ثقافة وفنون

جماليات وابتكارات السينما التفاعلية: آفاق المواجهة التقنية مع عالم الميديا

جماليات وابتكارات السينما التفاعلية: آفاق المواجهة التقنية مع عالم الميديا

مروان ياسين الدليمي

في ظل التحولات الهائلة التي يشهدها عالم الميديا خلال العقود الأخيرة، أصبح السؤال حول دور السينما ومستقبلها أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لقد تغيرت طريقة استهلاكنا للمحتوى بشكل جذري مع ظهور منصات البث الرقمي مثل نيتفلكس وأمازون برايم، وتطبيقات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك ويوتيوب التي تقدم محتوى قصيرًا وسريعًا. أمام هذا الطوفان الإعلامي، يبدو أن السينما التقليدية تواجه تحديًا وجوديًا: كيف يمكنها أن تظل ذات صلة جماليًا وجماهيريًا؟ وما الذي نريده منها اليوم؟
في الماضي، كانت السينما ملاذًا للخيال، نافذة على عوالم جديدة، ووسيلة للتعبير عن القضايا الإنسانية بأسلوب بصري عميق. اليوم، وبعد أن أصبحت الميديا الرقمية تقدم محتوى متاحًا في أي وقت ومكان، يبدو أن ما نريده من السينما لم يعد مجرد «حكاية» أو «ترفيه»، بل تجربة متكاملة لا يمكن تكرارها في غرف المعيشة أو على شاشات الهواتف. نريد من السينما أن تكون حدثًا، تجربة جماعية تأخذنا خارج روتين الحياة اليومية، حيث الصوت الغامر، الصورة الضخمة، والإحساس بالانتماء إلى جمهور يعيش اللحظة ذاتها.
على سبيل المثال، أفلام مثل «أفاتار» أو «توب غان: مافريك» أثبتت أن السينما لا تزال قادرة على جذب الجماهير عندما تقدم ما لا تستطيع الشاشات الصغيرة محاكاته: عظمة بصرية وصوتية تجعل المشاهد يشعر أنه جزء من العمل. ما نريده إذن هو أن تتجاوز السينما دورها كوسيلة ترفيه إلى كونها طقسًا ثقافيًا وفنيًا يعيد تعريف علاقتنا بالصورة المتحركة.
ومع انتشار المحتوى السريع والموجز، أصبح هناك جوع متزايد للأعمال التي تحترم ذكاء المشاهد وتتحدى توقعاته. السينما اليوم مدعوة لتكون فضاءً للتجريب والابتكار، حيث يمكن للمخرجين مثل كريستوفر نولان أو دينيس فيلنوف أن يقدموا أفلامًا تجمع بين العمق الفلسفي والتقنيات البصرية المتطورة. نريد من السينما أن تكون ملاذًا للجماليات، بعيدًا عن الاستهلاك السريع للمقاطع التي تفتقر إلى الروح أو الهدف.
في الوقت نفسه، يمكن للسينما أن تستلهم من التحولات الرقمية بدلاً من مقاومتها. استخدام الواقع الافتراضي، أو تقنيات الذكاء الاصطناعي في السرد، أو حتى دمج عناصر تفاعلية، قد يمنحها بُعدًا جديدًا يجعلها تتكيف مع العصر بدون أن تفقد هويتها. نريد من السينما أن تكون مرآة لروح العصر، لكن بأسلوب يحافظ على تفردها الفني.

كيف تبقى السينما صامدة؟

لكي تصمد السينما أمام طوفان الميديا، يجب أن تعيد اختراع نفسها من دون أن تتخلى عن جوهرها. أولاً، يمكنها التركيز على القصص المحلية والثقافية التي تعكس هويات الجماهير المختلفة، ما يخلق ارتباطًا عاطفيًا لا تستطيع المنصات العالمية تحقيقه بنفس العمق. ثانيًا، يجب أن تستثمر في المواهب الشابة والمستقلة التي تجلب أفكارًا جديدة وجريئة، بعيدًا عن الصيغ التجارية المتكررة. ثالثًا، يمكن لدور العرض أن تتحول إلى مراكز ثقافية تقدم تجارب متعددة، مثل العروض التفاعلية أو المهرجانات التي تجمع بين السينما والفنون الأخرى.
وتبرز السينما التفاعلية اليوم كأحد الحلول المحتملة لإعادة تعريف دور السينما وجعلها تنافس طوفان المحتوى الذي تقدمه منصات مواقع التواصل الاجتماعي وخدمات البث المباشر. فالسينما التفاعلية تتيح للمشاهد أن يشارك بنشاط في صياغة القصة أو التأثير على مجرياتها، ليست مجرد تطور تقني، بل رؤية جديدة قد تغير علاقتنا بالشاشة الكبيرة. لكن ما هو مستقبلها؟ وهل يمكنها أن تكون السلاح السري للسينما في مواجهة زحف الميديا؟
السينما التفاعلية ليست فكرة جديدة كليًا، لكنها اكتسبت زخمًا مع تقدم التكنولوجيا. بدأت تجاربها الأولى مع ألعاب الفيديو السينمائية مثل «Dragon’s Lair» في الثمانينيات، ثم تطورت مع مشاريع مثل «Black Mirror: Bandersnatch» على نيتفلكس عام 2018، حيث سمحت للمشاهدين باختيار مسار القصة عبر قراراتهم. اليوم، وبفضل الواقع الافتراضي «VR»، الواقع المعزز «AR»، والذكاء الاصطناعي، أصبح بإمكان السينما التفاعلية أن تقدم تجارب أكثر غمرًا، حيث يصبح المشاهد لاعبًا ومبدعًا في آن واحد. وفي المستقبل، قد نشهد قاعات سينما مزودة بتقنيات تتيح للجمهور التصويت على نهاية الفيلم، أو استخدام أجهزة فردية لتخصيص التجربة، أو حتى الدخول في عوالم افتراضية يتفاعلون مع شخصياتها مباشرة. هذه الرؤية تتجاوز السرد الخطي التقليدي، وتفتح الباب أمام إبداع غير مسبوق.
مستقبل السينما التفاعلية يبدو واعدًا لعدة أسباب. أولاً، إنها تلبي رغبة الجيل الجديد في المشاركة بدلاً من الاكتفاء بالمشاهدة السلبية. فالشباب الذين نشأوا على ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي يفضلون التجارب التي تمنحهم دورًا فعالًا، وهو ما يمكن للسينما التفاعلية تقديمه. ثانيًا، تتيح هذه التقنية إعادة مشاهدة الأفلام مرات عديدة بنتائج مختلفة، ما يعزز قيمتها الترفيهية ويطيل عمرها الافتراضي مقارنة بالأفلام التقليدية.
لكن التحديات ليست قليلة. إنتاج فيلم تفاعلي مكلف للغاية، حيث يتطلب تصوير عدة سيناريوهات ودمج تقنيات معقدة. كما أن كتابة قصة تتفرع إلى مسارات متعددة تحتاج إلى مهارة استثنائية لضمان تماسكها الفني. علاوة على ذلك، قد يرفض البعض فكرة التفاعل، مفضلين السينما كفن يقدم رؤية المخرج بدون تدخل خارجي. هذا التوتر بين الإبداع الفردي والمشاركة الجماعية قد يحد من انتشارها.
في مواجهة زحف الميديا الرقمية، التي تعتمد على السرعة والتوفر الفوري، يمكن للسينما التفاعلية أن تقدم ميزة تنافسية فريدة. بينما تقدم منصات مثل تيك توك مقاطع قصيرة تستهلك في ثوانٍ، يمكن للسينما التفاعلية أن تقدم تجربة طويلة الأمد تجمع بين السرد العميق والمشاركة الشخصية، ما يجعلها حدثًا لا يمكن تكراره في المنزل بسهولة. إذا استطاعت دور العرض تحويل نفسها إلى فضاءات تكنولوجية متطورة، فقد تصبح السينما التفاعلية نقطة جذب قوية للجماهير الباحثة عن شيء جديد.
لكنها لن تكون الحل الوحيد أو الكامل. السينما التقليدية لا تزال تمتلك قوة جذب خاصة بها، خاصة عندما تقدم أفلامًا ذات رؤية فنية قوية أو تجارب بصرية مذهلة. السينما التفاعلية قد تكون جزءًا من المستقبل، لكنها لن تحل محل الشكل التقليدي بالكامل، بل ستكمله. على سبيل المثال، يمكن أن تجذب الأفلام التفاعلية جمهورًا شابًا مهتمًا بالتكنولوجيا، بينما تظل الأفلام التقليدية ملاذًا لعشاق السرد الكلاسيكي.

تحديات تقنية

مستقبل السينما التفاعلية مشوق ومليء بالإمكانيات، لكنه لن يكون مسارًا خاليًا من العقبات. إذا نجحت في التغلب على التحديات التقنية والإبداعية، فقد تصبح أداة قوية للسينما لاستعادة مكانتها في عصر الميديا الرقمية. لكن نجاحها يعتمد على قدرتها على تقديم تجارب تتجاوز مجرد الترفيه، وتصل إلى مستوى الفن والابتكار. السينما التفاعلية ليست بديلاً نهائيًا عن السينما التقليدية، بل هي فرع جديد قد يساعد في تنويع الخيارات وإبقاء السينما حية ومتجددة أمام الزحف المتواصل للميديا. في النهاية، الخيار الأمثل للسينما قد يكون الجمع بين التقاليد والتجديد، لتظل ملكة الفنون البصرية في عالم متغير باستمرار. ما نريده من السينما أن تظل وفية لجذورها كفن بصري عظيم، مع القدرة على التكيف والتجدد. إنها ليست مجرد وسيلة لنقل القصص، بل هي لغة إنسانية تحتاج إلى الحفاظ على صوتها وسط ضجيج الميديا. السينما لن تموت ما دامت قادرة على إدهاشنا، إلهامنا، وجعلنا نشعر بأننا أحياء بطريقة لا يمكن لأي شاشة صغيرة أن تحاكيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب