مقالات

عن دروز سورية: عودة إلى ما قاله فرو في كتابه…

عن دروز سورية: عودة إلى ما قاله فرو في كتابه…

 “علي حبيب الله”

اليوم، وبعد مئة عام، يعود سؤال دروز جبل العرب إلى واجهة المشهد السياسي السوري في سورية ما بعد الأسد. وليست فرنسا، إنما إسرائيل هذه المرة هي من تأمل وتعمل معًا على سورية مفككة اجتماعيًا ومقسمة سياسيًا…

في عشرينيات القرن الماضي، وفي ظل الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، تصاعد سؤال الطائفة المعروفية إلى واجهة المشهد السياسي السوري. كانت فرنسا حينها، تُكنّ لسورية رؤية تفتيتية – استعمارية، مستغلة التنوع الاجتماعي – المذهبي للمجتمع السوري، فسعت إلى تقسيم البلاد على مسطرة ذلك التنوع عبر تسييسه. غير أن دروز سورية، وتحديدًا في جبل السويداء، كانوا من بين من قطع الطريق على نوايا فرنسا وسياستها عبر الثورة عليها بالنار والبارود حرفيًا، لتبقى سورية موحدة، والجبل جبلًا سوريًا – عربيًا، ومن حينه صار يُعرف الجبل باسم جبل العرب، لا جبل الدروز أو السويداء.

اليوم، وبعد مئة عام، يعود سؤال دروز جبل العرب إلى واجهة المشهد السياسي السوري في سورية ما بعد الأسد. وليست فرنسا، إنما إسرائيل هذه المرة هي من تأمل وتعمل معًا على سورية مفككة اجتماعيًا ومقسمة سياسيًا في ظل مناخ سوري موبوء بخطاب “الأقليات وحمايتهم”، منه دروز السويداء في جنوب سورية، حيث تتبجح حكومة نتنياهو بادعاء وجوب “حمايتهم”. غير أن القول بعبث إسرائيل في المشهد السوري، وفي الجنوب السوري تحديدًا، على صحته، إلا أنه قول لم يعد يفي بالإجابة على سؤال حجم التحدي الذي بات يهدد اليوم وحدة السوريين ووحدة التراب الوطني السوري. لا تملك إسرائيل اليوم ما كانت تملكه فرنسا في الماضي من أوراق وأدوات، حيث كانت هذه الأخيرة تستعمر سورية فعليًا وتتحكم في مقدرات البلاد وإيقاع الحياة فيها، ومع ذلك فشلت فرنسا في مساعيها، لأن سورية كان شعبها أكثر مناعة في وطنيته بالرغم من استعمار بلده. بينما الشعب السوري اليوم، تبدو وطنيته الوحدوية أقل مناعة بالرغم من تحقق شرط ثورته الأساس بسقوط حكم آل الأسد.

لقد ورثت سورية الجديدة تركة سورية النظام السابق، الذي فعّل كل ما يمكن تفعيله من حدود اجتماعية وطائفية لقمع الثورة عليه منذ عام ٢٠١١. مما يفسر لنا كيف يطفو الخطاب والحدود الطائفية على سطح المشهد السوري بين الحين والآخر، كان آخرها أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا في ريف دمشق.

قبل سنوات، أصدر المؤرخ الفلسطيني الراحل وابن قرية عسفيا في الكرمل قيس فرو كتابه “دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية”، نُشر الكتاب بعد وفاة مؤلفه مباشرة عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، تناول فيه فرو تاريخ الطائفة المعروفية الحديث في الجليل، والسياقين الاجتماعي والسياسي اللذين دفعا باتجاه تطييف دروز الجليل من قبل الصهيونية منذ مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، ومن ثم أسرلة الطائفة عبر توريطها بالخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال، وهذا ما عناه فرو في عنوان كتابه بالتحول الدرزي من “المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية”.

غير أن الكتاب، في قراءة صاحبه لتجربة دروز فلسطين، ما يمكن الاستعانة به كإطار تفسيري لفهم المستجدات الجارية حاليًا على الساحة السورية المتصلة بدروز سورية وعلاقة هؤلاء الأخيرين بدروز فلسطين وموقع إسرائيل من هذا السياق ودورها فيه. مع الأخذ بعين الاعتبار، رغم ثبات الجغرافيا، التحولات في عامل الزمن بما لا يجعل أي مقاربة تاريخية إسقاطًا لفواعل الحاضر على ما طواه الماضي.

تتضمن صفحات كتاب فرو جانبًا لعلاقة دروز فلسطين بدروز سورية في سياقها الجغرافي والاجتماعي، وكذلك السياسي المتصل بالتحولات التي كانت تعصف بفلسطين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي في ظل الانتداب البريطاني، والثورة الفلسطينية الكبرى عليه (١٩٣٦–١٩٣٩)، وأثر الثورة على دروز الجليل في فلسطين، ودخول الصهيونية على خط الأحداث، الذي وضعت فيه حجر أساس التعاون مع بعض الزعامات السياسية الدرزية ذكرها فرو بالاسم. كما أشار فرو في السياق نفسه إلى خطة أعدتها الصهيونية في أواخر الثلاثينيات كانت تقتضي بترحيل دروز الجليل من فلسطين إلى السويداء في سورية. فشلت الخطة وقتها لصالح مسار احتواء الدروز في المشروع الصهيوني الذي بدأ يشق طريقه منذ أربعينيات القرن الماضي.

في حينه، دروز سورية هم من كانوا ينادون من السويداء في جبل العرب بوجوب حماية دروز فلسطين في الجليل، حمايتهم من الاضطرابات وأعمال العنف والفوضى التي ولّدتها سياسة بريطانيا خلال إجهاضها للثورة الفلسطينية أواخر الثلاثينيات. ثم حمايتهم لاحقًا مع تصاعد الاضطرابات مع تسارع الأحداث السياسية والأمنية في فلسطين مع الصهيونية قبيل حرب النكبة في الأربعينيات. وقد شكّل دروز سورية في حينه كتيبة عسكرية من مقاتلي جبل العرب لعبت دورًا في أحداث النكبة عام ١٩٤٨.

إذا ما نظرنا بعين التاريخ، بحسب ما أورده قيس فرو في كتابه، سنجد أن ثمة محاولة اليوم لوضع دروز سورية على ذات السكة التي وُضع عليها دروز فلسطين في أربعينيات القرن الماضي. كان لتداعيات السياق الثوري، وما ترتب عليه من توتر اجتماعي – سياسي داخل المجتمع، دور في تحويل دروز الجليل إلى محل سؤال في نظر الصهيونية على أثر ثورة فلسطين الكبرى وتداعياتها الاجتماعية. كذلك يتحول دروز سورية اليوم إلى سؤال في نظر الدولة العبرية على أثر الثورة السورية وتداعياتها السياسية والاجتماعية. ولئن كان وما زال لدروز فلسطين دور فاعل في دعم الدروز في سورية خلال السنوات الأخيرة منذ اندلاع الثورة السورية قبل نحو عقدٍ ونصف، من ناحية مد يد العون لهم معيشيًا ولوجستيًا، والذي يمكن فهمه في سياق أواصر الترابط والتكافل الاجتماعيين اللذين يجمعان أبناء طائفة الموحدين أينما وجدوا، إلا أنه دعم مكسو بمسوح سياسية يجري برعاية إسرائيل وتحت أعينها منذ سنوات، وصار أوضح مؤخرًا بعد سقوط نظام الأسد.

ليست هذه المرة الأولى التي ينقسم فيها دروز سورية في السويداء على أنفسهم من نظام سورية الجديد ما بعد الأسد. فقيس فرو، في كتابه، كان قد تناول الانقسام السياسي الداخلي الذي عصف بدروز السويداء أنفسهم، بدأ في ثلاثينيات القرن الماضي في ظل الانتداب الفرنسي على سورية، واستمر حتى الأربعينيات مع مرحلة الجلاء بين فريقين: فريق مؤيد للمحافظة على استقلالية الجبل، وفريق آخر مؤيد لاندماج الجبل الكامل مع الكيان السياسي السوري، في انقسامٍ اشتد إلى حد كاد يصل فيه إلى احتراب أهلي – داخلي في الجبل، لولا تعقل بعض عقلاء الطائفة في كل من سورية ولبنان وفلسطين، ومن بينهم، بحسب فرو، كان الشيخ أمين طريف، الذي وصل على رأس وفد صلح إلى جبل الدروز في السويداء في نهاية تشرين الأول/نوفمبر ١٩٤٧، واستطاع بالتعاون مع سلطان باشا الأطرش الوصول إلى اتفاق صلح منع نشوب حرب أهلية.

لم يكن الانقسام وقتها، والذي فصّل فرو في هويته السياسية وأبرز الشخصيات والزعامات الدرزية التي وقفت على رأس كل فريق من الفريقين، يجري بمعزل عن البنى الاستعمارية وإرث اشتغالها الذي تركته فرنسا، على سبيل المثال، في المجتمع السوري. كما لم تكن الصهيونية بمنأى عن ذلك الانقسام ودعمها للاستقلاليين على حساب الوحدويين، تمامًا مثلما تحاول إسرائيل اليوم دعم فريق ضد آخر في السويداء في موقفها من نظام سورية ما بعد الأسد، فما أشبه البارحة باليوم. ومع ذلك، فثمة فوارق لناحية الأدوات والأدوار، فموقف الشيخ موفق طريف من الملف السوري لا يشبه موقف جده الراحل الشيخ أمين طريف، هذا من جانب، ومن جانب آخر، إذا كان سؤال إشكال الملف السوري عمومًا يتكثف اليوم في السويداء، فإن الإجابة عليه ليست فيها فحسب، إنما في دمشق كذلك، إذ على القيادة السورية الجديدة، رغم التحديات التي تعترضها في سبيل لملمة جروح سورية، إلا أنه عليها ضبط قاعدتها أو بعض الفئات في قاعدتها الداعمة لها، في خطابها وسلوكها معًا، بما يخدم توحيد الصف السوري وطنيًا لا تفتيته طائفيًا.

يظل كتاب فرو بمثابة قراءة تاريخية لمرحلة متصلة بدروز فلسطين الذين غدوا “دروز إسرائيل” في الخطاب الإعلامي العربي، لها شروطها الخاصة بها، وهذا صحيح. لكنها مرحلة صيرورة لم تنتهِ من ناحية البعد الاستعماري فيها واشتغاله عليها. تريد إسرائيل للجنوب السوري أن يكون منطقة نفوذ أشبه بمحمية، ولا يعنيها حماية أحد غير مواطنيها اليهود، وأي إلحاح يُمارس عليها من أجل التدخل لصالح دروز سورية قد تستجيب له بشروطها لا بشروط الملحين عليها، فسؤال دروز السويداء في الجنوب، في الأجندة الصهيونية، ليس إلا نافذة على سؤال النفوذ.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب