بعد أربع سنوات على سقوط نظام البشير، ودخول السودان مرحلة جديدة من حياته السياسية استناداً إلى المعطى الذي أفرزته ثورة ديسمبر ٢٠١٨، انفجر صراع دامٍ بين طرفي ما سمي بالمكون العسكري الذي كان أحد أفرقاء التسوية السياسية التي أفرزت الوثيقة الدستورية التي حددت العناوين العامة للانتقال بالسودان إلى نظام سياسي جديد يرتكز على قواعد دستورية حدّدت بنودها الآليات لإعادة تشكيل السلطة وإدارتها خلال فترة انتقالية يديرها مجلس سيادي متشكل من المكون العسكري والمكون المدني التي شكلت قوى الحرية والتغيير عصبه الأساسي.
لكن ما تم التوافق عليه عند التوقيع على الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية ، لم يتم الالتزام به من جانب المكون العسكري سواء ما تعلق منه بادرة الشأن الداخلي أو بنسج العلاقات مع الخارج. فعلى الصعيد الداخلي أخذ هذا المكون يضع العصي في دواليب ورشة الإصلاح في الإدارة لتعطيل إجراءات تنقيتها من الشوائب وتطهيرها من الفساد المستشري وإعادة ضبط أدائها العام تحت سقف القانون، وكان أبرز مثال صارخ على سلوك هذا المكون تجاه عمليه “التطهير الداخلي” الحملة الشعواء التي تعرضت لها لجنة إزالة التمكين ومداهمة مقرها ومصادرة الأجهزة التي تختزن المعلومات عن التحقيق في ملفات الفساد المالي والإداري وسرقة المال العام، واعتقال أمين سرها المحامي وجدي صالح وحيث ترافق مع ذلك الإفراج عن شخصيات أمنية وقضائية وسياسية ممن شغلوا مواقع في النظام السابق ، وفي محاولة مكشوفة لإعادة من هو قيد التحقيق والمساءلة من فلول نظام البشير الى مفاصل السلطة الجديدة التي كان المكون العسكري يعمل على تعزيز مواقعه تمهيداً لخطوات كان يحضّر نفسه للقيام بها للانقضاض والارتداد على ما تم التوافق عليه. وهذا ما تأكد من خلال خطوة المكون العسكري بتنفيذ انقلابه في أكتوبر من العام ٢٠٢١ وقبل أيام من الموعد المحدد لانتقال رئاسة المجلس السيادي الى المكون المدني كشريك سياسي في إدارة المرحلة الانتقالية. كما اعقب هذه الخطوة الانقلابية التي شكلت ارتداداً على ما سبق وتم الاتفاق عليه تسطير مذكرات ملاحقة واعتقال بحق رموز وطنية ومهنية ونقابية واعتقال قادة وطنيين مشهود لهم حضورهم ودورهم في قيادة الثورة الشعبية.
أما على صعيد نسج العلاقات مع الخارج، فإن رئيس المجلس السيادي تجاوز كل الضوابط الدستورية واخترق المحرمات الوطنية والقومية، بإقدامه على عقد لقاءات مع نتنياهو رئيس وزراء العدو الصهيوني ، ومن ثم توجيه دعوات لمسؤولين أمنيين ودبلوماسيين صهاينة لزيارة الخرطوم، والتي اعتبرها العدو “فتحاً مبيناً”، باختراقه لعاصمة اللاءات الثلاث ووضع السودان عل لائحة الدول العربية التي أقدمت على نسج علاقات تطبيع معه، وهو ما كان يمّن النفس به نظراً لأهمية السودان الجيوسياسية وما يختزنه من ثروات ومعادن طبيعية فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية التي يمثلها بالنسبة للأمن الغذائي العربي فيما لو استثمرت أرضه الخصبة ومساحاته الزراعية الواسعة في مشاريع التنمية الزراعية بكل أبعادها الوطنية والقومية.
وإذا كان الصراع على السلطة هو أحد أسباب انفجار الوضع العسكري بين الجيش كقوات نظامية بكل صنوفه، “وقوات الدعم السريع” كقوة ذات منشأ مليشياوي تطورت عدداً وعديداً لتصبح قوة عسكرية وازنة تم تشريع وضعها لدور تلعبه في حماية النظام، إلا أن السبب الجوهري الذي أدى الى انفجار الوضع، إنما يمكن في الانسداد السياسي الذي اقفل المنافذ الفعلية لعملية التحول الديموقراطي، وأن من أقفل هذه المنافذ هو الشريك العسكري في السلطة التي تشكلت لقيادة المرحلة الانتقالية.
إن عملية التحول الديموقراطي لو تسنى لها ظروف التحقق بسلاسة، لكان السودان قدم تجربة رائدة في بناء سلطة وطنية قادرة على إرساء الأسس لقيام الدولة المدنية ذات الوظيفة الرعائية والحمائية والتي تحترم وتصان فيها الحريات العامة وتوظف إمكانات السودان وثرواته في خدمة مشاريع التنمية الشاملة التي توفر شروط الأمن الحياتي بكل مضامينه والأمن الوطني بكل عناوينه. أما وأن الأمر لم يتم وفق السياقات الموضوعة وقُطِع الطريق عليه من خلال الارتداد السياسي الذي خطط له ونفذه المكون العسكري بطرفيه ، فإن الذي يجري حالياً من قتال غطى العاصمة وغالبية الولايات السودانية، لا تقتصر مخاطره على جوانبها السياسية وتأثيراتها الضاغطة على الواقع الشعبي والمعيشي وحسب، وإنما الأخطر منها هو تهديد السودان بوحدته الوطنية أرضاً وشعباً ومؤسسات.
فعندما يكون التشكيل المجتمعي للسودان ينطوي على تعددية في تركيبه الشعبي، بعضها منشد إلى جهوية وبعض آخر إلى قبلية، وتكون السلطة التي تتولى شؤون إدارة البلاد العامة، سلطة ضعيفة وتتجاذبها الصراعات وأبرزها الصراع على السلطة وحماية الامتيازات، فإن الوزن الوطني للبلد يخف وتصبح منافذه وأجواءه مفتوحة لكل أشكال التدخل الخارجي المطلوب للضرورة من أفرقاء الداخل لتحسين مواقعها في السلطة، وأما التربص لاقتناص فرصة الحاجة للتدخل لإقامة مواطئ قدم في الداخل الوطني. وهذا هو مكمن الخطر الذي يتهدد السودان حالياً.
إن من يتوقف عند تطورات الأوضاع في الوطن العربي، ويرى حجم التدخلات الإقليمية والدولية في إدارة أوضاعه السياسية وخاصة في الأقطار التي عاشت وتعيش تحت وطأة أزمات بنيوية ،والاتجاه العام الذاهب باتجاه تدويل الأزمات الوطنية، لا يجد كثير عناء ليكتشف أن ما جرى في السودان وما آلت إليه الأمور حالياً لا يخرج عن السياق العام للمشهد العام الذي يخيم على الواقع القومي برمته وخاصة المشهدين الليبي واليمني حيث يتشابه التركيب القبلي والجهوي فيهما مع التركيب المجتمعي في السودان. ومن خلال هذا المشهد العام، فإن الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في الشأن الداخلي العربي ، ومن بات منها في موقع المؤثر في ترتيب مسارات الحلول السياسية لكثير من الساحات، لا ترى أن من مصلحتها إقامة حكم وطني ديموقراطي في السودان في وقت يجري فيه تدمير بنيات وطنية عربية أخرى، بعضها على تخوم السودان الجغرافية وبعضها في العمق القومي. ولذلك كان لا بد من إحداث التخريب السياسي في السودان كمقدمة للتخريب الوطني، خاصة وان الحراك الشعبي في السودان خاض تجربة رائدة على مستوى قيادة الشارع وعلى مستوى المسؤولية الوطنية الذي جسدته قواه في إدارتها للحركة السياسية لأجل الانتقال بالسودان من نطاق الدولة الأمنية إلى نطاق الدولة المدنية ووفق الآليات الديموقراطية.
لقد كانت مقدمات التخريب السياسي لعملية التحول الديموقراطي تتجسد في الطريقة التي تصرف بها المكون العسكري على مستوى الداخل وعلى مستوى العلاقات مع الخارج، ولهذا تعطلت عملية الوصول بالثورة إلى مآلاتها النهائية. فالمكون العسكري الذي جاء من أحشاء التركيب السلطوي السابق بقيت تستوطنه عقلية الاستئثار بالسلطة وهو الذي ذاق طعم امتيازاتها وهو وإن تصرف بداية بمرونة وانحناءة شكلية للالتفاف على ما تم التوافق عليه، فهذا كان لتمرير الوقت لتجويف العملية السياسية من محتواها الوطني والديموقراطي. ولما لم يستطع إسقاط الحضور السياسي والتأثير الفعلي لقوى الثورة التي أمسكت بزمام الشارع وضبطت إيقاعه، عمد إلى ممارسة الترهيب، بالملاحقة تارة والاعتقال تارة أخرى والتنصل من الالتزامات وصولاً الى الانقلاب والاستفراد بالسلطة وانطلاقاً من عملية التخريب السياسي التي عطلت آليات التحول الديموقراطي مؤسساً بذلك لعملية التخريب الوطني التي بدأت فصولها العملية بانفجار القتال بين طرفي المكون العسكري.
وعندما تنعدم الوساطات الجدية وخاصة العربية منها لوضع حدٍ للأزمة المتفجرة، وتتسارع إجراءات إجلاء الرعايا العرب والأجانب فهذا يعني أن الأزمة ستطول. وعندما يعلن العدو الصهيوني أنه يجري اتصالات مع رأسي القوات المشتبكة بالسلاح كما وزير خارجية أميركا، فهذا إن دل على شيء فإنما يدلل على أن الطرفين ينسجان علاقات مع العدو الصهيوني وهذا ما يضعهما في موقع الإدانة. والعدو الصهيوني عندما يقدم نفسه وسيطاً لحل أزمة داخلية في بلد عربي، ويرعى تسوية ويكون ضامناً لها فحاله هو كحال الذئب الذي يوكل اليه الراعي حراسة أغنامه، كلما جاع اكل واحدة إلى أن يقضي عليها.
إن خطورة استمرار القتال مع عدم القدرة لاي من الطرفين على حسمه لن يؤدي إلى إضعاف القدرات العسكرية للجيش كما لقوات الدعم السريع وحسب، بل سيؤدي إلى تفلت اجتماعي عام وستكون المؤسسات العامة والخاصة عرضة للسلب والنهب ومؤشراتها بدأت بتفكيك المصانع وسرقة آلاتها، وعندما يضعف الجيش وهو المؤسسة الارتكازية الأهم في بنية الدولة الوطنية، وعندما تدّمر البنى الاقتصادية وتسقط كل الاتفاقات التي سبق وعقدت مع الحركات المسلحة وعندما تعود هذه الحركات إلى التخندق في مواقعها، فإن وحدة السودان ستكون في خطر شديد.
من هنا فإن الدعوة الملحة هي الآن لوقف القتال وإخراج القوات العسكرية من جيش “ودعم سريع” من المشهد السياسي وإخضاعها جميعها لقانون دفاع وطني على قاعدة توحيد تشكيلاتها وأمرتها وإخضاعها للسلطة السياسية. وهنا تكمن أهمية إنجاز التحول الديموقراطي وإقامة سلطة الدولة المدنية لقطع الطريق على مخطط التخريب الوطني الذي سيطيح بكل ما تحقق من إنجازات وما بذل من تضحيات من اجل سودان حر ديموقراطي وموحد. إن السودان هو اليوم على صفيح ساخن فإن لم تبرّد ساحته ويقطع الطريق على ترتيب أية نتائج سياسية على هذا القتال، ويُبعد الجنرالات عن المشهد السياسي، كمدخل أساسي للبدء بعملية التحول الديموقراطي، فإن السودان ذاهب إلى التهلكة الوطنية، وكفى هذه الأمة مآسٍ وطنية.