مقالات

شتيسل: متاهة الحريديم في «دولة الأشرار»!حسام الدين محمد

حسام الدين محمد

شتيسل: متاهة الحريديم في «دولة الأشرار»!

حسام الدين محمد

في مقالة نشرها في صحيفة «الغارديان» بعنوان «العلمانية الصهيونية بالنسبة لليهود الحريديين هي هرطقة دينية» يحكي الكاتب غايلز فريزر عن زيارة له إلى «ميا شياريم» (المئة بوابة) مركز جماعة الحريديين، حيث يجد، في تلك الضاحية التي بنيت عام 1874 وتبعد دقائق عن بلدة القدس القديمة، ملصقات تقول: «ممنوع دخول الصهاينة».
عرضت نتفليكس مؤخرا مسلسلات عديدة، وثائقية ودرامية، عن الحريديم في إسرائيل وأمريكا، كان منها مسلسل «غير أرثوذكسية» الذي قدم حكاية انتقال فتاة من الطائفة الحسيدية اليهودية في بروكلين في أمريكا، إلى برلين في ألمانيا، هاربة من زواج تقليدي، وجاء مسلسل «شتيسل» بعدها، ليقدم دراما كوميدية تدور حول عائلة الحاخام شوليم شتيسل، التي تقيم في القدس، وهو عمل اشتغل على كشف العلاقات المعقدة داخل الجماعة، وأشكال التناقضات التي يعيشها أفرادها، مع باقي اليهود غير المتدينين، ومع إسرائيل كدولة، ومع العالم.
تتابع دراما المسلسل التوتّر الكبير الناجم عن صراع التقاليد مع الحاجات والأهواء النفسية والاجتماعية، بدءا من الأب الذي يحاول الخروج من ذكرى زوجته الراحلة عبر علاقات (غير جنسية طبعا) مع نساء أخريات، وابنه اكيفا المحب للرسم والباحث عن زواج عاطفي، وابنه الثاني زفي آري، المستمر في دراسته، فيما تقوم زوجته بالعمل، وابنته غيتي، التي تعاني رضة نفسية بالغة بعد ترك زوجها لها وعودته، وابنتها، شيرا، التي تعاني أيضا بشدة من أثر الرضة، وابنة أخرى تركت العائلة للزواج من شخص من طائفة متشددة أخرى، إضافة إلى منوخيم، أخو الحاخام المقيم في بلجيكا، والذي يكرر وصف إسرائيل بـ»دولة الأشرار».

القناصة الأردنيون وليلة الجدة مع العراقي

تشتبك مصائر أفراد المسلسل مع مسار الجماعة الأساسية، الحريديم (كلمة مأخوذة من سفر اشعياء، وتعني: المرتجفون أمام الله) فتتكرر العودة إلى الانعزال والجماعة بأشكال متعددة، كما لو كانت قدرا حاكما، فزوج غيتي، الذي يترك عائلته ليسافر، ويحلق ذقنه وشعره ويغير ثيابه، يعود نادما محاولا استعادة محبة عائلته له، وتتكرر مع زفي آري، الذي تحاول جماعة موسيقية إغراءه بالعمل معها بسبب صوته الجميل. يجسد أكيفا، في المقابل، حالة الابن التائه، يتابع التفتيش عن حل وسط بين سطوة الأب وهيمنة الجماعة الدينية وتقاليدها، وحبّ الفن والتفتيش عن زواج غير مرتّب تقليديا، وبعد أن ينكفئ بضغط من أبيه عن حبه الأول، وزواجه من ابنة عمه ووفاتها، يتزوج مجددا من فتاة تعاني من مرض نفسي، رغم معارضة أبيه، ويجمعها به حب الفن، فيصل إلى حل خاص به.

يظهر المسلسل الحدود الصارمة للجماعة، حتى تجاه اليهود الآخرين، في عدة قصص فرعية، مثل محاولة عائلة الابنة غيتي تزويج ابنها من فتاة من الحريديم بدلا من فتاة التقاها صدفة وأحبها من اليهود الشرقيين، والتطرّق بذلك إلى الحظر الذي تقيمه الجماعات الدينية المتطرّفة من الأشكناز الغربيين على الزواج من السفارديم الشرقيين، وبالعكس.
يبدو عاديا، مع تجاهل المسلسل لباقي اليهود، أن يتجاهل ذكر العرب، باستثناء مرة واحدة تعبّر فيها الجدة الخرفة عن خوفها من «القناصة الأردنيين» فيطمئنها ابنها أنه لم يعد هناك قناصة أردنيون، وأن الحرب انتهت، وينتاب الأب الفزع عند قضاء الجدة المسنة نفسها الليل مع رفيق لها في ملجأ المتقاعدين من يهود العراق فيتحدث ذاك بالعربية وهي ترد باليديشية. الإشارة اليتيمة الوحيدة للإسلام وردت كمزحة حين يقول أكيفا لأبيه، وهو يبتسم، إنه يريد اعتناق الإسلام!

الله أم الصهيونية؟

تشير البيانات الإحصائية إلى أن 50% من رجال الحريديين عاطلون عن العمل، مقابل نسبة 19% للنساء، وهو ما يعكسه المسلسل في قصة زوجة زفي آري، التي تقرّر شراء سيارة فيعارض خوفا من حديث الآخرين، غير أنها تشتريها على أي حال، وتتعامل مع الأمر بلباقة كي لا تؤذيه نفسيا، محافظة، كما يفترض، على فكرة حاكمية الذكر التي تناقض واقع الحال. تشير أرقام السنوات الأخيرة أيضا إلى أن الحريديم يشكلون 13% من سكان إسرائيل (مقابل 61% لباقي اليهود و21% للفلسطينيين) لكن بنسبة الولادات المرتفعة التي لديهم، والبالغة 4.1% فمن المتوقع أن يشكل هؤلاء، خلال العقود القليلة المقبلة، قرابة 25% من سكان إسرائيل.
يشير فريزر إلى المعضلة السياسية والدينية التي يحملها العداء للصهيونية، بالتعليق على مقالة للحاخام الأكبر في بريطانيا إفرايم ميرفيس، يقول فيها إن الصهيونية «هي جزء نبيل ومتكامل مع اليهودية» وإن الشخص الذي يعتقد العكس «يسيء بشدة» لليهود، وهو ما يدفع الكاتب للتساؤل: أين يترك هذا (الربط بين اليهودية والصهيونية) اليهود الحريديين الذين هم، حسب تعبيره، «اليهود الأكثر عداء للصهيونية في العالم»؟

الحريديون لا يغنّون هاتيكفا أيضا!

نشأ الحريديون كرد على محاولات التحديث ضمن الثقافة اليهودية في أوروبا (الهاسكالا) التي أرادت إنهاء انعزال اليهود وتشجيع التكامل مع الأفكار الحديثة للمجتمع العلماني، وكانت ردة فعل الجماعة هائلة في تثبيتها للأفكار، والتقاليد، واللبس، واللغة (الصلاة بالعبرية لكن الحديث باليديشية) وكان الرد على الحركة الصهيونية الناشئة «أن الله وحده هو الذي سيبني إسرائيل الجديدة» وأن محاولة الصهيونية استباق فعل الله هي هرطقة دينية. يلفت فريزر النظر إلى أن الصهيونية ربحت الحرب داخل الجماعة اليهودية العامة، التي كان عداؤها للصهيونية واضحا في الماضي، وهذا ما يكشفه تصريح مناقض كليا لموقف ميرفيس (حاخام بريطانيا الحالي) من أحد أسلافه، نافتالي هيرمان إدلر، الذي كان كبير حاخامات بريطانيا عام 1898، والذي شجب الحركة الصهيونية الحديثة لأنها تأخذ دور الله: «أنظر إلى هذه الحركة ويرتعد قلبي، لأنني أرى أنها تعارض توراة هاشيم» (هاشيم: اسمه، أي اسم الله).
للأسباب الآنفة فإن قول ميرفيس إن العداء للصهيونية «يسيء بشدة لليهود» لا يعكس الحقيقة، ويتجاهل اليهود الحريديين، الذين يشكلون نسبة وازنة من سكان إسرائيل، والذين يتراوح موقفهم من دولة إسرائيل بين العداء الصريح والتجاهل، وهو ما يعبّر عنه بدقة رفضهم للخدمة في جيشها. وحسب مقال لموقع «دايلي بيست» فـ»ليس العرب وحدهم: الحريديون لا يغنون نشيد هاتيكفا أيضا».
يتعرض منوخيم، الذي يكرر تعبير «دولة الأشرار» لوصف إسرائيل، إلى عقاب شديد من صناع المسلسل، فهو يظهر في شخصية كريهة، فهو يترك إسرائيل إلى بلجيكا 17 عاما، ويحاول استخدام زوج ابنته في مشروع مشبوه، ويحرم أخاه من إرث الأم، وبالنتيجة يخسر ابنته، ويفلس، ويقرر الانتحار.
لقد عمل صناع العمل على مصالحة اليهود المتدينين مع إسرائيل والعالم (نحن المشاهدين) وبمسخهم منوخيم، قدموا درسا إرشاديا واضحا: من لا يريدون المصالحة سيخسرون!

كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب