ثقافة وفنون

تحية إلى شهداء الدراما الفلسطينية

تحية إلى شهداء الدراما الفلسطينية

مهدي زلزلي

في السنوات الأخيرة، وسط الحصار، وفي ظروف غير مواتية للإنتاج الفني، اختارت مجموعة من الكتّاب والمخرجين والممثلين في قطاع غزّة أن تعاند الاحتلال، لتحمل لواء المقاومة وتقدّم أعمالاً درامية نجحت بشهادة النقّاد والجمهور، فشاهدنا مسلسلات «بوابة السماء» (2017) و«ميلاد الفجر» (2021) و«قبضة الأحرار» (2022) و«شارة نصر جلبوع» (2022)، وغيرها.

كانت المفارقة أن معظم هؤلاء الفنانين حافظوا على روحية المقاتلين في الجبهات، فوضعوا السعي إلى الشهرة والنجاح الفردي جانباً، وركزوا على الانتصار لقضيتهم وإيصال صوت مقاومتهم ومعاناة شعبهم إلى العالم، حتى وصل بعضهم إلى حد استنكار أمر بديهيّ كتسليط الأنظار على شخصه على حساب الشخصية الحقيقية التي لعبها، كما كانت الحال مع الممثل علي نسمان حين أدّى دور الأسير محمود العارضة في مسلسل «شارة نصر جلبوع».

في الحرب الأخيرة، دفع قطاع الإنتاج الدرامي في غزة ثمناً كبيراً، وقدّم عدداً من أبرز وجوهه شهداء. وقد يبدو هذا منطقياً في ظل عدوان همجي لم يوفر أحداً في القطاع، ولكن هناك من يعتقد جازماً بأن بعض الأعمال الدرامية في السنوات الأخيرة وصلت بنجاحها وإزعاجها للعدو إلى حد دفعه للانتقام من أبطالها، متحدّثين عن استهدافات متعمّدة لهؤلاء.

زكريا أبو غالي… سيناريست بالفطرة

قبل ليلة من استشهاده بغارة صهيونية وُجهت نحو «رفح»، كان السيناريست زكريا أبو غالي (1987 – 2024) يناقش مع صديقٍ له، تفاصيل عمل درامي جديد، يشبه أعماله السابقة لناحية تمحوره حول فكرة المقاومة، ولكنه يختلف عنها في أنّ الجهة المنتجة هذه المرّة هي من خارج قطاع غزّة. كان من شأن هذا العمل، بأجره المعقول، أن يتيح لزكريا الادّعاء للمرّة الأولى أن كتابة السيناريو «مهنته»… مهنةٌ لها دخلٌ كافٍ يعينه على مواجهة الحياة بمتطلباتها الكثيرة، فضلاً عن كونها فعل مقاومة قبل كل ذلك وبعده.

من المعلوم أن ظروف الإنتاج في غزة ليست مثالية، وأن الإنتاج الفني هناك، بميزانياته المتواضعة هو أقرب إلى العمل التطوّعي، مهما بدت النتائج للمتلقي احترافية ومذهلة بفضل إخلاص العاملين وحماستهم، من الكاتب إلى المخرج فالممثلين والفنيين.

الحقيقة أن «أبو غالي»، المدرّس والصحافي في قناة «فلسطين اليوم»، دخل عالم كتابة السيناريو بالمصادفة. مع ذلك، أبدع في أعماله الثلاثة «ميلاد الفجر» (بجزأيه الأول والثاني) و«شارة نصر جلبوع». كان أبو غالي مكلفاً بالتواصل مع أحد أصدقائه من الكتّاب العرب، للطلب منه كتابة مسلسل يحكي سيرة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على طريقة مسلسل «الغالبون» الذي يحكي سيرة انطلاقة «حزب الله» في لبنان.

وكان يكفي للكاتب، الذي اعتذر لانشغاله وضيق الوقت المتاح لإنجاز العمل، أن يُقدّم بعض الأفكار والملاحظات والنصائح لـ «أبو غالي»، كي يتولى إنجاز المهمة بنفسه. أمر وضع اسمه بسرعة بين أهم كتّاب السيناريو الفلسطينيين. رغم ظروف الحصار وانعدام إمكانية اللقاء المباشر، إن جديّة أبو غالي والتزامه الكبيرَين، كانا السبب في نجاح تجربته، فضلاً عن إخلاصه للمقاومة التي نذر نفسه وأعماله في سبيلها حتى فارق الدنيا مدافعاً عنها بكل طريقة متاحة. أنجز أبو غالي المطلوب في «ميلاد الفجر» (الجزء الأول)، الذي تناول حقبة الثمانينيات في قطاع غزّة، وتأسيس الحركة وتحرير القطاع من الاحتلال، وحقق العمل نجاحاً محلياً ملحوظاً.

ووسط انشغاله مع الفريق بالتحضير للجزء الثاني، جاءت عملية انتزاع ستة أسرى حريتهم من سجن «جلبوع» في حادثةٍ أشبه بالأساطير، لتفرض تأجيل الجزء الثاني من «ميلاد الفجر» لمصلحة عمل جديد يواكب «الحدث المُعجزة» وفقاً لما قال في حديث سابق مع «الأخبار». انعكس الاهتمام الشعبي العربي بحادثة «جلبوع» وأبطالها، وأدّى إلى نجاح عربي للمسلسل الذي حمل اسم «شارة نصر جلبوع»، وقد عرضته الكثير من القنوات العربية المعروفة.

ثمّ كان لا بد من العودة بعدها إلى استكمال المشروع المؤجل «ميلاد الفجر 2». أصرّ أبو غالي على تضمين «ميلاد الفجر2» خطاً درامياً أساسياً يتناول حقبة تحرير الجنوب والبقاع الغربي في لبنان، مع تجسيد شخصيَّتين تحظيان برمزيَّة عالية لدى جمهور المقاومة في لبنان، هما الشهيدَان عماد مغنية ومصطفى بدر الدين. يومها، لُفت انتباه زكريا إلى ما قد تتسبب فيه الإشارة إلى «حزب الله» من تأثير سلبي في الانتشار العربي الذي حصل عليه الفريق بعد «شارة نصر جلبوع»، لأسباب ترتبط باختلاف النظرة والتعامل بالنسبة إلى شريحة لا بأس بها من الجمهور العربي بين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بعد سنواتٍ من حملات التشويه والتشويش التي استهدفت الأولى بشكل أكثر تركيزاً، وكان جوابه أن هذا القرار هو لفتة شكر وامتنان واجبة لا مجال للتراجع عنها تحت أي ظرف، لشخصيتين قدَّمتا الكثير للمقاومة الفلسطينية حتى «بتنا نرى بصماتهما في كل صولة وجولة».

وتجلى إيمان أبو غالي بالمقاومة وتبنّيه شعاراتها وعلى رأسها «وحدة الساحات»، بالحلم الذي عبر عنه مراراً في أحاديثه، وقد اقترح المشاركة مع كتّاب آخرين من سوريا واليمن والعراق وإيران في كتابة مسلسل عربي مقاوم تجري أحداثه في الدول الستّ التي حملت همّ المقاومة ولواءها، ويظهر وحدة الهدف وتنسيق الجهود وتبادل الخبرات والمعلومات.

حين عُزيَّ أبو غالي باستشهاد الصحافي محمد فايز الحسني، وقبله الممثل علي نسمان، كان زكريا يردّد في كل مرّة «كلنا على هذا الدرب». وبالفعل، كان زكريا مؤهلاً لسلوك درب الشهداء بعد أعوام نذر فيها قلمه الحرّ لهم ولقضيتهم.

علي نسمان… الفلسطيني الذي لم يهدأ

«خضنا هذه الحرب من أجل المسجد الأقصى وكي نستعيد أرضنا، وكنا نعلم أن هذا سيكون الثمن، قد تنتهي الرواية هنا ولا أكمل هذه الرسالة، وهذا شرفٌ لنا (…) نحن عاهدنا وبايعنا على الموت»، كان هذا مضمون الرسالة المصورة الأخيرة لعلي نسمان (1985 – 2023)، من أمام أحد المباني المدمّرة بفعل غارة الصهيونية في الأيام الأولى للعدوان، قبل استشهاده (13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023).

الناشط والممثل ومقدّم البرامج وصانع المحتوى على «يوتيوب»، الذي لم يهدأ منذ بدء العدوان، تحول إلى مراسل حربي يجوب مناطق الخطر كمن يذهب إلى الشهادة بقدميه. لا يبدو بعيداً من الواقع ترجيح بعضهم تعمّد العدوّ استهداف نسمان بقصد اغتياله، وهو الفنان المثقف صاحب الحضور الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، والذي لم يتوقف عن دعوة أبناء الضفة الغربية إلى تنفيذ عمليات فدائية في قلب الأراضي المحتلة، والذي تزايد حضوره منذ العدوان الأخير.

نسمان الذي تعود جذوره إلى قرية «حمامة» التي هجّر الاحتلال أهلها إلى غزة عام 1948، نموذج آخر لتفاني الفنانين والمبدعين في غزة في الإيمان بقضيتهم والإخلاص لمقاومتهم. ومن دلالات ذلك إصراره في كل منشورٍ كتبه أو مقابلةٍ أجريَت معه – بعد نجاحه في تأدية دور الأسير محمود العارضة في مسلسل «شارة نصر جلبوع» والهالة التي أحاطت به بوصفه بطل المسلسل – على تصويب البوصلة باتجاه العارضة وتسليط الأنظار على الأخير، والتذكير أنه مجرّد ممثل لعب دوره.

«إن شاء الله، نلتقي قريباً في الأقصى محرراً» قال نسمان لكاتب هذه السطور في ختام تواصلهما الأخير، وقد شاء الله أن يمضي شهيداً على درب الأقصى بعد أيام من العملية البطولية التي ارتبطت باسمه.

علاء قدوحة… «الجنرال موشيه» هدفاً لإسرائيل!

نظرية الاستهداف المتعمّد للفنانين عادت إلى التداول على لسان الممثل علاء قدوحة إثر استشهاد صديقه المخرج في قناة «الأقصى» محمد خليفة مع أفراد من عائلته في غارة على مخيّم «النصيرات» في كانون الأول (ديسمبر) 2023، حيث قال قدوحة «أصبح الفنان والممثل هدفاً لإسرائيل». ولعل كفة هذا الرأي باتت أكثر رجحاناً مع استشهاد قدوحة نفسه وأفراد من عائلته في غارة على مخيّم «النصيرات» في شباط (فبراير) 2024، خصوصاً أنّ قدوحة شارك في مسلسل «قبضة الأحرار» الذي أخرجه خليفة وتضمّن محاكاة درامية تفصيلية مسبقة لعملية «طوفان الأقصى».

عُرف بمشاركاته الدرامية التي غالباً ما كان يُسنَد إليه فيها دور «الضابط» الصهيوني، لكنه اشتهر على نطاق أوسع بتأديته شخصية «الجنرال موشيه» – صاحب الروح الانهزامية – في مقاطع فيديو قصيرة نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد نجح في تأدية هذه الشخصية إلى حدّ انتشار مقاطعه وتداولها بكثافة باعتبارها تصريحات حقيقية لـ «جنرال إسرائيلي»!

رشاد أبو سخيلة… «أصغر شاعر فلسطيني»

فضلاً عن خليفة وقدوحة، وعلي نسمان الذي كان يفترض أن يلعب دور البطولة في الجزء الثاني من «قبضة الأحرار»، والمصوّر مصطفى ثريا، استشهد أيضاً بطل الجزء الأول من المسلسل، الممثل رشاد أبو سخيلة (2001 – 2024). إلى جانب التمثيل، حمل أبو سخيلة لقب أصغر شاعر فلسطيني بعد صدور مجموعته الشعرية الوحيدة «حروف التراب» (2020). ومما كتبه أبو سخيلة ونشره على فايسبوك في تموز (يوليو) 2024، مثنياً على أداء جبهات الإسناد ومبدأ «وحدة الساحات»: «سلمت يمينك يا يَمَن، سلمت يمين الصادقين، يا سيدي أنتَ الحسن، بالله حزبك ناصرين، طهرانُ قائدةُ الزمن، بغدادُ سيدةُ اليقين».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب