مقالات
الجيش الوطني الحقيقي لا يدمر المدن و يشرد مواطنيه مهما كانت الأسباب… *أحمد محمود أحمد/ كاليفورنيا*
صحيفة الهدف -السودان -
*تفكيك مقولة الجيش الوطني: ضرورة أعادة بناء المفاهيم سودانيا*
التمييز بين الوطنيين الشرفاء داخل مؤسسة الجيش و القيادات الفاسدة فيه يبدو مهما..
الجيش الوطني الحقيقي لا يدمر المدن و يشرد مواطنيه مهما كانت الأسباب…
*أحمد محمود أحمد/ كاليفورنيا*
*لمحة تاريخية*
عندما اقترب جيش كتشنر من تخوم أم درمان عاصمة الدولة المهدية حينها و في عام ١٨٩٨، اقترح بعض مستشاري الخليفة عبد الله التعايشي عليه أن تخاض تلك الحرب داخل أم درمان ، و أن ينتظروا و يتحصنوا بالمدينة و بالتالي يتم الاقتتال في شوارعها… و لكن الخليفة رفض تلك الفكرة و قرر مواجهة كتشنر في الأرض المفتوحة بالرغم من علمه بأن أسلحة كتشنر هي المتفوقة، و أن حرب الشوارع يمكن أن تساعد في هزيمة الغزاة..و لكن الخليفة التعايشي رفض تلك الفكرة حتي لا يكون سكان المدينة هم الضحايا، و فضل التضحية بجنوده في معركة معروفة و كتب عنها الأجانب قبل السودانيين و هي معركة كرري ببطولاتها المشهودة. هذا التفكير نتج عن عقلية رجل عاش في نهاية القرن التاسع عشر، فلماذا تفعل قيادات القوات المسلحة و في القرن الواحد والعشرين بمواطنيها هكذا و تخوض حربا في الشوارع؟ فإذا كانت المليشيات ينقصها الوعي بطبيعة الصراع و بالوطن نفسه، فكيف يتسنى لقوات وطنية تجمع كل أبناء الوطن أن تخوض حربا في الشوارع و تستخدم الطائرات فوق الرؤوس لقتل الأبرياء و هدم البيوت، هل تحتاج قيادات الجيش الدخول في مدرسة الخليفة التعايشي لكي تتعلم إستراتيجية الحرب؟
*إعادة بناء المفاهيم*
هذا المقال يؤسس لرؤية جديدة عند تناول واقع المؤسسة العسكرية في السودان بعيدا عن العواطف
و الشعارات المنفعلة، و من ثم ضرورة إعادة المفاهيم حول طبيعة هذه المؤسسة و دورها في الواقع الوطني، وإلى أي مدى يمكن أن نطلق عليها مؤسسة الجيش الوطني و بأية مفاهيم؟ كما ينطلق هذا المقال من المشاهدات اليومية للدمار الذي تخلفه طائرات هذا الجيش و التي تهدم منازل المواطنين و دون تمييز و تشردهم ، ضمن صراعها مع مليشيات قبلت هذه المؤسسة بوجودها عبر سنوات عديدة و منحتها الشرعية، و انتدبت بعض قياداتها لتكون ضمن هذه المليشيات و ضمن هذا السياق المعوج حدثت هذه الكارثة التي تعصف بالبلاد ليصبح الجيش جزءا أصيلا في واقع تفتيت و تمزيق السودان و يتحول لمليشيا مقابلة..كل هذا يتطلب إعادة التفكير الجدي في واقع هذه المؤسسة و إعادة بناءها لتكون اسهاما في بناء الوطن و لتكتسب الدلالة الموضوعية لكلمة وطني..و الأهم في كل ذلك فإن الصراع الذي يدور اليوم و يعصف بالوطن قد تسبب فيه الإخوان المسلمون، و ذلك عبر تكوين ميليشيات الدعم السريع و من ثم سكوت قيادات الجيش عن ذلك التكوين الخطير لتصبح هذه المليشيات اليوم عنصر تدمير خطير ضمن نزاع تحكمه المصالح المتعارضة و الذي يهدد وجود السودان ككل، و هذا أكبر خطأ ترتكبه هذه المؤسسة العسكرية و التي قبلت برجل ليس لديه أية مؤهلات أن يكون مساويا لأعلى رتبة في هذه المؤسسة، و هذا خلل يؤدي إلى حل هذه المؤسسة و من ثم إعادة بناءها علي أسس جديدة..
*التمييز الإيجابي*
هذا المقال لا يعمم هذه الرؤية تجاه كل من انتمى لهذه المؤسسة، و يثمن الأدوار المهمة التي قامت بها بعض العناصر الوطنية داخل المؤسسة العسكرية و وقفت مع الجماهير في مواجهتها للأنظمة الديكتاتورية، و كذلك نؤكد أنه ما زال هنالك بعض الوطنيين داخل المؤسسة العسكرية التي حرفتها قياداتها عن مهامها عبر مطامع السلطة و الامتيازات ، و لهذا يجب التمييز بين القيادات الفاسدة و الانتهازية داخل هذه المؤسسة و التي أعاقت تطور هذا البلد و الآن تسعى لتدميره، و تلك التي تم قمع صوتها و المرتبطة بحركة الجماهير و التي نأمل أن تتحرك عبر هذه المرحلة لقطع الطريق أمام القيادات العسكرية الانتهازية و التي باتت تشكل طبقة ترتبط بالرأسمالية الطفيلية و مجموعات المصالح التي يمثلها تيار الإسلام السياسي..
*ما هي المؤسسة الوطنية التي نقصدها**
عند الحديث عن المؤسسة العسكرية يجب أن لا نتجاهل دور بعض القوى السياسية في انحراف هذه المؤسسة عن أدوارها الوطنية و جعلها مطية لتتحول لكيان يمكن استخدامه في الصراع السياسي كما حدث مع أنقلاب عبود من خلال حزب الأمة، و نميري من خلال بعض الشيوعيين و أخيرا الانقاذ من خلال دور الإسلاميين و هو ما أدى لهذه الكارثة التي نعيشها… و لهذا فحقيقة التداخل بين هذه المؤسسة و السياسة تسبب في تعطيل الحياة العامة و سلب الجيش السوداني دوره الوطني، إذن ما هو المخرج من كل ذلك؟
*المخرج الممكن*
الحرب الدائرة اليوم في السودان كشفت عن المأزق الذي نعيشه في السودان من خلال تحول المؤسسة العسكرية إلى مشكلة بدلا أن يتبدى دورها الوطني في الأزمات، و لهذا لتكون هذه المؤسسة و طنية بالمعنى الصحيح للوطنية، فيجب فعل الآتي و مباشرة بعد الترتيبات التي تلي الحرب:
أولا: يجب إبعاد كافة المظاهر العسكرية عن المدن و تحويل مهام هذه المؤسسة العسكرية إلى الحدود و تفعيل دورها لحماية البلاد من المخاطر الخارجية..
ثانيا: تفعيل التربية الوطنية الصحيحة و سط أفراد هذه المؤسسة و أن يكون مفهوم الانتماء للوطن مرتبطا بانسجام كافة عناصر هذه المؤسسة و تثقيفها ضد الانتماءات الدينية و الطائفية و القبلية و الحزبية و أن يجرم حمل السلاح ضد أبناء الوطن..
ثالثا: ضرورة الاشتغال علي الواقع السياسي السوداني من خلال تثبيت الديمقراطية و بناء الدولة المدنية و هو الشرط الوحيد لإبعاد المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسي..
أخيرا: لكي تكون المؤسسة العسكرية مؤسسة وطنية و هي تحمل هذا الاسم بجدارة أن لا تتورط في حرب شوارع و أن لا تقتل المواطنين و أن لا تنحاز لطرف ضد آخر و أن تكون ثقافتها قائمة علي الانضباط و لكن معه شيوع معنى الوطنية ضمن منظور التضحية و هذا هو الشرط الوحيد لتأكيد دور هذه المؤسسة و تأكيد فاعليتها..
*خاتمة* لم يكتب هذا المقال في أجواء الحرب فحسب، بل يكتب في أجواء يخشى فيها عودة الإخوان المسلمين و كذلك الخوف من تمزيق هذا الوطن لا سمح الله، و لهذا يوجد أمامنا خياران، خيار أن لا يكون لنا جيش مستقبلا و نكون دولة حيادية في المنطقة، أو أن يكون لدينا جيشا نتفق حول أهميته و دوره و أن يكون سياجا للوطن لا مدمرا له.. فالجدير بالاشارة هنا، فنحن نحتاج لهذا الجيش الوطني لأن العالم ليس منطقة آمنة، و لكن إذا استمر الجيش في نهجه هذا فالأفضل أن نذهب للحياد، و الحياد منطقة رمادية لا نتطلع أن نكون فيها، و لهذا كله فلابد من إصلاح المؤسسة العسكرية مستقبلا… فالحرب و بكل ماّسيها فهي تجربة قد تقود لبناء جديد و إعادة بناء المفاهيم و من أهمها إعادة بناء مفهوم الجيش الوطني من حيث الدلالة و الممارسة..