السودان وحرب ما بعد السياسة

السودان وحرب ما بعد السياسة
ناصر السيد النور
تمر ذكرى اندلاع حرب السودان التي دشنت لتدمير لم تشهده حرب أهلية مماثلة في الإقليمين العربي والافريقي وهما محيطان يتنازعان هويات السودان المتعددة وهي جزء من حربه في جذورها العميقة بقدر تدخلها المباشر في الصراع الحالي. وتأتي ذكرى الحرب بعد أن وصلت إلى نقطة اللانهاية وهي تدخل عامها الثالث بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ اندلاعها المشؤوم في الخامس عشر أبريل 2023 ولا تزال نيرانها مشتعلة بحرائقها الهائلة التي فعليا محت ما كان قائما من دولة وإنسان وبيئة، فإلى أين تتجه الأمور في البلد المنكوب الذي تعدت فيه الخسائر البشرية وويلات الحرب ما يفوق تصور حروب الإبادة الجماعية، ووحشية الحروب في جانبها الأكثر إظلاما من مجازر وانتهاكات جسيمة.
يكاد المحللون السياسيون يجمعون على أن الحرب التي انطلقت مدفوعة بكل عاهات السياسة السودانية، من سوء تقدير وقصر نظر معيب عجّل بنشوب الحرب التي كانت في حدود التوقع منذ ثورة التاسع عشر من ديسمبر 2019 التي أسقطت حكومة إنقاذ البشير. وتكامل جوانب الحرب العسكرية منها والسياسية، لتكون النتيجة تورطاً سياسيا ومأزقا إنسانيا وفوضى مدمرة، وتحولها إلى حرب طالما خشي السودانيون من نتائجها المنجرفة إلى حرب الإبادة الإثنية، التي تحدث الآن، ودعوات الانفصال والتقسيم على أسس أسست لها الحرب تماشيا مع وجود ساسة لا يكترثون لمآلات كان الأولى تجنبها كما ينبغي للممارسة السياسية.
ومع إنها توصف بالحرب الأكثر كارثية في العالم فإن في استمرار فظاعاتها المتزايدة، إلا أن إخفاق العالم بدوله المهيمنة في سياق النظام العالمي ومنظماته الأممية والإقليمية، المعنية بحفظ السلم باتت عاجزة تماما في وقف المأساة أو التقليل من آثارها. وأصحبت مأساة معزولة تقود شعبا نحو الفناء المحتوم، فلم يؤثر سيل الإدانات الدولية للجرائم المرتبكة بحق مدنيّ السودان من التأثير على المتقاتلين أو قادتهم من الساسة الذين اقصى ما توصلوا إليه هو أهمية مواصلة الحرب، وهو منطق تسنده الحماقة السياسية لا الحالة الإنسانية من ممارسة الفعل نفسه. فالعامل الخارجي بتأثيراته المباشرة على الصراع مدد من رقعته وأطال أمد الحرب إذا كان بالتدخل المباشر دعما وتنفيذيا أو مواقف سياسية داعمة لا تخفى وبهذا التدخل الذي لازم الأزمة السودانية منذ بدايتها اتخذت الأزمة طابعا دوليا، لا يحتمل وضع السودان وطأته بكل المقاييس. ولم تعد مؤشرات الخسائر والانتصارات بالمعنى العسكري تعني للسودانيين شيئا، لأن ما جرى من تقتيل وجرائم إنسانية الطابع، التي يصفها مجلس الأمن الدولي في اجتماعاته وبياناته بتصاعد العدائيات بين الطرفين، وسقوط عدد كبير من الضحايا وغيرها، مما يعد انتهاكا للقانون الإنساني الدولي على الأقل في الوثائق لا الأفعال والتدابير. ولكن ما شهدته الأحداث العسكرية مؤخرا بين طرفي النزاع من تطورات عسكرية متسارعة، تحدث للمرة الأولى منذ بداية الحرب من تراجع وانسحاب لقوات الدعم السريع وسط السودان من مواقع كانت تسيطر عليها، مع بقائها في إقليم دارفور الذي تسيطر عليه، ما شكل تحولا كبيرا في مجريات الصراع، وإن لم يكن بشكل محسوم.
انفلتت الحرب السودانية من عقال التحكم السياسيّ واصبحت بالتالي حربا وحشية دامية مفتقدة لأي خطة، أو إرادة سياسية تعجل الحلول غير العسكرية التي باتت في حكم الغياب
وتبع هذه التطورات المفاجئة في سياق ما أحدثته الحرب على الصعيد السياسي بروز تحول مفصلي آخر، حيث اجتمعت قوى سياسية متحالفة مع قوات الدعم السريع في العاصمة الكينية نيروبي في فبراير الماضي لعقد ميثاق تأسيسي لتشكيل حكومة موازية في البلاد في مناطق سيطرة الدعم. وهذا الحدث غير المسبوق في سلسلة صراعات السودان السياسية والعسكرية غض النظر عن إمكانية تنفيذه واقعيا إلا إنه شكل منعطفا خطيرا على ما ينتج عنه من واقع في السياسة الجغرافية للبلاد، بحيث أصبح الصراع على السلطة المركزية في العاصمة الخرطوم يمكن التغلب عليه باقتطاع مناطق كاملة، ما يفضي إلى انفصال معزز بقوة السلاح لتأسيس حكومة موازية لا تملك من مؤسسات الدولة، إلا القوة العسكرية غير المنضبطة.
وقد أثرت الحرب على كل الجبهات الداخلية والخارجية فيما يتعلق بالتوصل تفاوضا إلى إنهاء الحرب، أو على مستوى سياسات حكومة الأمر الواقع بقيادة الجنرال البرهان، وكذا الأمر لقائد قوات الدعم السريع، فكلا الطرفين تحت إملاءات دولية شديدة الوطأة، مما يفقدهما القرار السياسي السيادي، بشأن وقف الحرب. فأصبحت الأزمة السودانية متنازعة على المستوى الدبلوماسي بين عدة دول تتضارب مصالحها، خاصة تلك التي تدعم الطرفين مباشرة. وبهذا تكون الحرب قد انتقلت إلى الساحة الدولية في سياق النزاعات القانونية وتوتر العلاقات مع منظمات إقليمية ودولية ودول المنطقة. ويمثل رفع السودان لقضية أمام محكمة العدل الدولية في العاشر من هذا الشهر متهما فيها دولة الإمارات بالتواطؤ في إبادة جماعية، أعلى مرحلة في المواجهات الدبلوماسية، التي وصلت إليها تأثيرات الحرب على المستوى الدولي. فإذا كانت للحرب أكثر من ساحة فإن الحرب الجارية شغلت كل الساحات والمنصات الدولية بفظائعها، دون أن يتبع ذلك فعل ملموس لوقفها بما يوازي حجم تأثيراتها. ويمتد هذا الاختلاف في وجهات النظر للدول المتدخلة في الشأن السوداني مثلما حدث في مؤتمر لندن برئاسة مشتركة من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي الثلاثاء الماضي، الذي لم يدع إليه أي من طرفي الصراع، والذي فشلت فيه الدول العربية المشاركة، كما هو الحال دائما حول تشكيل مجموعة اتصال لتسهيل محادثات وقف الحرب. وقد صرحت الدبلوماسية السعودية كونها أولى الدول التي رعت مفاوضات السلام بداية اندلاع الصراع، بتأكيدها وقف الدعم الخارجي لطرفي الصراع مما يشير إلى حجم التدخل الخارجي وأثره.
إذن تكون الحرب السودانية قد انفلتت من عقال التحكم السياسيّ واصبحت بالتالي حربا وحشية دامية مفتقدة لأي خطة، أو إرادة سياسية تعجل الحلول غير العسكرية التي باتت في حكم الغياب. فإما أن تستمر الحرب كما يخطط لها مشعلوها، وإما أن يستدعى المجتمع الدولي بتدخل غليظ بالضغط على الطرفين استجابة لحالة وحشية وصلت إليها الحرب، كما يشاهد العالم قذارة الأفعال المرتبكة بحق المدنيين على أسس جهوية وإثنية، أعادت إلى الأذهان صور المذابح في حروب الإبادة في رواندا وكوسوفو وغيرها من مناطق وقد تكون تجاوزتها بتوثيقاتها المبثوثة على منصات الإعلام. فواقع الحرب الشاملة لم يعد فيها طرف على الحياد، خاصة المكونات الاجتماعية القبلية ما يعني استحالة توفر أي تدخل للسلام، يفرض وسائل تتعدى ما هو مطروح للحل. ولا يملك أي من طرفي الحرب سلطة أو إدارة مطلقة أو حراكا فاعلا، بما يشمل حلفاؤهما في الداخل من ميليشيات شعبية وتشكيلات عسكرية وداعميهما من الخارج، دولا وجماعات ومنظمات أمنية ومرتزقة في إدارة الحرب عسكريا أو سياسيا. فتعدد الجماعات العسكرية والرقع الجغرافية التي تنشط فيها بين سيطرة كاملة وخروج عن سيادة وحدود الدولة السابقة، يعقّد من التعامل مع أطراف لا تملك شرعية إلا بقدر ما بيدها من سلاح يحقق لها تدميرا بلا حدود، حيث أصبح تقتيل المدنيين أهم مكونات الصراع، ما أوصله إلى دائرة الانتهاكات الواسعة. فإذا كان ما يرسم سياسات الحرب المحاربون أنفسهم في غياب رؤية، ولو بالمعنى الاستراتيجي للحرب نفسها فإن القادم ونتيجة لهذه الفوضى الشاملة سيكون واقعا مستجدا، ليس على ما أحدثته الحرب من تمزيق في مكونات الجهوية للبلاد، بل مأساة إنسانية جديدة غير مسبوقة خاصة على الطريقة التي تحدث بها الانتهاكات في معسكر زمزم للنازحين في مدينة الفاشر آخر المعاقل العصية على قوات الدعم السريع.
هذا التراكم في حجم الإخفاقات في مساعي السلام على طول تمدد فترة الحرب لم تعد ثمة حاجة لاستعادة ما كان يؤمل فيه من مبادرات القيادات السياسية المدنية ومكوناتها السياسية أحزابا وجماعات مدنية أخرى على ما طرحته من تصورات لم تفلح في التقارب بين وجهات النظر المتضاربة بين فصائلها المختلفة على الحد الأدنى من التوافق. ولأن القوى السياسية المدنية لم تحظ طوال فترة الحرب بما يجعل منها لاعبا أساسيا يؤثر بموقفه أو تحركه تجاه ملفات الحرب وحيث أن مشكلات الأزمة تتعلق بأكثر من طرف، فكل طرف يتشدد في رؤيته وطرحه السياسي لا لمستقبل الصراع الدائر وحسب، بل في كيفية حكم السودان، ما يعكس فعليا المقولة السائدة من أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى، إلى السياسة هي استمرار الحرب بوسائل الحرب. ويبدو أن مع كل ذكرى سنوية للحرب تجدد الحرب نفسها وتزيد من نطاقها معاركها.
كاتب سوداني