موريتانيا: هل سيكون الحوار السياسي المنتظر حاسما في إنهاء الخلافات المزمنة بين فرقاء المشهد؟

موريتانيا: هل سيكون الحوار السياسي المنتظر حاسما في إنهاء الخلافات المزمنة بين فرقاء المشهد؟
عبد الله مولود
نواكشوط ـ تتجه موريتانيا حاليًا نحو خامس حوار سياسي تشهده البلاد خلال مدى ربع القرن المنصرم، حيث تعاقبت عليها حوارات سياسية عديدة فرضتها تغييرات غير دستورية للحكم.
ويهدف الحوار المنتظر إلى تحقيق توافق وطني حقيقي بين مختلف الأطراف السياسية، وفقا لما أعلنه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال مأدبة إفطار خلال رمضان الماضي، جمعت ممثلين عن الأحزاب السياسية من الموالاة والمعارضة، ومرشحين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ويُنظر إلى هذا الحوار باعتباره فرصة لإعادة بناء الثقة بين الفرقاء السياسيين، بعد سنوات من الخلافات والتجاذبات التي رافقت مسار الحوارات السابقة.
ومع تأكيد الرئيس الغزواني الموصوف بأنه «رجل الحكمة والتهدئة»، أن الحوار الذي أعلن عنه، لن يستثني أي طرف أو موضوع، تبرز تساؤلات حول طبيعة القضايا التي سيتم التطرق إليها في الحوار ومدى استعداد الأطراف المختلفة للانخراط فيه بجدية، بما يضمن تحقيق إصلاحات سياسية فعلية تخدم الاستقرار والديمقراطية في البلاد.
حوارات متتالية
شهدت موريتانيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة سلسلة من الحوارات السياسية الهادفة إلى تحقيق توافق وطني ومعالجة القضايا الخلافية بين مختلف الفاعلين السياسيين، وهي الخلافات التي تعود كلها لتبعات الانقلابات العسكرية التي تتابعت منذ 1978 على الساحة السياسية لهذا البلد المغاربي ذي الأربعة ملايين نسمة، والمؤلف من عرب وثلاث قوميات أفريقية سوداء.
وعلى الرغم من أن هذه الحوارات أسفرت عن إصلاحات دستورية وانتخابية، إلا أن التحديات المتعلقة بقانون الأحزاب وتسيير الاستحقاقات الانتخابية وعدم التزام السلطة الحاكمة بمخرجات الحوارات السابقة، حسب رأي المعارضة، تحديات ظلت قائمة تحتاج لتكرار الحوار؛ كما أن هناك ملفات معقدة ما تزال عالقة بينها الرق وملف الإرث الإنساني وهي ملفات ناجمة عن الصراع المحتدم منذ الاستقلال، بين عرب موريتانيا الذين هم الأكثرية وأقلياتها الزنجية التي لها شكاواها وأجندتها.
وبدأت أولى تجارب الحوار عقب انقلاب 2005، حيث أطلق المجلس العسكري للعدالة آنذاك حوارا شاملا أفضى إلى إصلاحات سياسية ودستورية عميقة، من بينها تحديد مأموريات الرئيس وتعزيز مبادئ الحكم الرشيد.
حوار بدون إجماع
وفي عام 2008، وعلى إثر الانقلاب الذي دبره الجنرال محمد ولد عبد العزيز، على الرئيس الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبد اللّٰه، أعلن قادة الانقلاب عن تنظيم حوار سياسي، لكن المعارضة قاطعته مؤكدة أنه «مهزلة انقلابية»، ما جعل مخرجاته تولد ميتة.
وفي عام 2011، شهدت موريتانيا جولة جديدة من الحوار السياسي بين النظام الحاكم شاركت فيه أحزاب الأغلبية وأربعة من أحزاب المعارضة، ما أدى إلى تعديلات في المدونة الانتخابية وإنشاء لجنة مستقلة للانتخابات.
ورغم هذه الجهود، استمرت حالة الشد والجذب بين السلطة والمعارضة، لا سيما مع مقاطعة أطراف سياسية بارزة لحوار 2016، والذي أفضى إلى تعديلات دستورية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وتحسين الحوكمة الاقتصادية؛ لكن هذا الحوار كان ضعيف التأثير لكونه تم من دون إجماع وطني كامل.
مرحلة الانفتاح
أما في 2019، فقد بدا أن المشهد السياسي يتجه نحو انفتاح جديد مع وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للحكم، حيث أُطلقت في تموز/يوليو 2022، مشاورات تحضيرية لحوار سياسي شامل، لكنها توقفت لاحقًا لأسباب مختلفة.
ومع استمرار النقاش حول مستقبل الحوار السياسي في موريتانيا، تظل التساؤلات قائمة حول قدرة الأطراف المختلفة على تجاوز الخلافات والوصول إلى توافق يرسّخ الديمقراطية والاستقرار السياسي في البلاد.
مفاجأة الرئيس بالحوار
بينما كان الجميع يائسا من الحوار تحت صدمة تعليقه الأحادي من طرف السلطات، فاجأ الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، الأحزاب السياسية بالإعلان عن إطلاق حوار سياسي جديد.
ففي كلمة خلال مأدبة إفطار الأحد، دعي لها أعضاء مجلس إشراف «مؤسسة المعارضة الديمقراطية»، ورؤساء الأحزاب السياسية (أغلبية ومعارضة) ومرشحون لاستحقاقات رئاسية سابقة، دعا الرئيس الغزواني الأحزاب السياسية إلى أن تقدم، في أقرب وقت، «اقتراحاتها وتصوراتها والقضايا الجوهرية المقترح نقاشها في الحوار، والمنهجية التي ينبغي أن تتبع وتعتمد من أجل إنجاحه وآليات تنظيمه ومتابعة تنفيذ مخرجاته».
وذكر الرئيس الموريتاني في الكلمة التي تم بثها على الموقع الرسمي للرئاسة الموريتانية، باللقاءات التي جمعته سابقا، بممثلي الأحزاب السياسية، والتي تطرقت إلى أهمية تنظيم «حوار وطني جامع يتناول كل القضايا التي تهم البلد»، معبرا عن قناعته الراسخة بأن «التشاور والحوار يشكلان، دائما، السبيل الأمثل لتدبير الشأن العام والتعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى».
وشدد الرئيس في كلمة لاقت ارتياحا كبيرا على أنه يطمح إلى تنظيم حوار «يمكن من الحسم النهائي في ملفات جوهرية ما زالت عالقة على الرغم من تداولها في حوارات سابقة وبالرغم من الجهود التي تم بذلها لحلحلتها».
منسق الحوار: مفاجأة أخرى
فاجأ الرئيس الغزواني أقطاب المشهد السياسي بإعلانه عن اختيار الاستشاري والسياسي المخضرم موسى فال منسقا للحوار؛ وحدد الرئيس خلال الإفطار السياسي مهمة المنسق بدقة، وأنه مجرد مستقبل لمقترحات الأطراف، أي أنه قناة تواصل بين الرئيس والقوى السياسية.
كما حدد المطلوب من الأطراف السياسية في هذه المرحلة، وهو تقديم مقترحاتها حول شكل ومضامين وتنظيم الحوار، وتقديمها للمنسق.
ومع أن الكثيرين رحبوا بالمنسق الجديد إلا أن تعيينه قوبل بتساؤلات، فهو استشاري وسياسي تقليدي، يصفه العارفون به برجاحة العقل، لكنه شخص مسن حسب رأي من يطالبون بإتاحة الفرصة للوجوه الشابة خاصة وأن الغزواني جعل مأموريته الحالية والأخيرة مأمورية للشباب.
وقد بدأ منسق الحوار اتصالاته بأطراف المشهد السياسي تحضيرا للحوار، كما بدأت الأحزاب السياسية تنشر شروطها للمشاركة في الحوار، وسط ترحيب عام بهذه الخطوة.
وتساءل الكثيرون عما إذا كان الحوار المرتقب والذي جاء عقب تعهد الرئيس الغزواني بتنظيمه خلال حملته الرئاسية، وبعد فشل محاولة إجراء حوار سابق في مأموريته الأولى، سيكون جادا أم أنه سيندرج ضمن سلسلة طويلة من جولات الحوار التي شهدتها موريتانيا منذ بداية التحول الديمقراطي في التسعينيات؛ بعضها نجح في الخروج بتوصيات أثرت على العملية السياسية، بينما لم يُكتب النجاح لأغلبها.
مقترحات لخبراء
تقدم الخبيران الموريتانيان الدكتور بابا آدّو الباحث في العلوم السياسية بجامعة فلوريدا والطبيب الشيخ أحمد دومان الكاتب المهتم بالشأن السياسي الموريتاني، بورقة فنية حول تنظيم الحوار، لاقت ترحيبا واسعا؛ وأكد الخبيران «أنها ورقة خاصة بإثراء النقاش، وتحفيز النخبة للمشاركة فيه، حتى يتحول الحوار من مجرد عملية محدودة مقتصرة على دائرة ضيقة من السياسيين إلى حوار مجتمعي شامل». ونقل الخبيران في مقترحاتهما، تجارب دول أخرى في تنظيم الحوارات الوطنية، إضافة إلى دراسة الحوارات السابقة في موريتانيا من واقع متابعة مجرياتها عن كثب والمشاركة عن قرب في أعمالها أحيانا.
مسوغات الحوار
يرى البعض أن السلطة الحاكمة غير ملزمة بإجراء حوار وطني، لا سيما في ظل غياب أزمة سياسية أو اجتماعية حادة، خاصة بعد انتخابات تشريعية ورئاسية شاركت فيها مختلف الأطراف السياسية.
ومع ذلك، يرى الخبيران «أن الحاجة إلى الحوار تظل قائمة لعدة أسباب جوهرية منها وجود قضايا وطنية عالقة مثل تسوية الإرث الإنساني، ومكافحة العبودية ومخلفاتها، وتعزيز التعايش بين مكونات المجتمع، والتوزيع العادل للثروة».
ومن دواعي الحوار ما يلاحظ من زيادة في حدة التناقض الاجتماعي في ظل غياب دولة العدل والقانون التي تضمن المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وفي ظل غياب هوية وطنية جامعة، تجعل أغلب الأفراد يحتمون بهوياتهم الفرعية، أي هويات ما دون الدولة، كالقبيلة والإثنية والشريحة الاجتماعية.
ومن مسوغات التشاور والحوار التي تضمنتها الورقة، أزمة الثقة في العملية الديمقراطية: تعاني المؤسسات السياسية من أزمة ثقة متجددة، فمنذ انطلاق المسلسل الديمقراطي ظلت نتائج الانتخابات محل رفض دائم، ومصدر نزاع بين المتنافسين، ولم تحظ في يوم من الأيام بالرضى ولا بالقبول من قبل الرأي العام الوطني عموما حتى أصبح التشكيك في نزاهة الانتخابات القاعدة الثابتة بعد كل استحقاق.
موضوعات ومستويان
أكدت الورقة الفنية أن موريتانيا بحاجة إلى مستويين من الحوار مختلفين لكنهما مترابطان في الوقت ذاته: حوار وطني شامل، يتناول القضايا الكبرى كمعالجة الإرث الإنساني، ومكافحة العبودية ومخلفاتها، والتفاوت الطبقي الناتج عن اختلالات في العقد الاجتماعي، وقضايا الحكامة الاقتصادية؛ ويتوقع من هذا الحوار أن ينتج حلولًا ومعالجات جذرية لهذه القضايا، التي قد تهدد الكيان الوطني في سياق إقليمي مضطرب.
وحوار سياسي يتعلق بالإصلاح الديمقراطي ويهدف إلى إصلاح جذري وعميق للمنظومة السياسية، وتحسين العملية الديمقراطية، وإيجاد المقاربات المناسبة لضمان الحوكمة الرشيدة، ومكافحة الفساد، وتعزيز سيادة القانون.
ومن بين المحاور التي ينبغي التأكيد على معالجتها على وجه الخصوص، وفقا للورقة، مراجعة وإعادة النظر في قانوني الأحزاب والانتخابات، وتحديد العلاقة بين الجيش والسياسة.
الأطراف المشاركة في الحوار
ذهب الخبراء في مقترحاتهم إلى تجارب شعوب ودول مختلفة أكدت أن نجاح الحوارات الوطنية مرهون بشمولية المشاركة وشفافيتها، وباستيعاب كافة وجهات النظر من دون إقصاء أي طرف.
ومع ذلك، يقول الخبراء، من تجارب الحوارات السابقة في موريتانيا، أن من الضروري وضع معايير واضحة وعادلة تضمن التوازن بين تمثيل أوسع للأطراف المختلفة، وبين حضور وازن وفاعل للأحزاب والمجموعات السياسية ذات الثقل الشعبي؛ وذلك لتفادي تمييع الحوار، وإغراق جلساته بأعداد كبيرة من المشاركين الذين لا يمثلون رأياً مسموعا داخل المجتمع.
ففي حين يُتوقع أن يكون الحوار السياسي أقرب إلى المفاوضات، وتقتصر المشاركة فيه على ممثلي الأحزاب السياسية، فإن الدعوة للمشاركة في الحوار الوطني الشامل يجب أن توجه للفاعلين الجادين في المجتمع المدني، وللنشطاء المعروفين بالدفاع عن قضايا النساء والشباب، بالإضافة إلى قادة الرأي من الكتاب والإعلاميين والأكاديميين.
المنهجية وآليات التنظيم
معلوم أن جلسات الحوار تحتاج للترتيبات الضرورية، بغية إنجاح الحوار، وهو ما يرى الخبراء أنه يتطلب اتباع منهجية محددة في إدارته تُسهل التفاعل الإيجابي بين المتحاورين، وكلما اتسمت هذه المنهجية بالعلمية والعملية، أصبحت عاملاً مساعداً على إبراز النقاط المشتركة وفتح الطريق إلى التفاهم والاتفاق. واقترح الخبراء استحداث مؤسسة مستقلة ومحايدة تمتلك الموارد البشرية والمادية الضرورية لرعاية الحوار والإشراف على تنظيمه وضبط إيقاعه.
وبعد تنصيب هذه المؤسسة، يمكنها إطلاق تشاور مع ممثلي الأطراف المشاركة للتوافق على أجندة الحوار ووضع القواعد الناظمة لسيره.
أجندة الحوار: عشرون نقطة
واقترحت ورقة الخبراء عشرين نقطة رئيسية موزعة على محاور عدة أولها الترتيبات الأساسية للحوار الخاص بتحديد الهدف الأساسي والأهداف الفرعية للحوار، والثاني محور موضوعات الحوار وآلياته ووضع جدول زمني واضح للحوار، يشمل تاريخ انطلاقه، مدته، وعدد ورشاته، والثالث محور المبادئ والقواعد المنظمة للحوار والتأكيد على الالتزام بقيم الحوار كالتقيد بالموضوع، واحترام الرأي المخالف، والمرونة في التعاطي، واحترام الوقت، والرابع محور آليات اتخاذ القرارات وتوثيق الحوار ووضع آليات واضحة لاتخاذ القرارات، مثل التصويت أو الإجماع أو التوافق؛ ثم المحور الخامس وهو محور التواصل مع المجتمع والمتابعة إطلاع الرأي العام الوطني على نتائج الحوار أولًا بأول، ثم وضع آلية واضحة لمتابعة تنفيذ القرارات والتوصيات التي سيتوصل إليها في الحوار.
وأوصى الخبراء بالتمثيل العادل والمتوازن بين الأطراف المشاركة في الحوار الوطني الشامل وهي السياسيون، والمجتمع المدني، وقادة رأي؛ كما أكدوا على التمثيل المتساوي بين الموالاة والمعارضة على مستوى الحوار السياسي؛ كما أوصوا بإعطاء الوقت الكافي لمناقشة كل الموضوعات، وفي حال تعذر الاتفاق حول بعض القضايا والملفات المطروحة، يمكن للقائمين على الحوار تشكيل لجنة حكماء لتقريب وجهات النظر.
وتوقف الخبراء في خلاصاتهم أمام حجم هذه التحديات التي لا تسمح لموريتانيا بالاستمرار في الدوران داخل الحلقة المفرغة التي جعلت الحوارات السابقة مجرد أدوات بيد السلطة الحاكمة للتحكم في المشهد السياسي، وفرصًا لبعض السياسيين لتحقيق مكاسب شخصية.
وحذرت خلاصات الخبراء إلى التوصية المشددة بتجنب تكرار هذا السيناريو العبثي، عبر إعداد الحوار بشكل جاد ومنهجي، وإسناده إلى هيئة وطنية مستقلة، وذات صدقية، تتولى رعايته وتنظيمه بطريقة شفافة وسليمة، وتضع له الآليات الكفيلة بتنفيذ مخرجاته عمليًا، ليكون خطوة حقيقية نحو التغيير، لا مجرد تكرار ممل لتجارب سابقة ضاع فيها عقد أو يزيد من عمر الوطن.
«القدس العربي»: