«ليتنا كالنمل»… شهادات أطفال سوريا عن الحرب والعدالة المفقودة

«ليتنا كالنمل»… شهادات أطفال سوريا عن الحرب والعدالة المفقودة
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ : المأساة السورية التي تحدث عنها ساسة وعسكريون ومحللو سياسة وشهود عيان، كل حسب موقعه من هذه المأساة، وحسب مصالحه أيضاً، حرب أخرى في شكل آخر، عداوات وتناحرات على وسائل التواصل وقنوات الإعلام والصحف، ولكن.. ماذا عن مجموعة من الأطفال؟ كيف رأت عيونهم هذه الحرب، وكيف كان وعيهم وأفكارهم عما شاهدوه من مجازر وأهوال تفوق خيالهم الطفولي؟
هذه الحكايات صاغها الكاتب السوري خليفة الخضر، في كتاب بعنوان «ليتنا كالنمل»، الصادر عن دار ممدوح عدوان للنشر. رصد الكاتب عبر تنقله بين القرى والمخيمات السورية في شمال غرب سوريا، قصصا ومشاهدات يومية مرتّ بها مجموعة من الأطفال، الذين يعتذر لهم الكاتب في مقدمته، بأنه لم يدوّن جميع الحكايات التي سمعها عنهم، والتي من خلالها سنعرف معنى كلمة (ضحايا) للعديد من الأطراف المتصارعة .. النظام السوري، تنظيم داعش، فصائل المعارضة، تنظيم قَسَد، حتى الطبيعة، فقد كانوا ضحايا لها مع وقوع زلزال 2023. ورغم ما أضافه الكاتب ـ من خلال صياغته ـ إلى القصص من شيء من التحليل والعبارات البلاغية، بمعنى صوته الخاص، إلا أننا نستشعر بجلاء صوت هؤلاء الأطفال ـ وقتها ـ ومدى إحساسهم بالكارثة، وكيف كان وقع تحوّل حياتهم مرّة أخيرة وإلى الأبد. وفي ما يلي مختارات منتقاة من هذه الحكايات..
القعقاع
قتل والدي عدداً كبيراً من الكفار، كما يقتل قصاب حارتنا الخرفان.. كان يعذب ويقتل الكافر، ومن ثم يقتله مُبتهجاً ومكبراً بالله. لا أعرف كيف يميز والدي بين كافر وغير كافر، فكل البشر يشبهون بعضهم. أتحاشى ضم والدي خوفاً على نفسي، من أن يراني من الكفار. أبي كان شخصاً آخر في المعتقل، ليس ذلك الرجل الذي كان يتحدث دون أن ينظر إلينا. أبي هذا يختلف عن أبي ذاك بألف ألف مرّة. كم تمنيت لو تعرفت فقط على أبي الذي في السجن، لا أبي الذي كان يكتب قصص الناس ويعذبهم ويقتلهم.
فادي
والدي يعمل في حفر القبور، كنت أعمل معه، أساعده بنقل التراب أو تنظيف قبر من الداخل بعد أن ينتهي من حفره بالكامل… للآن لم أحفر قبراً كاملاً، كلما أكبر سنة، تكبر مساحة القبر التي يسمح لي والدي بحفرها.
اعتُقل أبي من قِبل الأشباح السود… طلبوا من أمي أن تغلق فمها، وألا تتكلم بحرف. هي خمس دقائق، وسؤال وجواب ومن ثم يعيدونه لنا.. أول كلمة نطقها أخي الصغير هي (خمسة) أي خمس دقائق. اليوم يكون قد مرّ على الحادثة خمس سنوات، ولم تنته (الخمس دقائق) الخاصة بهؤلاء الأشباح.
وفاء
مات والدي، وأمي ماتت وهي تبكي، لا أعرف كيف مات الطفل الذي في بطنها، دم أمي يسيل فوق أخي عبد الحميد، الذي أشاهده بين الوسائد، لا أرى كل جسمه، فقط عينيه اللتين وقع نظرها على عينيّ، خبط بيده دماء أمي، يتراشق دم أمي على وجهه وبين يديه الصغيرتين… ضربات يد عبد الحميد على الدم بأرض الغرفة سبب التفاف أقدام الجيش باتجاهه، قال أحدهم للآخر: «أقتله.. بكرا يكبر ويتذكر اللي صار».
زينب
لأول مرّة أسمع في حياتي أن ثمّة في الحياة مَن يكره سيدتنا زينب عليها السلام، ويقول إن علياً ليس ولي الله، وإننا كفار ولسنا مسلمين… لا مخيمات نلجأ إليها، ولا جبال نحتمي بقممها، ولا حدود دولة ننصب خيامنا على جدرانها، محاصرون من عدة جوانب كحصار الحسين وآل بيته من قِبل قتلته في كربلاء.
علي
إننا فقراء، ولن ينفعنا أو يضرنا سقوطه أو عدم سقوطه… الدول لن تتحرك إن بقينا نخرج في مظاهرات في قريتنا فقط. بعد فترة، دخل أبي منزلنا ومعه قطعة مكونة من حديد وخشب ملتصقتين. قال الرجال في بيتنا: «أنظروا في ليبيا.. لولا السلاح لما سقط رئيسهم».. الذي كان بحوزة أبي سلاح، سيحمون به المظاهرات، وسيقاتلون كلاب بشار. صرنا ننام وحدنا، أنا وأمي وأخي الرضيع، كلما طالت مدة حمل أبي للسلاح، طال غيابه عنا .. كان والدي عندما يزورنا يخبر أمي ونحن نسمعه، عن قصص منازل نزلت على رؤوس ساكنيها، وعن طفلة صغيرة نجت، وليتها لم تنج بعد أن مات كل أهلها. طفولتي لا لون لها، ولا شكل لها، آخر ما أتذكره منها، أو آخر شعور بالطفولة يمكنني تذكره، كان في تلك اللحظة حين حملني والدي على قدميه كالطائرة قبل أن يتم قصفنا بطيران بشار، وما بعدها سواد بسواد. وما زاد بؤسي هو استشهاد والدي على يد الدواعش، قاموا بذبحه ورميه في بئر، ولا أعلم ما السبب… أختي (سيدرا) قالت لي (بابا) .. المسكينة تظن أني والدها.
سينم
حتى نتحدث إلى الله يجب فعل عدة أمور الآن، بينما في السابق نتحدث معه قبيل الذهاب إلى الكرم. تمتمة أمي وجدتي ونساء القرية قبيل شروق الشمس تبث في نفسي الطمأنينة، يتحدثن مع الله بالكردية، يطلبن منه حماية الناس وإبعاد السوء عنهم، لم أسمع إحداهن تطلب من الله أن ينتقم لها، أو تتحدث عن أحد ظلمها أمام الله، فمن تعظيم الله عندما نخاطبه أن ننسى أذية الناس بحقنا. السؤال الذي أجد فيه خلافاً ولم أجد له جواباً، هل حقاً كنا في بلد واحد اسمه سوريا، أم نحن في عدة بلدان في بلد واحد كبير له سور، وأسوار داخيلة؟
كاتب مصري
«القدس العربي»