عربي دولي

العدو يتحيّن الفرصة لتكريس التقسيم: دروز سوريا بين الأسرلة والتكفير

العدو يتحيّن الفرصة لتكريس التقسيم: دروز سوريا بين الأسرلة والتكفير

فراس الشوفي

لم تكد ستة أشهر تمضي على سقوط النظام السابق، حتى دخلت سوريا مسار التقسيم الفعلي بقوّة الدماء والفوضى الطائفية والتدخّلات الخارجية، التركية والإسرائيلية على وجه الخصوص. ومنذ بدء الحرب في سوريا في عام 2011، وانهيار الدولة بعد 14 عاماً، ثم عجز الإدارة الجديدة عن اتخاذ أي خطوات تمنع مسار التفكيك، يدفع أبناء طائفة الموحّدين الدروز كغيرهم من السوريين، ثمن هذا الانهيار الكبير الذي بدأت آثاره تتفشّى في الإقليم.

الدروز ودمشق

لطالما كان الدروز، كجماعة وتجمّعات سكانيّة فوق مثلّث الجبال الاستراتيجية، أبرز ضحايا اتفاقية سايكس ـ بيكو. في سوريا، دافع الدروز عن الأرض السورية ضد العثمانيين بجولات كثيرة، ووجدت زعاماتهم في الامتداد العربي مع ثورة الملك فيصل بعداً وطنياً محليّاً رافق انهيار السلطنة؛ ثم دافع الدروز بعد ذلك ببسالة عن الوحدة ضد الانتداب الفرنسي، وأسقطوا مع السوريين في حلب ودمشق والساحل مشروع الدويلات الأربع، وساهموا في بناء الدولة الجديدة الناشئة. ولم يأخذ صراعهم مع أديب الشيشكلي في الخمسينيات وهجومه على السويداء بالطائرات والمدافع منحىً طائفياً تجاه دمشق، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية وقتذاك، بل اكتسب صفة صراع المركز والأطراف؛ وهم الذين انخرطوا في الأحزاب القومية واليسارية منذ الثلاثينيات والأربعينيات، وشكّلوا مع دروز الجولان امتداداً وطنياً لدروز فلسطين المحتلة من الذين تمرّدوا على عملية الأسرلة الممنهجة التي تعرّضوا لها.

ومنذ احتلال الجولان في عام 1967، صمد أهالي أربع قرى تحت الترهيب والترغيب على رفضهم للهويّة الإسرائيلية ما يزيد على خمسة عقود، وشكّلوا مجموعات للمقاومة وتمرّدوا على الحكم العسكري الإسرائيلي مرات كثيرة، قبل أن تبدأ المناعة الوطنية في الجولان المحتل بالتلاشي مع تراجع دور دمشق وحضورها، وصولاً إلى سقوطها بيد “هيئة تحرير الشام”. وفيما شارك الجنود والضباط الدروز في طليعة قوات الجيش السوري في قتالها ضد قوات الاحتلال في حرب أكتوبر 1973، وفي الدفاع عن لبنان في اجتياح 1982، نفر العديد من الدروز السوريين إلى جنوب لبنان لقتال جيش الاحتلال وانضووا تحت لواء جبهة “المقاومة الوطنية اللبنانية”، واستشهد العديد منهم.

خلال حكم الرئيس حافظ الأسد، والسنوات الأولى من حكم ابنه بشار، اتّسمت علاقة الدروز بالدولة المركزية بالانخراط في مؤسسات الدولة، فتراجع دور الزعامات التقليدية والدينية عند الدروز وفي سوريا بشكل عام وانحسرت اللغة الطائفية والعصبيات إجمالاً. كذلك حافظت وجوه سياسية عديدة بين الدروز على معارضتها لـ”حزب البعث العربي الاشتراكي” طوال فترة حكم “البعثيين”، ودفع بعض المعارضين ثمن ذلك اعتقالاً وقتلاً ونفياً.

ومع بدء الحرب في سوريا، اندفع المعارضون في السويداء وجرمانا خلال السنة الأولى إلى التظاهر والمطالبة بإسقاط النظام، وبرز من بينهم منشقّون عن الجيش، قبل أن تخفت الحماسة مع تطوّر الأوضاع إلى مواجهات عسكرية وأمنية بين الجيش ومجموعات المعارضة المسلحة، والتي اتخذت منحىً دينياً متشدّداً.

وفي حين تشكّلت مجموعات للدفاع المحلي في السويداء وجرمانا، حافظت تلك المجموعات على الانتشار داخل المناطق ذات الغالبية الدرزية، معلنةً بوضوح رفضها القتال إلى جانب الجيش في مناطق أخرى، فضلاً عن رفض غالبية أبناء السويداء الالتحاق بالخدمة الإلزامية، حتى صارت السويداء ملجأ للهاربين من الخدمة والذين زاد عددهم عن 40 ألفاً من المحافظة وحدها، خصوصاً بعد نداءات الشيخ وحيد البلعوس لـ«عدم الالتحاق بجيش النظام» قبل اغتياله.

العلاقة مع النظام الجديد

لكن مع سقوط النظام السابق، وجد الدروز أنفسهم مجدّداً في دوامة الفوضى والخوف من سيطرة “هيئة تحرير الشام” على دمشق، وذلك على الرغم من أن السويداء كانت قد انخرطت في تحركات شعبية مناوئة للأسد سبقت انهيار النظام واستمرت لعامٍ ونصف عام. والواقع أن تجربة الدروز كطائفة مع “الهيئة” لم تكن مطَمئنة؛ إذ إن العلاقات القديمة بين بعض المعارضين من السويداء كعائلة البلعوس وبين “تحرير الشام”، ومع “الحزب التقدمي الاشتراكي”، أكبر الأحزاب الدرزية في لبنان، لم تشفع لدروز جبل السماق في ريف إدلب، والذين تعرّضوا لمجزرة في بلدة قلب لوزة في عام 2014 لإجبارهم على «إشهار إسلامهم»، على دين شيوخ الهيئة.

ومذَّاك، تحوّلت قرى الدروز الـ14 إلى مستقرٍّ لبعض المقاتلين الأجانب وعائلاتهم، واستُبدلت خلواتهم بالمساجد التي يديرها مشايخ “الهيئة”، والذين كانوا يجبرون الأهالي على أداء الصلاة بالطقوس الإسلامية. ومع هذا، صمد الدروز خشية خسارة أراضيهم، وتقبّلوا الواقع الجديد، والتزمت قراهم بتعليمات الأمراء. والأمر نفسه ينطبق على الاحتكاكات اليومية بين جماعة “تحرير الشام” وأبناء قرى جبل الشيخ خلال سنوات الحرب، فضلاً عن الصدمة التي تعرّضت لها السويداء جراء هجوم تنظيم “داعش” على قراها الشرقية في عام 2018، والذي لا يختلف كثيراً عن الهجمات التي تشنّها الآن بعض الجماعات المحسوبة على النظام الجديد.

لم يشعر الدروز في الأشهر الماضية بأي تحوّل «إيجابي» من المُفترض أنه طرأ على “هيئة تحرير الشام” وقائدها الرئيس المؤقّت أحمد الشرع، الذي يقول في خطاباته ومقابلاته عكس ما تفعله القوات الأمنية والعسكرية التابعة له، وعلى عكس اللغة المقبولة التي يقدّمها محافظ السويداء الحالي التابع للإدارة المؤقّتة.

كلّما أوغل النظام الجديد في التطرف والقتل، وجدت إسرائيل محفّزاً لاستمالة الجماعات السورية لتثبيت التقسيم

ما يراه الدروز اليوم في النظام الجديد، أنه نظام أوتوقراطي كالنظام السابق؛ لكنه يحمل أفكاراً أيديولوجية دينية متطرفة ويقوم حكمه على الشريعة، وتشكّل الجماعات ذات البعد الجهادي قاعدته العسكرية، في حين تشكّل قاعدتَه الاجتماعية الأساسية شريحة متطرفة دينياً نشأت حديثاً بين السوريين، تعنتق أفكار ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، بخلاف التديّن المعتدل إجمالاً والمنتشر بين غالبية السوريين.

حتى إن رجال الدين والسياسيين والإعلاميين الدروز، والذي هم على احتكاك مع مسؤولي السلطات الجديدة، عدا ليث البلعوس وسليمان عبد الباقي، يجدون صعوبةً في الوصول إلى رؤىً مشتركة معهم حول مستقبل سوريا وشكل الدولة فيها. ويخشى هؤلاء من النظام الجديد، والذي لم يتوانَ وزير خارجيته، أسعد الشيباني، عن تقسيم السوريين إلى أقليات وأكثريات من على منبر الأمم المتحدة، في ظلّ جيش مؤدلج دينياً يديره أمراء أجانب وآخرون تابعون لتركيا وشرطة مؤدلجة ومجلس إفتاء تسيطر عليه “الهيئة”، وفقهاء ومشايخ ينظرون إلى الدروز وباقي السوريين على أنهم إما «أهل ذمة» أو كفرة يتوجّب قتلهم أو هديهم، أو كالدروز، وجب تصويب إسلامهم في أحسن الأحوال.

وجاءت مجازر الساحل السوري، وأعمال القتل والحرق والسبي (والمستمرة في القرى ذات الأغلبية العلوية من الساحل إلى حمص وحماه وأطراف دمشق)، ثم أحداث جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا، لتؤكّد مخاوف الدروز، وتفتح الباب واسعاً أمام تدخّل الإسرائيليين الذين ينتظرون فرصة سقوط دمشق وتقسيم سوريا منذ عقود، ويتابعون الأحداث ويؤثّرون فيها عن كثب.

كسر المحرّمات

ويزيد الطين بلّة، أن الشرع كسر المحرّمات السورية التقليدية في العمل السياسي، لناحية العداء لإسرائيل ودعم الفلسطينيين وحركات المقاومة بشكل عام، وعدم التنازل عن الجولان ومنع تقسيم سوريا. والشرع في كلّ مرّة تغرق جماعته فيها بالدماء، يهرع إلى تنازل سياسي جسيم يقدّمه لاسترضاء الخارج، كما حصل عشيّة مجازر الساحل، حين انتزع منه الأميركيون اتفاقاً مع الأكراد يكرّس شبه حكم ذاتي لهم بعيداً عن مركزية دمشق القوية، وهو انتصار سياسي لم ينالوه من النظام السابق. وكذلك الأمر في التسوية التي تمّ التوصّل إليها في السويداء بعد الأحداث الدامية، وبعد التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر، حيث اضطر الشرع إلى التسليم بإدارة أمنية وعسكرية ذاتية للسويداء من أبنائها حصراً، وهو الأمر الذي رفضه النظام السابق أيضاً.

وإذ لا يتوقّف نظام الشرع عن إيصال الرسائل العلنية المباشرة وغير المباشرة إلى إسرائيل بأن سوريا لن تشكّل خطراً عليها، وأن النظام الجديد جاهز لتطبيع العلاقات في «الزمان المناسب»، من دون أن يلفظ بكلمة عن استعادة الجولان وفي وقت يَعتقل فيه ممثلي الفصائل الفلسطينية، فإن إسرائيل تواصل تقدّمها في الجنوب بعد أن سيطرت على كامل مرتفعات جبل الشيخ، في أكبر خسارة استراتيجية لسوريا.

ربما اعتقد الشرع، بأن إسرائيل ستهرع إليه لمجرّد أن يشيد بالرئيس دونالد ترامب كـ«رجل للسّلام»، أو لمجرد فتح أبوب دمشق أمام اليهود السوريين وغير السوريين، ولقاء الشيباني في نيويورك مع حاخام صهيوني داعم للاستيطان على أرض فلسطين. لكنّ إسرائيل، التي أطلق الأميركيون يديها لإعادة هندسة المنطقة، لا تنظر إلى الشرع على أنه رئيس شرعي، ولا تبدو أنها تنوي تفويت فرصة تقسيم سوريا مع امتلاكها غالبية الذرائع السياسية. كما أنها لا تنظر إلى الرئيس الانتقالي كزعيم سنّي من بلاد الشام، كما تنظر إلى الملوك السعوديين أو إلى أمراء الإمارات، الذين لا مشكلة لديها في عقد التفاهمات معهم.

وإن كانت إسرائيل اليوم تعامل الدروز «معاملة خاصة» وتدّعي الدفاع عنهم، فليس للقربى التي جرى اختراعها بين النبي شعيب والنبي داوود أو لأنهم مقاتلون شجعان، بل لأن الدروز يسكنون جبال الشيخ ولبنان والجولان وحوران، والتي تطمح إسرائيل في لعبتها الجيوـ سياسية إلى السيطرة عليها، ولأنها تدرك جيّداً لعبة الأكثريات والأقليات التي تسلّقت الجبال ولا يزال خوفها الدفين يقودها بالعمل السياسي. فإسرائيل تدّعي حماية الدروز اليوم، كمّا ادّعت حماية سكان الجليل والكرمل الفلسطينيين لأجل أقاربهم في سوريا ولبنان، وكما دعمت بعض الدروز والشيعة في جنوب لبنان للسيطرة على جبل عامل وحرمون، أو كما دعمت الموارنة للسيطرة على جبال لبنان الغربية الاستراتيجية.

إلى أين؟

تستشعر إسرائيل اليوم خوف الدروز وتغذّيه، كما تغذّيه فصائل الشرع بالجرائم المستمرة والخطاب الطائفي المتفاقم. وتستشعر أيضاً الدور الإقليمي والدولي المفقود لإنقاذ سوريا ممّا وقعت فيه، وقلقاً لدى الدول الكبرى من المصير السوري، إذ إن الحملة الجويّة التي شنّتها بحجة الدفاع عن الدروز، جاءت بعد جلسة مجلس الأمن الدولي، والتقاط إسرائيل إشارات الغضب الأميركية والروسية والصينية والفرنسية على نظام الشرع، وغياب الاهتمام العربي الجدي بتسلّم زمام الأمور، والتركيز التركي على الشمال السوري، ما جعل ضربات العدو تحت مظلّة غطاء الدول الكبرى، والتي أعطت تكليفاً غير معلن لإسرائيل، لتشذيب جماعة الشرع.

بين الدروز السوريين اليوم، انقسام وخشية على المستقبل، من المصير المجهول المعلّق بين الجماعات التكفيرية وصعوبة التأقلم مع النظام الجديد، وبين الحماية الإسرائيلية المزعومة التي بدأت تجد أصواتاً لا تعارضها أو حتى تطالب بها، بينما تبحث الغالبية عن خيار ثالث، عقلاني وطني، لا يبدو أنه متاح حتى الآن. وبصورة أعمّ، لا يمكن البحث عن مصير السويداء والدروز السوريين، من دون البحث في مستقبل الشعب السوري وسوريا، إذ إنه كلّما أوغل النظام الجديد في التطرف والقتل، وجدت إسرائيل في الجرائم والدماء محفّزاً لاستمالة الجماعات السورية فرادى لتثبيت التقسيم، واستسهلت احتلال أراضٍ جديدة، واستساغت قتل الفلسطينيين وسلب أراضيهم.

أما ما قد يوقف تقسيم سوريا في الظروف الحالية، فليس سوى انتقال سياسي إلى سلطة يعترف بها كل السوريين، تفرض الاستقرار وتحارب الإرهاب وتسحب الذرائع لوقف التمدّد الإسرائيلي… وهذا ضرب من خيال.

الاخبار اللبنانيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب