«بيغاسوس» تحت المقصلة الأميركية

«بيغاسوس» تحت المقصلة الأميركية
للمرة الأولى، يُلزم القضاء شركة تجسّس رقمي بدفع ملايين الدولارات. ما الذي يعنيه هذا القرار لمستقبل الخصوصية الرقمية؟
في إحدى ليالي عام 2019، تلقى عدد من الصحافيين والناشطين مكالمةً هاتفية غامضة. لم يكن أحد يتوقع أن تلك الرنة التي لم تُجب، ستتحول لاحقاً إلى فضيحة تجسّس عالمية. كانت تلك اللحظة الشرارة الأولى في قصة شائكة ومعقدة امتدت خيوطها إلى أروقة القضاء الأميركي.
بعد أشهر من التحقيقات الدقيقة، كشفت شركة «واتساب»، التابعة لعملاق التكنولوجيا «ميتا»، أن تلك المكالمات لم تكن مجرد مصادفة بريئة. عبر تلك الثغرة، تمكنت شركة NSO Group الإسرائيلية من تثبيت برنامج تجسّس بالغ التطور يُعرف باسم «بيغاسوس». هذا البرنامج شكّل أداة مراقبة متطورة، تميزت بقدرتها على اختراق الهواتف الذكية من بُعد، والاستحواذ على بياناتها من دون أدنى علم من أصحابها.
مع توالي التقارير الصادمة، تبيّن أن عشرات النشطاء الحقوقيين، الصحافيين، والسياسيين المعارضين كانوا ضمن المستهدفين. فجأة، ارتسمت علامات استفهام كبرى حول الدور الذي تلعبه هذه الشركة الإسرائيلية في صناعة التكنولوجيا العالمية. تعددت التساؤلات حول مدى خطورة هذه التقنية، وصولاً إلى استفسار محوري: كيف وصلت هذه الأداة الفتّاكة إلى أيدي أنظمة معروفة بقمعها للمعارضين؟
في ذلك العام، اتخذت «واتساب» خطوةً تاريخيةً برفع دعوى قضائية ضد NSO Group أمام محكمة فيدرالية أميركية، مطالبة بتعويضات مالية عن الأضرار الناتجة عن استغلال ثغرتها التقنية. كانت تلك القضية غير مسبوقة: للمرة الأولى في تاريخ القضاء الرقمي، تقف شركة متخصصة في برامج التجسّس في مواجهة اتهامات بانتهاك أمن منصات رقمية.
بعد سنوات من المداولات القانونية المطولة، جاءت لحظة الحقيقة: حكمت المحكمة قبل أيام بإلزام NSO بدفع 168 مليون دولار لشركة «واتساب» كتعويض عن الخسائر.
حكم بالغ الأهمية لما له من أثر كبير على الصعيدين القانوني والأخلاقي، ويُعد انتصاراً للحقوق الرقمية في مواجهة تجاوزات الشركات المتورطة في أنشطة غير قانونية.
هي مرحلة فارقة في عالم التكنولوجيا: لم تعد الشركات المصنعة لأدوات التجسّس في منأى عن المساءلة. وتكتسب هذه السابقة القضائية ثقلاً إضافياً كونها قد تفتح الباب أمام دعاوى قضائية مشابهة من شركات كبرى مثل «آبل»، «أمازون»، و«غوغل»، التي تعرضت هي الأخرى لاختراقات بواسطة «بيغاسوس».
ورغم محاولات NSO الدفاع عن نفسها بزعم أن برنامجها يهدف إلى مكافحة الجريمة والإرهاب، صار من الصعب تصديق هذه السردية بعد انكشاف الحقيقة: «بيغاسوس» لم يكن سلاحاً للأمن بقدر ما كان أداة قمع. وبينما تواصل NSO محاولاتها لاستئناف الحكم، تشتد المطالب الدولية بوضع قيود صارمة على صناعة برامج التجسّس.
قد يؤدي هذا التطور القانوني إلى إعادة رسم خريطة صناعة التجسّس الإلكتروني، ما يدفع الشركات والدول إلى توخي مزيد من الحذر في التعامل مع مزوّدي التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج. وقد يشجع هذا الحكم بعض الدول على تعزيز قدراتها التجسّسية محلياً لتفادي التبعات القانونية.
يبقى السؤال المصيري معلقاً: هل سنشهد فعلاً بداية مرحلة جديدة تضع حداً لانخراط الشركات في مجال التجسس الرقمي؟
أم أن هذه الشركات ستواصل الالتفاف على القوانين، محصنة بأنظمتها المعقدة وتحالفاتها السياسية؟ من المؤكد أننا نعيش في عالم خطِر، عالم تحولت فيه الإمبريالية إلى إمبراطورية شرسة تسعى وراء الأرض والثروة، بعد أن أدركت فشل أساليب الهيمنة الناعمة.