
عالم الجريمة في الأدب والسينما: لماذا نحب أن نكون محققين؟

زيد خلدون جميل
يعثر صياد على صندوق مغلق بإحكام على ضفة نهر دجلة، فيقوم ببيعه للخليفة العباسي هارون الرشيد الذي يفشل بدوره في فتحه. ولذلك يحطم الصندوق لمعرفة محتوياته، فيجد نفسه أمام مشهد مروع، ألا وهو جثة مقطعة لفتاة شابة. غضب الخليفة، فكيف تقع جريمة بهذه البشاعة في عاصمته ويفلت القاتل من قبضة العدالة، فاستدعى وزيره جعفر على الفور. وأتى الوزير جعفر مسرعا وفوجئ بالخليفة يأمره بحل لغز مقتل هذه الفتاة، والقبض على القاتل خلال ثلاثة أيام، وألا فستكون رقبته تحت سيف الجلاد. وارتعب الوزير جعفر لمعرفته بمدى جدية الخليفة في تنفيذ قراراته.
لا داعي للقلق على مصير الوزير جعفر، فلم تحدث هذه الجريمة في الواقع. ولم يكن مصدر هذه القصة سوى الشخصية الخيالية شهرزاد، بطلة قصص ألف ليلة وليلة. هذه القصة كانت أول قصة بوليسية في تاريخ الأدب العالمي تكشف عن مدى عمق هذه النوع من الأدب في الخيال الشعبي، وإعجاب الشعوب بها، فمن منا لم يقرأ قصة عن جريمة في حياته لكتاب مثل أجاثا كريستي. ولذلك أصبح شرلوك هولمز وهركيول بوارو وبيري ميسن، وأفلاما ومسلسلات تلفزيونية، وأعمالا عديدة أخرى أصبح ممثلوها من كبار النجوم السينمائيين.. وظن بعض هواتها أنهم أصبحوا خبراء في عالم الجريمة، لا لسبب سوى أنهم من هواة هذا النوع من الأدب والأفلام. وحتى بعض أشهر الأعمال الأدبية في التاريخ مثل «البؤساء» للكاتب الفرنسي فكتور هوغو و»الجريمة والعقاب» و»الأخوة كارامازوف» للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي، هي في الحقيقة قصص بوليسية، لأنها اعتمدت على جريمة لاسيما الروايتين الأخيرتين اللتين اعتمدتا على جريمة قتل، وأصبحتا الأشهر على الإطلاق.
البداية
ظهرت القصة البوليسية في أواسط القرن التاسع عشر. ولكنها لم تكن ظاهرة أدبية استثنائية، إذ شهدت تلك الفترة بروزا غير عادي للأعمال الأدبية بشكل عام وزيادة تنوعها، فظهر أدب الجريمة وأدب الخيال المظلم مثل، رواية «فرانكنشتاين»، ولهذا عدة أسباب منها، انتشار التعليم فأصبح بالإمكان الاطلاع على الكتب والصحف من قبل نسبة أكبر من السكان، كما تحسن المستوى الاقتصادي وظهرت طبقة متوسطة ميسورة نسبيا وقادرة على قضاء وقت للاستمتاع في الحياة وتحمل تكاليف بعض جوانب الحياة المرفهة، ما سمح لهم بشراء الكتب، لاسيما أن تكاليف الطباعة والتجليد كانت تتناقص تدريجيا، بسبب التطور التقني، وأصبح الاطلاع على آخر الأعمال الأدبية مبعث فخر في الأوساط الاجتماعية. ويضاف إلى ذلك ظهور القطار الذي سمح بنقل كميات كبيرة من الصحف والكتب إلى مختلف أنحاء البلاد وأنحاء القارة الأوروبية. وأخيرا ظهور التلغراف الذي ضمن النقل الفوري للأخبار بالنسبة للصحف، التي كانت تمثل المصدر الوحيد للأخبار، والعامل المؤثر الرئيسي للاتجاهات الفكرية والأدبية، خاصة أن الكثير من الأعمال الأدبية البارزة بدأت كحلقات متسلسلة تنشر في الصحف مثل، أعمال فيودور دستويفسكي وتشارلز ديكنز. وكان كل هذا يعني أن الكتابة أصبحت مصدرا حقيقيا لكسب المال، وأن مهنة الكاتب باتت محترمة في المجتمع. ولجميع هذه الأسباب شهد هذا القرن ظهور الرواية الحديثة، كظاهرة رئيسية في الأدب، كما ظهر عمالقة الأدب العالمي مثل ليو تولستوي وفيودور دستويفسكي وفيكتور هوغو وتشارلز ديكنز، الذين قدموا للقارئ صورة أدبية عن الواقع الاجتماعي. ولكن الرواية لم تكن من نوع واحد، بل تعددت الأنواع، فكان منها الخيالي والرمزي والبوليسي، وكان من الممكن دمج نوعين، أو أكثر منها في عمل أدبي واحد.
على الرغم من ظهور بعض القصص التي تناولت الجريمة في فترات متباعدة مثل رواية «زاديغ» للكاتب الفرنسي فولتير عام 1747، إلا أن أغلب المؤرخين يعتبرون الرواية القصيرة التي نشرها الكاتب الأمريكي أدغار آلان بو في مجلة «غراهام» الأمريكية عام 1841، أول رواية بوليسية في العصر الحديث، على الرغم من أن هذا الشرف لم يفِد الكاتب ماليا. وظهر بعد ذلك العديد من الكتاب لرواية الجريمة، وأمتاز هذا اللون ببروز العامل النسائي مثل لويزا مَي الكوت. وفي تلك الفترة ظهرت أول شخصية خيالية بارزة في عالم الأدب البوليسي هي، شرلوك هولمز، المحقق الخاص الذي لا يفلت منه مجرم مهما بلغت درجة براعته. وكانت تلك الشخصية في الحقيقة تعكس سمات الرجل المثالي في المجتمع الإنكليزي للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، فهو شجاع وقوي البنية ويجيد القتال بقبضتيه ومختلف أنواع الأسلحة ومستقل تماما في حياته ولا يضعف أمام أي نوع من أنواع الإغراء. وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح الأدب البوليسي أكثر بروزا من حيث الانتشار، وكون نسبة كبيرة من الكتاب والقراء من النساء، فتغير الذوق قليلا وزاد تنوعه. وظهرت شخصية هركيول بوارو للكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي، التي أصبحت أعمالها الأكثر مبيعا في تاريخ الأدب الحديث وأصبحت رواياتها مادة للأفلام والمسلسلات.
وأخذ كتاب أدب الجريمة يقتبسون من أحدهم الآخر، على الرغم من شهرتهم مثل أجاثا كريستي التي اقتبست في بعض سمات أسلوبها من لويزا مَي الكوت. قدم آخرون أدبا عن الجريمة بدا أكثر واقعية بكثير مثل، وليام برنيت وريموند تشاندلر، الذي قدم شخصية فيليب مارلو، وجيمس كَين. وحولت هوليوود في النصف الأول من القرن العشرين العديد من أعمالهم إلى أفلام شهيرة مثل، «القيصر الصغير» و»غابة الإسفلت» و»النوم الكبير» التي ساهمت في تحويل ممثليها إلى نجوم سينمائيين كبار في تلك الفترة مثل أدوارد جي روبنسن وهمفري بوغارت ومارلين مونرو وفريد ماكمري. وبسبب الإمكانات الكبيرة للسينما، ابتُكرت انواع جديدة من أفلام الجريمة، لم تكن معروفة في عالم الأدب مثل أفلام الجريمة الفكاهية والرومانسية، التي قد يكون أشهرها «البعض يفضلونها ساخنة» لمارلين مونرو وتوني كيرتس وجاك ليمن. واستمرت الأعمال الأدبية في مجال الجريمة، إلا أنها اتخذت اتجاها مختلفا قليلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت روايات الجريمة قبل ذلك تمتاز بحدوث جريمة واضحة وهنالك ضابط شرطة، أو محقق خاص يتابع الأدلة ويقبض على المجرم بعمله الدؤوب وشجاعته وذكائه الحاد، أما التطورات الأخيرة فقد أخذت تركز على الجانب النفسي لأبطال الرواية، ودوافع كل منهم وعدالة قضيته مثل رواية «اللص والكلاب» للكاتب نجيب محفوظ و»غابة الإسفلت» لوليام برنيت. وتغير الكثير من الأعمال السينمائية، حيث نجد أفلاما مثل «رفاق جيدون» و»الإيرلندي».
الإعجاب بروايات وأفلام الجريمة
قد يتساءل المرء عن سبب هذا الإعجاب الكبير للجمهور بأفلام الجريمة. وقد درس علماء النفس هذا الجانب باهتمام بالغ منذ السنوات الأولى للسينما الغربية، فالفيلم أو الرواية يكشفان الكثير عن حالة القارئ، أو المشاهد النفسية وطبيعة أفكاره، وكذلك طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه. وقد لاحظ المختصون أن قراءة أدب الجريمة تجعل القارئ يتابع تفاصيل الرواية بكل اهتمام مستخدما جميع حواسه مثل، الفضول والاستنتاج والذاكرة، خاصة إذا كانت الرواية أو الفيلم عن جريمة قتل، فالجريمة عمل صادم ومرعب، ولكن القتل هو الأكثر روعا، ويمثل المجتمع في أسوأ حالاته. ولذلك، فإن ذكرى جريمة القتل تترسخ بسهولة في عقل المرء، وتثير اهتمامه دائما. ولهذا السبب، فإن أهم سبب للشهرة الخالدة للرئيس الأمريكي جون كيندي كونه توفي في حادثة اغتيال، وليس بسبب أزمة صواريخ كوبا البالغة الخطورة، وحتى مارلين مونرو اختُلِقَت لها حكاية اغتيال مزعومة، على الرغم من انعدام وجود أي دليل يدعم هذه الفرضية. وأحد الاستنتاجات التي توصل إليها العلماء أن أحد أسباب استمتاع المشاهد أو القارئ، هو شعوره بالأمان من الأحداث التي تتناولها الرواية أو الفيلم، على الرغم من انغماسه في أحداث الفيلم أو الرواية. كما استنتج العلماء كذلك أن المرأة تشاهد الفيلم، أو تقرأ الرواية للاستفادة من التجربة الإجرامية، كي تعرف التصرف الصحيح في حالة تعرضها لموقف مماثل، بينما قد يشعر الرجل بمشاعر الجرأة والرجولة. وتوصل بعض العلماء إلى استنتاج غريب مفاده أن الاهتمام بهذه الأعمال الأدبية يكشف الطبيعة الشريرة للإنسان لاسيما أن إحدى الدراسات كشفت أن واحد وتسعين في المئة من الرجال، وأربعة وثمانين في المئة من النساء، تمنوا قتل شخص ما دون أن يقوموا بذلك من الناحية العملية.
العلاقة بالواقع
لا يتساءل المرء عن مدى علاقة روايات وأفلام الجريمة بالواقع. والجواب بسيط للغاية، فالعلاقة بعيدة، لاسيما روايات شرلوك هولمز وهركيول بوارو، وحتى المسلسلات التلفزيونية التي تحاول أن تبدو واقعية مثل القانون والنظام، فالإجرام في الواقع أكثر قسوة بكثير مما يظهر في الأدب أو السينما، فلا فكاهة أو رومانسية فيه، وليس أبطاله من ذوي الوسامة أو القضايا العادلة، بأي شكل كان. ونجد في أدب وأفلام الجريمة أن المجرم يُكتشف في النهاية، بينما في الواقع هذا غير صحيح على الإطلاق.
التأثير النفسي
تؤثر روايات وأفلام الجريمة على المشاهدين بأشكال مختلفة، لاسيما وأن العقل البشري لا يميز بشكل فطري بين الخيال والواقع. ولذلك، فإن التأثير يخترق عقل المشاهد أو القارئ، على الرغم من معرفته التامة بأن ما يشاهده خيال. ولهذا التأثير أشكال مختلفة، فهو يعطي الانطباع بأن الجريمة أكثر شيوعا وخطورة مما هي عليه بشكل عام، كما أنها تشجع على العمل الشرير والعنف لاسيما في أوساط الشباب.
مؤرخ وباحث من العراق