ثقافة وفنون

في العزلة ظلّ الواقع خفيفا

في العزلة ظلّ الواقع خفيفا

ناتالي الخوري غريب

قد يكون تاريخ ميلادنا الفعلي هو الزمن الذي نتوقّف فيه عن خداع أنفسنا، والسماح بصدور الصرخة الأولى عند صدمتها ببرودة العالم، وتقبل الإصغاء إلى الأصوات خارجنا، والتعرّف إلى لغتها للمرة الأولى، بلا إسقاطات رغباتنا بكل ما علق عليها. الولادة بكلّ يقظتها وسعيها لإيقاظ فجر من امتصاص الحياة. «إنّ لنا أصلا واحدا هو أمّهاتنا. جميعنا جئنا من الباب نفسه. لكنّ كلا منّا بخبراته، يجاهد للوصول الى مصيره. يستطيع كل منّا أن يفهم الآخر، من دون أن يتمكّن من أن يشرح نفسه إلا لنفسه». بهذه الكلمات يحيلنا الأديب الأمريكي هنري ديفيد ثورو، في كتابه «الحياة في الغابات» ـ أو ولدن- 1854- إلى عزلته في الغابة التي قصدها بعيدا، يطلّ بها على العالم والمدى والأفق، ليحقّق ذلك، قصد – موقعا منعزلا لا يمسّه دنس. يوضّح ثورو أنّ حياة كلّ إنسان عبارة عن طريق نحو نفسه. لم يسبق لأيّ إنسان أن كان نفسه تماما، وبشكل كامل. لكنّه يحاول ذلك. كلّ حسب قدراته، لأنّه يحمل آثار ولادته – لزوجة ماضيه البدائية وقشوره- وتظل معه حتى آخر أيامه. هذه العبارة التي يناقضها ألبير كامو كليا في كتابه «الموت السعيد»: «ليس للإنسان الوقت الكافي ليكون هو نفسه. ليس لديه الوقت إلا ليكون سعيدا». يختلف الاثنان بالنظر إلى تحقّقها، لأن ثورو يجدها بأن يكون الإنسان نفسه بوقت كامل يقضيه في العزلة، والتنعم بجمالاتها، أما الوقت فتيار يصطاد فيه ويشرب منه حتى الثمالة. ليست العزلة ما يحدّد المصير، إنّما العزلة هي الضوء، فتكشف للمرء ما لا يمكن أن يكتشفه بين الناس.
«لقد توقفت عن توجيه أسئلتي إلى النجوم والكتب. صرت أصغي إلى التعاليم التي يهمس لي بها دمي..»، حين تكون في عزلة، أنت في قلب الحياة، وفي قلب تعاليمها التي تنبت داخلك نوعا من أسئلة الطريق، وهذا ما نقرأه ايضا، عند الطيّار والروائي أنطوان دي سانت إكزوبري في كتابه أرض البشر، la terre des hommes، كان بعيدًا من البشر ومن أرضهم، معلّقًا بين الأرض والسماء، يلاعب الرياح والكواكب والنجوم، مستنشقا هواء البحار، معرّجا على القمم والهضاب، مغامرا، مقاوما، «وما الصحراء بالنسبة إلينا؟ إنّها ما يولد في أنفسنا. إنّها ما نتعلّمه عن أنفسنا. وإذا كان ذهاب ثورو إلى اختبار حياة العزلة وكشف جوهر الحياة بأبسط مقوماتها، عملا طوعيا، فإن بقاء سانت اكزوبري كان حادثا، وعلى الرغم من ذلك وجدناه يستخلص عبرته المتشابهة من ثورو: «تعلّمنا الأرض عن أنفسنا أكثر ممّا تعلّمنا الكتب جميعا، ذلك أنّها تقاومنا. ويعرف المرء نفسه عندما يقيسها بما تصادفه من عقبات». وكلاهما يطمحان إلى البساطة بعد التجارب التي مرّا بها.

ثمّة مقولة أكاد أجدها تُكرّر في اعترافات وكتب معظم الأدباء والمفكرين وعلماء النفس: «رغبت ألا أكتشف حين أشرف على الموت أني لم أعش حياتي»، ولأن العيش بكثافة كما يريدها كلّ امرئ لنفسه تختلف عن الآخر، لقد أدرك ثورو أنّ مهمة كلّ إنسان جعل حياته – حتى في تفاصيلها – تستحق التأمل: «قصدت الغابة لأني رغبت في الحياة بتروّ وتعمّد. رغبت أن أعيش حقائقها الجوهريّة. رغبت أن أتعلم ما لديها لتعلّمه. يجب أن نستيقظ من جديد ونبقي أنفسنا متيقظين. لا أعلم قدرة أكثر مشجعة، من تطوير الإنسان حياته بسعيه الواعي. إنّ التأثير على نوعية اليوم هو أسمى أنواع الفن». لنفهم منه لاحقا، أنّ نوعية اليوم وعيشه بأسمى أنواع الفنون هو العيش ببساطة. العيش بترف، هو العيش بساطور العقل، إذ يعي طريقه ويشقه في سر الأشياء» يتألف عقلي من يدين وقدمين. أشعر بقدراتي مركزة فيه.
لم يرغب ثورو في الأخذ بأسباب حياة ليست كالحياة. لم يرغب بالخضوع لكل ما لم ليس ضروريا وملحّا. أراد أن يعيش حياة عميقة ساحبا منها لبّ الحياة كلّه. هازما كلّ ما ليس بحياة. أراد أن يدفعها إلى ركن ليحوّلها إلى أبسط معانيها: «لو عاش الناس بمثل بساطتي سوف تتبدد السرقة واللصوصية. إنّهما لا يقعان إلا في المجتمعات التي ينال فيها البعض عما يزيد عن حاجته. بينما لا يمتلك البعض الآخر ما يكفيهم». من يفكر ويعمل بمفرده دعه وشأنه. لا تقاس العزلة بأميال تفصل الفرد عن رفاقه. وأيّ إنسان يعيش في سط الغابة، أو وحيدا على الشاطئ، أو في قلب الصحراء، ويتمتع بحواس تصغي وتتفاعل، لا يمكن أن يشعر بأيّ نوع من أنواع الكآبة، حيث لا مخاوف كبيرة أو صغيرة، واصطياد للمتع التي تقدّمها الحياة. في العزلة ظلّ الواقع خفيفا، والحياة ترفا متواصلا…

أكاديمية لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب