
ريشةٌ احترقت… وابتسامةٌ ظلت معلقة في الذاكرة

مريم مشتاوي
في مدينة خانيونس، حيث صار الحزن جزءاً من الهواء، وفي خيمة لم تكن سوى مساحة مؤقتة للهروب من جحيم مستمر، انتهت حياة الرسامة الشابة دينا زعرب. لكن الحقيقة أن ما انتهى لم يكن حياة عادية، بل مسيرة ممتلئة بالضوء وسط ظلام كثيف. دينا، المولودة عام 2003، لم تكن رسامة فقط، بل كانت ضوءاً صغيراً يُقاوم جدران العتمة بريشة وألوان.
لم تملك دبابة، ولا درعاً، ولا قذيفة. كل ما امتلكته كان قلباً شجاعاً، ويداً تعرف كيف تُبقي الذكرى حيّة. في زمن الحرب، كانت هي الجندية التي لا تحمل سوى فرشاة، وسلاحها كان وجهاً بريئاً لطفلٍ، أو تجاعيد رجلٍ أمضى عمره يقاوم الموت. وحين احترقت خيمتها في قصف صامت كالخيانة، طالت النيران ريشةً وثّقت مأساة وألما وتاريخا وشغفاً، لا سلاحاً هدد.
«روح الروح»
هكذا سمّت لوحتها الأشهر. كانت تجسيداً للشهيد خالد نبهان، الذي ودّع حفيدته وهي تودّع الحياة. رسمت تلك اللحظة بحنانٍ يفوق الوصف، وكأنها أرادت أن تخلّد في الذاكرة دمعة الجد، لا فقط دم الشهيدة. لم تكن تلك اللوحة مجرد رسم، بل صرخة حب، وإثباتاً أن الوجع الفلسطيني لا يموت. إن اللحظة التي تُسرق فيها الروح من الجسد، يمكن أن تُعاد إلى الحياة عبر ريشةٍ تعرف كيف تحب.
لوحة «روح الروح» انتشرت، بُهت العالم أمامها، بكى البعض، وصمت آخرون. أما دينا، فتابعت الرسم. لم تتوقف عند خالد نبهان، بل رسمت وجوهاً كثيرة، وجوه شهداء سقطوا، ووجوه أطفال فقدوا آباءهم، ونساء حملن الفقد كوشاح على أكتافهن. وكأنها أرادت أن تُشيد متحفاً فلسطينياً لا تهدمه طائرات، لا تُطفئه نار، ولا تنساه الذاكرة.
في غزة، لا يُترك للفنانين وقتٌ طويل.
فبين لوحةٍ وأخرى، كان الموت يتسلل. لكن دينا لم تهرب. بل زادت من مشاركاتها، من مبادراتها، من حملات الخير التي كانت تقودها بروح فتاة صغيرة، لكن بإرادة أمٍ تُطعم أبناءها. كانت تسجّل المقاطع بنفسها، تظهر أمام الكاميرا بابتسامة واسعة وتقول: «اليوم رح نقوم بتوزيع وجبات المعجنات لأطفالنا الأيتام في قرية الوفاء… خليكم معنا.»
وفي مرة أخرى، وسط الغبار والخيام، قالت ببساطتها العذبة:
«اليوم سنقوم بتوزيع وجبات الأرز على أهلنا في الخيام.»
كأنها كانت تعرف أن العدسة ستأسرها للأبد. كأنها كانت تكتب وصيتها بلطف، دون نبرة وداع.
رسمت على وجوه الأطفال، قبل أن يُمحى وجهها من الحياة.
ليست مبالغة، بل واقع قاتم. كانت ترسم لهم فراشات ونجوماً، قلوباً ووروداً، تلون الوجوه الصغيرة التي لم تعرف غير صوت القصف، ولم تألف من الحياة سوى الطابور والطين. كانت تجعلهم يضحكون، يشعرون للحظات أنهم لاجئون في مهرجان، لا في خيام موت. لكنها لم تكن تعرف أن الخيمة نفسها ستُستهدف، وأن الاحتلال سيمنع تلك الألوان من أن تُعاد مرة أخرى.
استُهدفت خيمتها في مدينة خانيونس، وقُتلت. ماتت، لكنها لم تمُت وحدها. ماتت بصمتٍ مؤلم، لتصير وجهاً جديداً على قائمة الشهداء الذين وثّقتهم بريشتها.
دينا، التي وثّقت وجوه غزة، صارت وجهاً في لوحتها الأخيرة.
لكن مَن يرسم الآن دينا؟ من يخلّد نظرتها التي كانت تتحدى الموت بألوانٍ طفولية؟ من يحمل رسالتها؟ من يُكمل الجملة التي كتبتها على وجوه الأطفال؟
دينا لم تكن فقط رسامة. كانت شاهدة على جريمة إبادة تُرتكب على الهواء. كانت تقول للعالم: نحن بشر، انظروا إلينا. لم تكن تكتب تقارير سياسية، ولم تصرخ على المنابر، بل قالت كل شيء بصمت الفن، وبألم العطاء.
حين تُقتل رسامة، فاعلم أن القاتل خائف من الألوان.
خائف من الجمال، من الأمل، من الفرح. لأن ما كانت تصنعه دينا في كل لوحة، هو فعل مقاومة. مقاومة للحزن، للطمس، للمحو. مقاومة لفكرة أن هذا الشعب يجب أن يُمحى من الوجود. لكنها قاومت. لم تغادر غزة. لم تهرب. لم تختر أن تصمت. ولأنها لم تصمت، كانت على لائحة الموت.
في تلك الخيمة… كانت آخر أنفاس دينا، وآخر ألوانها.
لكن الاحتلال، رغم قسوته، لا يستطيع أن يطمس خط الريشة من الذاكرة. ستظل «روح الروح» حاضرة، وستظل صورها الموزعة في خيمات غزة، وفي وجوه الأطفال، تحكي حكايتها. سيكبر الأطفال الذين رسمت على وجوههم الفراشات، وسيقولون يوماً: كانت هناك فتاة تُدعى دينا زعرب، جعلتنا نبتسم في زمنٍ لا يبتسم.
سيمرّ العابرون على لوحاتها، وسيتذكرون أن هناك من اختار أن يوثق الحياة، في أرض صار توثيق الموت أسهل ما يكون. دينا لم تكن شهيدة فقط، بل كانت فصلاً كاملاً من كتاب غزة.
فصلٌ يبدأ بريشة، ويمتد بأطفال، وينتهي بخيمةٍ تحترق. لكنها، رغم كل شيء، لم تنتهِ فعلاً. لأن من يرسم الحقيقة، لا يُمحى. وإذا كانت الطائرات قد مزقت جسدها، فإن رائحتها ستبقى في الألوان، في دفاتر الرسم، في الكاميرات التي صوّرتها وهي تطعم الأطفال. وسيبقى سؤالها للعدالة: من يرسم ملامحي الآن؟ سؤالاً مفتوحاً في وجه العالم.
سلامٌ عليكِ يا دينا… سلامٌ على يدٍ رسمتنا ثم غابت.
سلامٌ على الخيمة التي لم تمنع القصف، لكنها احتضنتك كأم.
سلامٌ على الأطفال الذين ضحكوا لأجلك… وسيبكونك طويلاً.
سلامٌ على روح الروح… التي صارت الآن روحك.
كاتبة لبنانية