مقالات

في قلب الهدف بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

في قلب الهدف
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
قد يتصور بعض قرائي، أنني سأكتب عن القناصين الذين يستخدمون بنادق قنص ذات منظار مقرب، بندقية ذات سبطانة طويلة من أجل إيصال الرصاصة لأبعد مدى، والطلقة نفسها ذات حشوة خاصة، لنفس الغرض… واليوم تصنع بنادق قنص تصل لمديات بعيدة جداً ربما تبلغ الكيلومترات. ولكن ما سأكتبه اليوم هو عن القنص بطريقة الكتابة والتفكير الحر الذي سيوصلنا لمديات بعيدة. أو على الأقل أبعد من التفكير المحدود. والعلاقة بين القناص الحربي والقناص الفكري، أن الأخير (الفكري) سيصل بالأدلة المادية الحسية لذات النتيجة التي يبلغها القناص في القتال بواسطة بندقية ممتازة بعيدة المدى.
كنت أفكر بالأمس، وأنا أكتب عن اغتيال القائد التقدمي الكبير كمال جنبلاط (17 / مارس / 1977)، وقد أكدت الأيام أنه اغتيل على يد النظام السوري / الأسدي بواسطة أجهزته الأمنية، المتخصصة بالاغتيالات، وهو أمر كان معروفاً بشكل شبه مؤكد، ولكن سقوط النظام الأسدي منح القدرة لبعض من كان ساكتاً عن الإفصاح ما في جعبته. ولكن ما لم يكشف عنه بشكل تام وصريح، لماذا قتل كمال جنبلاط، وأية أطراف لها المصلحة بإزاحته عن المشهد، ولماذا أقدم النظام السوري على تصفيته رغم المكانة السياسية الكبيرة للزعيم جنبلاط لبنانيا وعربيا ودولياً (عضو الاشتراكية الدولية، حامل وسام لينين للسلام) دون خوف وتحسب من ردة الفعل التي ستكون كبيرة.
الأجهزة الأمنية للنظام الاسدي استلمت أمرا / توجيهاً من أعلى المصادر بتصفية جنبلاط. الآن: من الذي أصدر الأمر للأجهزة، ثم أين تكمن المصلحة الأجنبية بتصفية جنبلاط ..إذ بالتأكيد المؤكد هناك مصلحة إسرائيلية بتصفيته، والرغبة بتصفيته أبلغت للنظام السوري، وتلاقت وتلاقحت المصلحتان بتصفية القائد حنبلاط رئيس الجبهة الوطنية التقدمية اللبنانية، وصاحب العلاقة الوثيقة جداً مع المقاومة الفلسطينية، وثقله السياسي هو جزء من الغطاء الشرعي للنضال من لبنان. وهذه المصلحة بالتحديد تلتقي مع المصلحة السورية في احتلالها للبنان، وكان جنبلاط من أبرز معارضين لها. والتغطية الخارجية وفرت الحماية لظهر الأجهزة السورية، وبالفعل، ردود الأفعال على الاغتيال كانت باهتة وباردة.
وحادثة الاغتيال الثانية، اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري(14/ فبراير/ 2005) الذي أثار ضجة كبيرة، وأثار موقف المسلمين السنة في لبنان وغير لبنان، أرادت الجهات الخارجية تهدئة الأجواء بعملية تحقيق ماراثونية، ولم تصدر نتائج تحقيقها إلا بعد مرور سنوات طويلة: التحقيق بدأ عام 2005، والمحكمة أغلقت عام 2023، والتحقيق في مصرع الحريري كان كالسير في حقل ألغام، وقيل للفرنسيين المتعاطفين مع الحريري: أهدأوا فالصخب لن يعيد الحريري للحياة، والشعور بأن الجميع يريد للقضية أن تغلق, وفنح نوافذ على الحقيقة سيلحق أضرارا كبيرة، فمن كان وراء إصدار القرار بتصفية الحريري، ومن هي الجهة التي تكفلت بالعمل، وما هو السبب الجوهري لتصفيته.
في 2005 كانت مرحلة لها أبعاد عديدة، أخرج فيه النظام السوري من لبنان، ولكن مقابل تشديد قبضة الميليشيا الإيرانية (حزب الله) وشخصية مثل رفيق الحريري (المسلم السني) كان قد رسخ وجوده في لبنان بالتأثير السياسي والاقتصادي / الإنمائي، وهنا التقت مصالح إيران وإسرائيل بتصفية هذا القائد الذي كان قد أسس حزباً (تيار المستقبل) وبات له وزناً في الحياة السياسية اللبنانية. وبتعاون جهد استخباري مشترك سوري/ إيراني (واحتمال مرجح لمشاركة فعلية إسرائيلية ) ، تمت تصفية القائد اللبناني، ولكن دون كشف حقيقي دقيق للحادث.
كانت منطقة (شرق المتوسط) قد شهدت بعد حرب الخامس من حزيران/ 1967، هبوب حركات سياسية ثورية / راديكالية، تحولت فيها أحزاب سياسية إلى الكفاح المسلح، مثل: البعث، وحركة القومين العرب، الحركات القومية عامة، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية بتوجهات قومية لا دينية، وحتى تلك الشخصيات القيادية التي كانت لها توجهات إسلامية، جنحت إلى العمل القومي باعتباره أكثر فاعلية، وأكثر أنتشار وعابر للوطنية والدينية، وبالطبع هذا لم يفت الدوائر المناوئة، فراح محللوها يضعون الخطط المعاكسة لإفراغ حركة التحرر من هذه الشحنات. لدى الجهات الغربية، كل التيارات محتملة إلا النضال القومي،
كان تنشيط التيار الديني واحدة من أساليب التفجيرات الداخلية من المعسكر الذي بقي متماسكاً بدرجة ما إلى عام 1971، وحين بدت خطورة هذا المعسكر كثرت الأطراف التي تريد بث الألغام وتنشيط أعمال المخابرات، ووضعت قوائم للاغتيالات، سياسيين / قادة، مناضلون ثوريون، كتاب قوميين / تقدميين، رجال دولة وطنيين، صحفيين، وبدأت صناعة الافخاخ تنشط، ولا يحلو الأمر من أخطاء كثيرة دبت في صفوف معسكر الثورة، ولكن العملية كانت قد اتخذت مسارات قوية في التنفيذ، أهم الشعارات كانت، تنشيط الخط السياسي الديني الذي سيقود إلى إنقسامات طائفية، وإلى تحسسات دينية، وإلى تكتلات عرقية، وغلو في الدين لا يوصل لنتائج حميدة، وهذا سيقود إلى عناصر ضعف في المجتمعات العربية التي تشهد تبلورات ثورية.
الغرب توصل مبكراً إلى هذه النتيجة، وباشر بخطط طويلة الأمد بإحلال التيارات الدينية وتشجيعها، بل وأعتبرها كجدران ومصد للتيارات الاشتراكية والاجتماعية التقدمية، ليس في منطقتنا العربية فحسب، بل وفي أرجاء كثيرة في العالم: بولونيا، إيران، جنوب افريقيا، وكان إيصال نظام الملالي الطائفي لسدة الحكم، والذي سيغرق المنطقة في صراعات دموية لا طائل منها، وفي إطار سياسة تصفية، وتولى دعم الحركات الدينية (الجهادية) بالمال والسلاح، والدعم الاستخباري، فالغرب البراغماتي يفعل حيثما ما تلوح له مصلحة، وهكذا في هذا الاطار أوصل الملالي للحكم في طهران. ولذلك كان لابد من تصفية النظام الوطني العراقي، واغتيال القائد الفلسطيني الذي أستطاع جمع كلمة الفلسطينيين بكلمة وقرار واحد، وتصفية القائد معمر القذافي. ومن نتائج التصفيات، أن بلغت تجمعات كمؤتمر القمة العربي غير قادر على أتخاذ قرارات مهمة، فعواصم عدة دول عربية كانت في الواقع تحت الاحتلال.
ولكن الحركات الدينية الجهادية،(السنية بوجه خاص) أظهرت بعضها خروجا عن الطاعة في أفغانستان، والصومال، واليمن، وفلسطين، فهنا قررت الجهات الاستخبارية تنفيذ خطة كانت تعد تفاصيله له منذ زمن بعيد يعمل على المزيد من شرذمة المنطقة، لكي لا تواجه الولايات المتحدة، وخندقها الامامي (الكيان الصهيوني)، وهو اقتلاع العرب السنة من شرقي المتوسط، أو إضعافهم بشتى السبل، وهنا طرح الفرس انفسهم مع إسرائيل كبلدوزر لهذا المشروع الطائفي / العنصري مستخدمين كافة وسائل التخريب الثقافي والنظري / كمتطلبات لهذه الحملة.
هنا كان لابد تشجيع نظام الأسد في سوريا وغض النظر عن مجازرهم وجرائمهم وفسادهم، وتطوعت طهران باختلاق حزب الله اللبناني، لكبح جماح منظمة التحرير الفلسطينية، وسحق قواها المسلحة، وبالمقابل تشجيع حركة إسلامية في فلسطين، وغيرها، وقلب النظام الوطني في العراق، ولم يتضح لمن مصاب بقصر النظر إن هذا ما هو إلا مشروع إبادة للقضية الفلسطينية، وتدمير للمصالح القومية والأمن العربي.
لاحظوا كيف جندوا الأقليات، الدينية والعرقية، وسلخوها من محيطها وألحقوها بمفردات وفقرات الامن الإسرائيلي والإيراني، وغدا واضحاً لمن مصاب بتشوه في الرؤية وبتطورات مثيرة لتفاعل الأحداث، أتضحت كافة أبعاد الخارطة. وهنا نعلم جيداً لماذا اغتيل القائد القومي التقدمي كمال جنبلاط لأنه يغرد خارج المخطط، جنبلاط ، لماذا اغتيل الحريري، لأنه يؤسس لمجتمع مدني لا ديني قومي وطني في لبنان، ولماذا أغتيل صدام حسين، وياسر عرفات، وعلي عبد الله صالح، ومعمر القذافي، وهذا ينسف مخطط زرع سرطان حزب الله …فكان لابد من إزاحته، ولهذا قتل الوزير بيار الجميل، وجورج حاوي، سمير قصير، ورجال حكم وسياسة مؤثرون في لبنان، وأجتاحت موجة اغتيالات، قتل فيها المعتدلون، في الشأن الفلسطيني والعربي عامة، فالمطلوب تسريع الخطى والهرولة بأتجاه التكتلات الدينية والعنصرية وإغراء مكونات وطنية بأن تكون مكسر عصا وحرق كل من يقف بوجه خارطة طريق المصالح الأمريكية .
ما هي أبرز العلامات في خارطة المصالح الأمريكية
1. ممنوع منعاً باتا أن تتعارض مصالحك الوطنية والقومية مع المصالح الامريكية.
2. ممنوع منعاً باتاً أن يكون لديك جيشاً قويا يمكن أن يؤثر على فعالياتنا.
3. ممنوع منعاً باتاً أن تطور اقتصادك الوطني بما يجعلك خارج سيطرتنا.
وخلال عقد واحد من السنين، انقلبت صورة الموقف : 1967 إلى 1976 تراجعات، واغتيالات، وحروب أدن إلى انقلاب مدهش مهد لكمب ديفيد، ولكن ما يصلح على الورق وفي التقارير، ليس بالضرورة أن يصلح للواقع الموضوعي، وهذا خطأ شائع يقع فيه من يفتقر علمه وفهمه لخصائص ونكهة الواقع الموضوعي، ويقع في الأوهام والأخطاء، ويرقد مشروعه على سرير الانعاش يلفظ أنفاسه الأخيرة. كان عليه أن يفكر بحقائق واحصاءات واقعية يتجاهل حيالها مزاجه الشخص، (وهي معطيات تقدما لك مراكز البحوث)، وليفكر:
1. هل من مصلحته شن حروب العداء ضد المسلمين وهم ما يقرب 2 مليار نسمة ؟
2. هل من مصلحته شن حروب العداء ضد العرب وهم ما يقرب 750 مليار نسمة ..؟
3. هل من مصلحته أن يعادي كتل بشرية بهذا الحجم، ويخسر صداقتها وقدراتها الاقتصادية …؟
هذه تشخيصات لأحداث واقعية لا يستطيع أحد تجاهلها، وضعناها في سياق فهمها التاريخي العلمي، ولكن، ليس كل ما يريده المعسكر الأسود يحصل عليه، وسوف يواجهون الفشل في ختام مساعيهم .. ومن يفكر بعمق ويخلص للنتائج التي يصلها سيكسب بالتأكيد .. ويوفر على نفسه الوقت والجهد وتكاليف التجربة المرة …!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب