خطّة ترويض القضاء تؤتي ثمارها: تونس «سجناً كبيراً» لمعارضي سعيد

خطّة ترويض القضاء تؤتي ثمارها: تونس «سجناً كبيراً» لمعارضي سعيد
تونس | لم تخرج أحكام القضاء التونسي في ما يُعرف بملف «التآمر على أمن الدولة» عن السياق المتوقّع لها، بل أتت انعكاساً مباشراً للتهديدات المتكرّرة التي أطلقها الرئيس قيس سعيد تجاه السلطة القضائية، إذ أصدرت الدائرة المختصّة بقضايا الإرهاب في المحكمة الابتدائية في تونس العاصمة، أخيراً، أحكاماً صادمة في حقّ أكثر من أربعين متهماً، تفاوتت بين أربع سنوات وست وستين سنة سجناً، فيما جاء الحكم الأقصى في حقّ رجل الأعمال كمال اللطيف بـ66 سنة سجناً، يليه القيادي السابق في «حزب التكتل» خيام التركي بـ48 سنة، ثم رئيس الكتلة البرلمانية السابق لـ«حركة النهضة» نور الدين البحيري بـ43 سنة. أمّا أعضاء «جبهة الخلاص» وقيادات الأحزاب الوسطية، على غرار غازي الشواشي وعصام الشابي، فنالوا أحكاماً بـ18 سنة.
على أن الأكثر إثارة للصدمة في القضية، لم يكن فقط قسوة الأحكام، بل الطريقة التي حُشرت بها أسماء شخصيات اعتبارية في الملف من دون استدعاء أو إعلام، لتُفاجأ بالحكم عند النطق به، مع النفاذ العاجل. ومن بين هؤلاء، النقابي والسياسي محمد الحامدي (13 سنة)، والباحث والكاتب حمزة المؤدب (33 سنة)، والحقوقي العياشي الهمامي (8 سنوات). وفي هذا السياق، يُجمع مراقبون على أن الأسماء المضمّنة في الملف، القديمة منها والجديدة، جرى انتقاؤها بعناية عبر خلط مقصود بين رموز لها تاريخ في النضال الوطني، وأخرى تحيط بها الشبهات، من أجل إحداث خلط وارتباك في الوعي العام حولها، ومن ثم تشويه صورة رموز عُرفت بوطنيتها واستقامتها ونزاهتها.
فاللطيف، مثلاً، رجل أعمال له علاقات مع جهات أجنبية، وقد قدّمته الطبقة السياسية كـ«رجل الظل» الذي يحرّك البلاد نحو الخراب، فكان من السهل استثمار هذه الصورة. كما مثّل إدراج اسم المفكّر الفرنسي الصهيوني، برنار هنري ليفي، عاملاً إضافياً لإخراس المدافعين عن المعتقلين، عبر الإيحاء بارتباطهم به. وهنا، يتساءل المراقبون: من سيتجرأ على الدفاع عن عدد من المعتقلين بعدما زُجّت أسماؤهم مع اسم شخصية صهيونية كانت لها إسهاماتها في تدمير دول عربية؟
وفي الواقع، لم تكن هذه الأحكام سوى امتداد لمسار ممنهج بدأ مع إعلان سعيد في نهاية عام 2021 حلّ البرلمان وتعليق الدستور، ثم احتكاره لجميع السلطات، ليبدأ مذَّاك تسويق خطاب تخويني يحمّل خصومه مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمؤسساتي في البلاد، ممهّداً الأرضية الشعبية لتقبّل حملة الاعتقالات ثم الأحكام القضائية بوصفها «إنجازات» لا ينبغي التشكيك فيها. والمفارقة، هنا، أن أنصار النظام لا يزالون إلى غاية اللحظة يحمّلون العشرية الماضية مسؤولية انهيار الوضع الاقتصادي، على رغم مرور أربعة أعوام على استحواذ الرئيس على السلطة وإدارته للبلاد من دون شريك.
يرى محللون أن تصاعد القبضة الأمنية ليس دليلاً على قوة النظام، بل على خوفه المتنامي من أي معارضة
وهكذا، رسّخ النظام في الذهنية العامة أن المعتقلين خونة ومتآمرون، في مسار توازى مع تهيئة المؤسسة القضائية للاضطلاع بدور تصفية الحياة السياسية وخنق الفضاء العام، بحسب كثير من المحللين. على أن الضربة الكبرى التي تلقّاها القضاء كانت في منتصف 2022، حين أُعفي 57 قاضياً من مهامهم بتهم فساد لم تُثبت قضائياً، وسط خطاب رئاسي فجّ أعلن فيه سعيد أن القضاء ليس سلطة توازي سلطته بل «مجرد وظيفة» لدى الشعب، ليدفع هذا الانقضاض العنيف كثيرين إلى اعتبار أن المؤسسة صارت أداة في يد السلطة، خصوصاً مع موجة الاعتقالات التي طاولت معارضين وصحافيين ومدوّنين.
غير أن سعيّد لم يكتفِ بذلك، بل خرج إبان حملة الاعتقالات لمعارضيه ليحاكمهم ويغتالهم معنوياً؛ إذ اتهمهم بالخيانة والعمالة والعبث بمقدرات التونسيين وأمنهم ومستقبل أبنائهم، وتوجّه إلى المحققين في القضية والقضاة العاملين على الملف، من دون أدنى تخوّف من أن يُتّهم بتوجيه القضاء والضغط عليه، بالقول إن من سيتجرأ على تبرئة هؤلاء هو «شريك لهم في العمالة والخيانة».
وبينما كان الرأي العام ينتظر محاكمات عادلة، صدرت الأحكام القاسية التي قابلها تنديد من الشارع الحقوقي وعائلات المعتقلين، في مقابل تهليل وشماتة من قبل المحيطين بالنظام. وعلى رغم استنكار منظمات دولية ومحلية مسار القضية، لم يتجرأ القضاة في المحصّلة على الخروج من دائرة النار التي رُسمت لهم، علماً أن الأحكام جاءت بعد جلسات مغلقة، لم تُتَح فيها فرص الدفاع، ولا حتى حضور المتهمين أو مرافعات المحامين، الذين مُنعوا من الترافع، في وقت مُنعت فيه وسائل الإعلام من تغطية الملف والتداول فيه.
أما عائلات المساجين السياسيين وهيئة الدفاع عنهم، فقد عقدت ندوة صحافية لإنارة الرأي العام حول مآل الملف، تُوّجت بدورها باعتقال القاضي السابق والحقوقي أحمد صواب. غير أن هذا الأخير لم يُسجن بسبب تورّطه في القضية، بل فقط لأنه قال إن سكاكين مُصْلَتة على رقاب القضاة ترغمهم على التنكر للعدالة والإنصاف، في مجاز لم تغفره السلطة، فوجّهت إليه تهم «تهديد القضاء والإرهاب». وخلّف هذا الاعتقال صدمة كبرى لدى الرأي العام ممّا أحدثته الأحكام نفسها؛ إذ يحظى الرجل باحترام وتعاطف شعبييْن كبيريْن على خلفية رصانة مواقفه واستقامتها منذ أن كان قاضياً يقارع استبداد نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وصولاً إلى معارضته خيارات «النهضة» وشركائها، ثم سعيد نفسه.
وإزاء ذلك، يرى محللون أن تصاعد القبضة الأمنية ليس دليلاً على قوة النظام، بل على خوفه المتنامي من أي معارضة، خصوصاً في ظلّ تفاقم الأزمة الاقتصادية واتساع رقعة التذمّر الشعبي. وفيما تبدو البلاد أشبه بسجن كبير، لا يُستبعد أن تكون هذه اللحظة بداية انهيار منظومة الحكم الفردي أو على الأقل تمهيداً لتشكُّل تحرك سياسي مضادّ في وجهها.




