
سيناريو ماهر الأسد!

راشد عيسى
مثلكم جميعاً، مثل كثيرين على الأقل، لا أجد من المريح ظهور أشقاء الرئيس السوري الانتقالي في المشهد السياسي السوري، فنحن ملدوغون بقوة ستين عاماً من الحكم العائلي الأسدي، والذي تكرّرت فيه ثنائيات حافظ الأسد- رفعت الأسد، ثم بشار الأسد وماهر الأسد. ملدوغون، فبتنا نخشى «جرّة الحبل»، على ما يقول مثل شائع.
منذ اللحظة التي ظهر فيه اسم ماهر الشرع بات الأمر مثاراً للمقارنة، إنْ لم يكن التندّر، حتى من مؤيدي ومحبي الشرع، فأيّ مصادفة هذه التي تجعل لكل رئيس سوري (الكلمات الثلاث الأخيرة كان يستحيل ورودها معاً هكذا في قاموس السياسة الأسدي) ماهراً، أيّ مصادفة تجعل لكل رئيس شقيقاً غامضاً، قليل الظهور على الإعلام، بوجه دموي، متوحش، يده على المسدس، ببدلته العسكرية، وفرقته الرابعة، بحواجز التشبيح، ومصانع الكبتاغون، صورة قد يكون بُولِغَ برسمها إلى حدّ أزعج «الرئيس» المخلوع نفسه، فظهر في تصريح يؤكد مسؤوليته عمّا يجري، في مواجهة تنميطات كاذبة حاولت أن تسبغ عليه صورة الحمامة بين أسراب الصقور والكواسر، صورة لم يرضها القاتل الأبله لنفسه البتة.
نحن ملدوغون بقوة ستين عاماً من الحكم العائلي الأسدي.. لذلك بتنا نخشى “جرّة حبل”
ولعل الخشية من رواج صورة مماثلة عن أشقاء الرئيس هي ما دفع الرئاسة السورية إلى إصدار توضيح يتعلق بظهور جمال الشرع خصوصاً في مكان هو الأسوأ للشارع السوري، عندما التقى، برفقة وزير الثقافة محمد صالح، شيخاً عشائرياً اعتُبر أحدَ رموز «الحرس الثوري الإيراني» في البلاد، ما أثار ضجة وغضباً لدى السوريين. وقد أكد بيانُ الرئاسة أن جمال الشرع لا يشغل أي صفة وظيفية في مؤسسات الدولة، ولا يتمتع بأي امتيازات خاصة.
لكن جمال الشرع ليس ماهراً، فالأخير شغل على الفور، غداة التحرير، منصب وزير الصحة في الحكومة، وجال على المشافي ومؤسسات صحية في عدد من المحافظات، وبات وجهاً معروفاً، وبصراحة؛ لم يكن اسمه وظهوره هو المزعج هنا، فبإمكان المرء أن يلمس في توجيهاته بوضوح نبرة غير اعتيادية، لا تجدها عند وزراء آخرين، بل لا تجدها، وللأمانة، في نبرة الرئيس نفسه.
لم يلحق السوريون أن يتنفسوا الصعداء، عندما اختفى اسم ماهر من تشكيلة الحكومة الانتقالية، حتى ظهر لهم في موقع أرفع؛ أميناً لرئاسة الجمهورية، وسيتولى، بموجب قرار التعيين مهام عدة، من أهمها أن يكون صلة الوصل بين رئيس الجمهورية والجهات الحكومية الأخرى. وسيكون المسؤول المباشر عن جميع مراسم الاستقبال والتشريفات والمواعيد. وسيكون مسؤول الحماية والمرافقة لرئيس الجمهورية، ورئيس الفريق اللوجستي المسؤول عن جميع مرافق وخدمات ومتطلبات واحتياجات القصر الرئاسي، بحسب صحيفة محلية سورية.
كل تلك المخاوف مشروعة، تسوّغها دروس التاريخ، وعلوم السياسة منذ تَكوّنَ الكرسي وجَثَمَ على رؤوس الخلق إلى يومنا هذا. ولا نحسبها تغيب عن البال عائلات صدام حسين والقذافي وزين العابدين بن علي، حكّام الجمهوريات والجماهيريات العربية حتى الأمس القريب، فلا عتب إذن على الممالك والسلطنات والإمارات.
ولكن تلك الهواجس لا تبرر أن نفترض عيّنة «ماهر الأسد» حتمية سياسية، ونستعين بمختلف أدوات التحليل، وعلى رأسها النفسي، لإثبات نظرية اخترعناها للتو. هذا ما تجترحه قناة تلفزيونية عربية بدءاً من عنوان الفقرة: «ماهر الشرع.. حقيقة علاقته بمحاولة اغتيال شقيقه الرئيس وتجهيزه لرئاسة سوريا» (تجدها على يوتيوب تحت هذا العنوان). ثم تفتتح المذيعة بالقول: «طبيب أمراض النساء الذي اقتحم عالم السياسة»، ولا نحسب أن التقاط خصوصية النساء عفوية هنا، فلا بد أن المعدّ أراد إبراز «المفارقة» بين عمل الرجل كطبيب نساء وعمله المستجد في السياسة، كأن المهنة الأولى عارٌ على صاحبها، وكأن مِن حق من لا يملك شهادة عالية أن يحكم وليس من حق طبيب نساء.
تستعين المذيعة بمن تصفه خبيراً بلغة الجسد والتواصل عن بعد. يقول معتصم الطيطي، وهذا اسم الخبير المزعوم، إن ماهر «من الشخصيات التي تطغى عليها العاطفية، ربما بسبب الأكاديمية العميقة أثّرت على تعامله ومنهجيته، ولكن تقاطيع وجهه تدل على غياب التفاعلات العاطفية وتغلّب العقل. رجل شديد يأخذ قراراته بشكل سريع، ويقطع ولا يصل». ويشرح أن الرجل «عاش فترة طويلة في روسيا، ونحن نعلم أن برودة الجو قد تؤثر. ماهر عنده شفاه ممسوحة غير ممتلئة، تدل على منطقية غير رومانسية، بعيدة عن المجاملات. صدع وجه مستقيم، وعينان حادّتان تدلان على تركيز، وأنف طويل ومدبب إلى الأمام يدل على رؤية واضحة تدل على ما يريد أن يفعل».
تلك الهواجس لا تبرر أن نفترض عيّنة ماهر الأسد حتمية سياسية، ونستعين بمختلف أدوات التحليل، وعلى رأسها النفسي، لإثبات نظرية اخترعناها للتو
ثم يذهب الطيطي ليقارن بين كيفية تفاعل ماهر الشرع مع مواطن، أثناء جولة في أحد المشافي، وتفاعله أثناء مقابلات رسمية، وهنا يعتمد على صور فوتوغرافية لا فيديوهات. الصورة الأولى هي لماهر مع وزيرة ألمانية، ويميل بجسده إليها أثناء المصافحة، و»المحلل» يبني على هذا «الميل» خصوصاً في صورة تالية للّقاء مع وزير قطري، إذ يروح يحمّل الصورة ما لا تحتمل، بل يقرأ الصورتين بشكل مضحك فعلاً، ويشي برغبة بالتجنّي، بل وحتى الشتم، عندما يقول إن ماهر الشرع عندما يكون في مقابلات في مجال السياسة، ويودّ التقرّب فهو «لا أقول ينبطح، ولكن يعطي بسمات وتفاعلات»، الشيء الذي لا يؤديه أمام مواطن في مشفى.
تذكّر فراسة الطيطي بنظريات منقرضة في العلوم الجنائية، كنظرية لومبروز التي كانت تعتبر المجرم مجرماً بالجينات، وتستدل على الجريمة والمجرمين من أشكالهم، كحجوم وأشكال الشفاه والأنوف، وبروز عظام الجمجمة أو الجبهة بشكل غير معتاد، أو الفك السفلي الضخم، والأذنين،.. وعدا عن عدم نفع النظرية، وتصنيفها ضمن عالم الخرافات، فهي تعتبر شكلاً من أشكال العنصرية.
قراءة الخبير المزعوم تذكّر بقارئات فنجان كُنّ يدرن على البيوت في حقبة سالفة، ويتعامل معهن الناس برخص، للتسلية وتزجية الوقت. لكن بإمكاننا أن نقرأ كل ما دار في هذه الحلقة مما يبدو على أنه زلة لسان وَرَدَت على لسان الطيطي، عندما نطق باسم ماهر الأسد بدلاً من الشرع، ولا نحسبها زلة عفوية، في حلقة مُولّفة لتستحضر سيناريوهات بغيضة.
لا نستبعد شيئاً في عالم السلطة والسياسة، وبين جنبات التاريخ ما تشيب له الرؤوس من جرائم مخزية طمعاً في السلطة، كرمي في البئر، أو قتل رضّع، أو أشقاء، أو أمهات وآباء،.. وما التاريخ غير هذا! لكن لا بدّ أنْ تنْبَني القراءات، وحتى برامج التسلية، على وقائع وأشياء منطقية، لا خراريف وافتراضات كيفما اتفق، هذه المزاعم تذكّر بقول مألوف مكرر في أيامنا، عندما سأل امرؤٌ حكيماً: «كيف أستطيع أن أكون تافهاً»، فأجاب: «قل كلّ ما يخطر في بالك».
* كاتب من أسرة «القدس العربي»