المجزرة وتبِعاتها

المجزرة وتبِعاتها
زياد ماجد
شهدت منطقة الساحل السوري بين السادس والعاشر من شهر آذار/مارس الجاري سلسلة أحداث وفظائع قُتِل فيها مئات الأشخاص. وظهّر ما جرى في أربعة أيام مقدار العنف الكامن في بعض البيئات في سوريا، ومقدار الكراهية وما يُبنى عليها من انقسامات أهلية. كما ظهّر استسهال إشهار مظلوميات، واستخدام الواحدة منها طرداً أو نبذاً للأُخرى، تبريراً للدم المُراق، أو تعمية على ازدواجيات معايير لم يستطع كثرٌ الخروج منها. ينطبق الأمر على حدّ سواء على من ارتبكوا في الكلام عن المقتلة الأخيرة وقلّلوا من شأنها، وعلى من تفجّعوا على ضحاياها حصراً بعد أن صمتوا أو تلعثموا لسنوات سابقة رغم عشرات ألوف جثث المدنيّين التي تناثرت في كامل الأراضي السورية.
العنف الثأري والعنف المقدّس
بدأت الأحداث، في مرحلتها الأولى، في السادس من آذار/مارس، إذ اندلعت اشتباكات هاجم خلالها مئات المسلّحين الموالين للنظام المخلوع مواقع ودوريات أمنية، وقتلوا واحتجزوا عشرات العسكريين المنتمين إلى قوات الحكم السوري الجديد، وأعدموا بعضهم لاحقاً، واحتلّوا حواجز ومقار وسيطروا على بلدات وعلى أحياء مدينية ذات أغلبية ديموغرافية علوية. والمتداول حتى الآن أن الهجوم هذا جاء نتيجة اتصالات أجراها ضبّاط من بقايا النظام الأسدي المخلوع (أحدهم من الفرقة الرابعة البائدة)، في أواخر شهر شباط/فبراير الماضي، بهدف تنظيم تمرّد مسلّح ضد السلطات. والأرجح أن للضباط المذكورين علاقات روسية وإيرانية شجّعتهم على التمرّد لإبقاء الأحوال مضطربة، تحضيراً لمرحلة تفاوض مقبلة تريد فيها موسكو الاحتفاظ بقاعدتيها العسكريّتين في حميميم وطرطوس، إلى جانب امتيازات أخرى.
وقد أدّى الأمر إلى إطلاق الحُكم في دمشق حملة عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة على المنطقة الساحلية ومطاردة «المتمردّين». رافق ذلك إعلان فصائل إسلامية، كان يفترض أنها انضوت ضمن الجيش السوري الموحّد بعد الإعلان عنه من قبل الرئيس أحمد الشرع، «النفير العام» وإرسال التعزيزات من أنحاء محافظات الشمال نحو الساحل «لمواجهة الفلول الأسدية». ووّثقت الصور والتقارير أيضاً تحرّك مجموعات جهادية (أغلب عناصرها من الأجانب) سبق أن أعلنت حلّ نفسها أو باتت على هامش المشهد السوري الجديد بعد إقصائها من قبل «هيئة تحرير الشام»، من إدلب باتّجاه الساحل، مُشهرة خطابها التكفيري الداعي إلى قتال «النصيريين» وإنزال العقاب بهم.
هكذا اكتملت في السابع من آذار/مارس ملامح المرحلة الثانية من الأحداث بجانبَيها، أي باستعادة السيطرة على بلدات ومدن المنطقة الساحلية، وبما تخلّل الاستعادة تلك وتلاها من عمليات «ثأر» وهدر دماء وتعميم للعنف والقتل واستباحة الأملاك، والردّ على «التعفيش» بانتزاع «الغنائم».
المظلومية والدعاية والتبرير
تحوّلت المسألة في ساعات معدودة إذاً من تمرّد مسلّح ومواجهةٍ له، عسكرية مشروعة ولازمة، إلى مجزرة في العديد من البلدات والأحياء السكنية، ذهب ضحيّتها في أيام ثلاثة مئات المدنيين العلويّين (أو المولودين كعلويّين). واستُكملت المجزرة بنهبٍ وحرقٍ للأرزاق صوّر بعضه المرتكبون أنفسهم، متفاخرين بجرائهم وبدوسهم على الكرامات الإنسانية. استعادوا في ذلك مشهدية العنف الأسدي إياها، مستبدلين عبارات بسواها، فيما أفرغ بعضهم مخزوناً من الحقد المعطوف على التكفير وعلى دعوات الجهاد.
على أن السجال العام الذي رافق أيام القتل التالية ليوم «التمرّد العسكري»، إن في بعض وسائل الإعلام أو في مساحات التواصل الاجتماعي، أبرز الهوّة التي لا تفصل بين السوريين المصطفّين على جانبَي المواجهة والمقتلة التي اندلعت فحسب، بل تفصل أيضاً وخاصة بين من يرفضون القتل والانتقام الدموي ومحرّكاته المذهبية، وبين من يتّخذون مواقفهم من إسالة الدماء تبعاً لهوّيات المقتولين أو انتماءاتهم الدينية.
كما أظهر هذا السجال أن تحويل المظلومية السابقة (السنية) الناجمة عن أكثر من نصف قرن من الأسدية وممارساتها الطائفية وعنفها الهمجي ضد السوريين (بين العامين 1979 و1983 ثم بين العامين 2011 و2024 تحديداً) إلى منطلقٍ للثأر و«التأديب» لا يخلّف مظلومية جديدة أو متجدّدة (علوية) فحسب، بل ينذر أيضاً بالتمهيد لنشوء العديد من المظلوميات، الطائفية والمناطقية، أو القومية، مع ما تحمله من قدرة دائمة على تبرير ارتكابات الجماعة، أي جماعة، أو من يدّعون تمثيلها والتصرّف باسمها، على أساس ذرائع تاريخية أو مقارنات حول أسبقيات ومسؤوليات غير متساوية. وهذا في ذاته مشروع إباحة للعنف العشوائي المعمّم ضد المنتمين إلى معسكر «الظالمين» لمجرّد انتمائهم إلى طائفة أو منطقة مختلفة، لا نهاية له ولا حدود.
ويضاف إلى المآسي المباشرة التي لحقت بذوي الضحايا المدنيّين والأمنيّين وبمنطقة الساحل بأكملها أن ما جرى ميدانياً وما واكبه تعبئةً وتجييشاً يهدّد مسار الانتقال السياسي القائم في سوريا حالياً، إذ يمنع عنه الاستقرار والتفرّغ لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والتحاور حول إعادة البناء السياسي. ويمكن أن تتأخّر بسببه إجراءات رفع جزء من العقوبات الدولية (الأوروبية بخاصة)، بما يؤجّل الاستثمارات وورش إعادة الإعمار الحيوية التي لا استقرار وتحسّناً من دونها.
وهو يُتيح فوق ذلك لروسيا وإيران وإسرائيل، الراغبة في زعزعة أمن سوريا، التدخّل والسعي للمزيد من التوتير والابتزاز. علماً أنه من الواضح أن أوساطاً صحفية مقرّبة من الدول الثلاث تضخّ في بعض وسائل الإعلام الغربية وفي مواقع التواصل منذ ما قبل التطوّرات الأخيرة كمّاً من الإشاعات والأكاذيب يهدف إلى التخويف وإثارة الفتن وإبقاء سوريا في عزلة عن العالم.
ما العمل؟
لا يمكن التصرّف اليوم على أساس أن الدماء التي سالت في الساحل جفّت، وأن توقّف القتل يطوي صفحتها ويُعيد السوريين إلى ما سبق السادس من آذار/مارس 2025. كما لا يمكن اعتبار الاتفاقين المهمّين والاستراتيجيين اللذين وقعهما أحمد الشرع في الأيام الماضية مع قائد القوات الكردية مظلوم عبدي ومع وجهاء جبل العرب الدروز كافيين لمحو آثار المجزرة التي أصابت أهل الساحل العلويّين. فمن دون تحقيقات جدّية للجنة تقصّي الحقائق التي شكّلها الشرع، ومن دون إجراءات وتوقيفات ومحاكمات للمسؤولين عن قتل مئات المدنيّين وتخريب أملاكهم، ومن دون تحويل توحيد القوى العسكرية إلى واقع فعلي تنضبط في إطاره وتحت أمرته جميع الفصائل، ومن دون حلٍّ لمسألة تواجد جهاديّين أجانب ما زالوا طليقين في الشمال الغربي السوري، يصعب تخطّي ما جرى ويصعب عدم توقّع تكرار ما يشبهه مستقبلاً، خاصة في ظل وجود خطاب تحريض وتبرير وكراهية، وفي ظلّ سعي قوى خارجية للاستفادة منه ومفاقمته.
وهذا كلّه ليس في أي حال بالشأن المعزول عن سياق ملحّ الأهمية في سوريا، هو سياق «العدالة الانتقالية»، الذي لم توضع أسسه العلمية والعملية بعد، والذي لا يمكن تجاوزه أو تجاهل ضرورته القانونية والسياسية في بلد أدمت مجتمعه عقودٌ من الجرائم الأسدية والحروب، وما زالت أحواله عرضة للمخاطر والتجاذبات والانتكاسات…
*كاتب وأكاديمي لبناني
كاتب وأكاديمي من لبنان