشرعي؟” هل هو مفهوم الخير والشر، وما الذي يميّز بينهما، وذلك يتعلّق بالدين أحياناً، ولكن أيضاً بلوائح حقوق الإنسان والحريّات الأساسية؛ وأخرى “إيجابية” تتعلّق بالمصدر الذي يعطي الشرعية وكيف يعطيها: هل هو الملك المستبدّ، أم الشعب، بالإرادة السامية أم بالانتخاب والاختيار الحرّ؟ في مأثور العقد الاجتماعي، ركز هوبز ولوك على الشرعية السياسية السلبية (مع ذكر ما تمنحه الحكومة المطلقة من الأمن والحرية، على التوالي بالأهمّية)؛ بينما ركز روسو بشكل أكبر على الشرعية السياسية الإيجابية (سيادة الشعب كمانح للشرعية). يمكن القول إن الاستقرار السياسي يعتمد على كلا الشكلين من الشرعية، والتفاصيل تختلف حسب الزمان والمكان.

من أهمّ نواحي الخطورة في صياغة الإعلان الدستوري، أو الدستور المؤقت الجنوح إلى تحقيق مكاسب خاصة بالقائمين على الأمر في المرحلة المؤقتة والانتقالية

لا ريب أن ذلك مجهد لقوى تجهد للتأقلم مع متطلّبات الحداثة، وتتعثّر أحياناً، لكنّ جهدها يلقى القبول من الناس، المتعبين الذين يريدون النفاذ من دائرة الطباشير المستدامة. وذلك الجهد كان يمكن تخفيفه بالتسليم بأهمّية الاستفادة من التجارب الدولية على سبيل المثال، خصوصاً تجربتي جنوب أفريقيا والبوسنة والهرسك، ليس بالنسخ، بل بالمنهج والطريقة. وما يميّز التجربة الثانية، من أنّ الأطراف الثلاثة المعنية بها (البوسني والصربي والكرواتي) خرجت غير راضية عن النتيجة – وذلك درس ضروري – يمكن أن يكون حاسماً. منذ فترة لا بأس بها، يدرك السوريون، داخل وخارج نخبهم، أن العملية الدستورية أساس مهم لبناء مستقبلهم، هو الأصعب بين الأسس الضرورية في لحظة سقوط النظام، التي يعبّرّ الناس عن فرحهم بحدوثه، بل إن بعضهم يظنّ أنّه يكفي، وانتهينا! وفي الواقع لا يعتمد الأمر على وصفة جاهزة لكلّ حالة، لأن الوضع يختلف حسب ظروف كل بلد ومجتمع وتاريخه وتكوينه. وقد اختاروا في الواقع، وهذا صحيح وجيّد، خيار تأمين شكل من الترتيبات الدستورية سموها” الإعلان الدستوري” وتركوا مفهوم الدستور المؤقّت، أو إحياء دستور ديمقراطي سابق للاستبداد، حتى يتمّ تأمين بديل دائم له، “بتركيز” وضمن أفق زمني معقول.
يسعى الترتيب الدستوري المؤقت إلى سدّ الفراغ ما بين عهد فاقد للشرعية، وعهد آخر مكتمل الشرعية، بفترة انتقالية تحقّق أفضل ما يمكن من الشرعية، وتعد أو تبشّر بالمزيد لاحقاً. إنها تشكلّ جزءاً مهماً من أرضية وبرنامج الحوار الجديّ بعد ذلك، وتساعد المؤسسات الانتقالية على التبلور والتطوّر بشكل طبيعي يأخذ بالاعتياد على سيادة القانون واحترام إرادة الشعب.
الإعلان الدستوري، مهما ضعفت” المشاركة” في وضعه، يلعب دوراًً مهماً في كلّ من التوصّل إلى السلام بين مكوّنات الشعب المتنوّعة، كما في رسم بعض ملامح الدستور النهائي، ويؤثّر في درجة التوتّر الحالية أو المقبلة. لذلك يحتاج ذلك الترتيب إلى درجة المشاركة التي أشرنا إليها، والتي لا أعتقد أنها تحققت في المسار العملي حتى الآن. تلك المشاركة، سوف تكون حاسمة بشمولها وإجراءاتها، في المرحلة الثانية حتماً. في تجربة الصومال، اعتُبرت مساهمة “حركة الشباب” عاملاً سلبياً، على سبيل المثال.
وحين يجري الحديث عن” الشمول” في باب مساهمة أطراف أكثر تنوّعاً وتمثيلاً واختصاصاً في صناعة التدبير الدستوري المعنيّ، لا يكون شمول موادّ ذلك التدبير هو المقصود إطلاقاً، بل إنه من المستحسن جداً أن يكون – ما أمكن- مقصوراً بحيث لا يُستخدم لتقييد إرادة من سيصنع مشروع الدستور الدائم والمقبل، أو يصل بالحالة إلى جمود وتحجّر. كانت المرحلة الأولى بعد الحرب الكونية الأخيرة قد استخدمت الدستور المؤقت، أو ما في حكمه (أقلّ بقليل من المئة مرة) بعد انقلابات تكاثرت يومها، لكنّها في المرحلة الثانية الأحدث أخذت تغطّي حالات التغيير السياسي، أو ما بعد استقلال وانتهاء احتلال أو تغيير جذري في نظام الحكم وغير ذلك. من أهمّ نواحي الخطورة في صياغة الإعلان الدستوري، أو الدستور المؤقت الجنوح إلى تحقيق مكاسب خاصة بالقائمين على الأمر في المرحلة المؤقتة والانتقالية، وزيادة التفاصيل التي سيكون صعباًِ على مدبّجي مشروع الدستور الدائم التغيير فيها بشكل نوعي. تلك التفاصيل توصف بالموادّ” اللزجة”، التي يمكنها توتير أجواء العملية التفاوضية، التي ستصيغ السلام الداخلي النهائي. يمكن، وربّما يجب، الاستفادة من الخبراء الأمميين بهذه الحالة، إضافة إلى تكليف أهل الاختصاص والانفتاح. يُلاحظ هنا أن لجنة وضع الإعلان في سوريا مشكّلة من سبعة حقوقيين، بينهم اختصاصي واحد بالقانون الدستوري وحسب، ويغلب عليهم اللون الواحد. كان يمكن الاستناد جزئياً إلى اللوائح الأممية مؤقّتاً في هذا التدبير المؤقت، وفي ما يخصّ حقوق الإنسان والحريات الأساسية على سبيل المثال.
لقد كانت معجزة ما حدث من سقوط للنظام، واختفائه وتلاشيه، وعلى الرغم من صحّة ذلك، إلّا أن ما بقي من رضا الأقدار قد هيّأ للسوريين قوة هي الأكثر تنظيماً وانضباطاً بين قواهم المسلّحة، استطاعت الانتقال بخفّة من إدلب إلى حلب، لتنتقل بعدها بخفّة أكبر حين رأت الطريق مفتوحاً، وتصل إلى دمشق. أيّ تعبير لا يكون ممتنّاً لذلك الفضل مستَنكَرٌ من قبل السوريين، معظمهم على الأقل. لكنّ الواقع يقول إن هناك استقراراً غير مكتمل، وأطرافاً بقيت خارج المعادلة وما زالت، وأخرى تتململ وتعبّر عن القلق والشكّ وقد تتحوّل إلى مشكلة إضافية..
حدثت معجزة أخرى أيضاً، وهي مرور إسقاط النظام في البداية من دون زلازل طائفية (أو قومية) كان الجميع يخشاها، وتلك فضيلة لا تُعوَّض، لكنّ الأسبوع الفائت شهد انفلاتاً خطيراً من هذه الناحية، يعيد التأكيد على تعريف سوريا كحالة قلقة تحتاج إلى مسار أكثر تدقيقاً، وهذا موضوع يحتاج إلى مساحة خاصة..
استكمال عملية التغيير السياسية وإنقاذها من أن تنوء بثِقل مهامها بكل التركة التي تحملها؛ تحتاج إلى الاستعانة بقوى الشعب، وبالمجتمع الإقليمي والدولي، وبالحكمة والخبرات.. وبالإصغاء للنقد الذي قد يكون مساعداً على تعزيز التفاؤل، لا على تآكلِه!

*‭ ‬كاتب‭ ‬ومعارض‭ ‬سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب