حل حزب العمال وآفاق انفتاح تركيا على كردها

حل حزب العمال وآفاق انفتاح تركيا على كردها
عبد الباسط سيدا
كاتب وأكاديمي سوري
لا يمكن عزل قرار «حزب العمال الكردستاني» الخاص بحل الحزب، والتخلي عن السلاح بناء على طلب زعيمه عبدالله أوجلان، المعتقل في جزيرة ايمرلي منذ عام 1999، عن سلسلة من التحولات النوعية التي جرت، وتجري، في المنطقة، بدءأً من غزة، ومروراً بلبنان وسوريا واليمن، وربما في دول أخرى قد يكون العراق بينها، وهي تحولات قد ستؤدي إلى معادلات واصطفافات جديدة في إقليمنا.
وفي هذا السياق، يبدو أن الخطوة اللافتة التي أقدم عليها دولت بهتشلي، زعيم «حزب الحركة القومية» المشارك في الائتلاف الحاكم، في البرلمان التركي لم تكن فردية، وذلك حينما توجه بالتحية إلى ممثلي حزب «المساواة وديمقراطية الشعوب» المحسوب على حزب العمال، ومن ثم مطالبته بدعوة أوجلان إلى البرلمان ليعلن التخلي عن السلاح وحل حزب العمال، وذلك مقابل منح الأخير حق الأمل. بل كانت على الأغلب بالتوافق مع شريكه في الائتلاف الحاكم، «حزب العدالة والتنمية» بزعامة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.
وقد أسفرت تلك الخطوة، وبعد سلسلة من اللقاءات والاجتماعات السرية والعلنية، إلى خروج أوجلان على الملأ ليطالب حزبه بترك السلاح وحل نفسه. ومن ثم كانت التصريحات والتسريبات بشأن القرار الذي اتخذه المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال وشارك فيه أوجلان نفسه عن بعد؛ وهو القرار الذي رحبت به الحكومة التركية والأحزاب التركية المعارضة، إلى جانب الأحزاب الكردية في كل من تركيا وإقليم كرستان العراق وسوريا؛ بالإضافة إلى الترحيب الإقليمي، وحتى الدولي، على أمل أن يكون مقدمة لعملية سلمية تقود إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا؛ حل سيكون في صالح تركيا وكردها، وفي صالح تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها.
ورغم وجود علامات استفهام كثيرة حول مدى جدية هذا القرار وآليات تنفيذه، وكيفية التعامل مع التحديات والصعوبات التي ستبرز أثناء عملية التنفيذ، ومنها على سبيل المثال: مصير القيادات المطلوبة تركياً وأمريكياً، بالإضافة إلى حدود تأثير النظام الإيراني في ميدان عرقلة تنفيذ هذا القرار، وذلك من خلال القيادات المقربة منه؛ وغير ذلك ومن المسائل الإجرائية التي قد تكون مثار تباين وخلاف.
ولكن في جميع الأحوال لن يعود حزب العمال بعد هذه الخطوة مستقبلاً ليكون ذاك الحزب القادر على التحكّم بالورقة الكردية في تركيا، ولن يكون في مقدوره التدخل بنفس المستوى في شؤون الكرد سواء في العراق أم في سوريا. ولن يكون في وسعه الاستمرار في الإدعاء بأنه يمثل المخاطب الشرعي والوحيد في أي مسعى يرمي إلى وضع حل للقضية الكردية في تركيا؛ وهي القضية الأقدم والأكبر من حزب العمال وبقية الأحزاب، بل تعود بجذورها الحديثة على الأقل، إلى المراحل الأخيرة للدولة العثمانية التي تصاعد فيها النزوع القومي، وإلى بدايات تأسيس الجمهورية التركية التي التزمت الأيديولوجية القومية التي فرضها مؤسسها مصطفى كمال على الدولة. وكانت الحصيلة جملة نتائج منها اعتماد سياسات التتريك، والقطع مع التراث الإسلامي عبر تطبيق النمط الغربي على مستوى الحياة الشخصية للمواطنين؛ هذا إلى جانب تبني الأبجدية اللاتينية الأمر الذي أحدث قطيعة معرفية ما زالت تركيا تعاني من تأثيراتها السلبية بمختلف الأشكال، هذا رغم الجهود الاستثنائية التي بذلت لاحقاً على صعيد توفير الشروط المطلوبة للعودة إلى المصادر والمراجع العثمانية المكتوبة بالأبجدية العربية.
يشكل الكرد في تركيا حالياً الأغلبية في أكثر من 20 ولاية من أصل 81 ولاية تتشكل منها تركيا. أما على صعيد العدد، فلا توجد إحصائيات رسمية، ولكن التقديرات من جانب الباحثين المتابعين تبين أن عدد الكرد في تركيا يتراوح بين 20 إلى 25 مليون مواطن كردي يحملون الجنسية التركية. وهذا فحواه أن هذه القضية هي أكبر من أن تُختزل في حزب العمال؛ كما أنها أكبر من أن يتم غض النظر عنها، أو إرجاء البت فيها، أو التصريح بعدم وجودها أصلاً، وعدم التفكير بالعمل من أجل الوصول إلى حل عادل لها، يضع حدا للمعاناة الكردية في تركيا. وهذه المعاناة هي حصيلة عقود من الاضطهاد والإنكار والتجاهل وعدم الاعتراف، مما أدى إلى تراكم سلبيات هائلة في مختلف الميادين، سلبيات ولّدت الحساسيات، وأوجدت الجدران النفسية، ورسخّت الأحكام المسبقة التضليلية، وكل ذلك استفادت منه الحركات والقوى السياسية المتطرفة المتشددة على الضفتين. إلا أن هذا الوضع تحوّل تدريجياً نحو الإيجابية، وكان الاختراق الكبير في عهد رئاسة توركت أوزال (1989-1993) الذي اعترف صراحة بوجود كردي كبير في تركيا، ولم يجد أي خطورة في احترام الثقافة الكردية والاعتراف بحق الكرد في استخدام لغتهم وإحياء ثقافتهم ضمن إطار وحدة الشعب.
ومع أن هذا النَفَس الانفتاحي لم يستمر طويلاً، إلا أنه أسس لامكانية بلورة رؤية جديدة في التعامل مع الموضوع الكردي، وهي الرؤية التي تحولت إلى موقف سياسي لحكومة العدالة والتنمية لاحقاً. هذا رغم الانتكاسات التي حصلت، والصراعات التي كانت بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني الذي عمل بكل طاقاته للهيمنة على الورقة الكردية، وإبعاد بقية الأطراف الكردية عن ساحة التأثير. وقد استفاد في هذا المجال من علاقاته الإقليمية مع سلطة آل الأسد والنظام الإيراني، وأصبح مع الوقت مندمجاً في حسابات السياسات الإيرانية في كل من العراق وسوريا، خاصة في المناطق الكردية.
كما شكل الحزب المعني أداة للضغط على تركيا لصالح أجندات إيرانية، وليس من أجل دفع الأمور نحو الوصول إلى حل سياسي مقبول للقضية الكردية. هذا رغم وجود عوامل مساعدة لمثل هذا التوجه، من بينها أن تركيا دولة قائمة على المؤسسات رغم كل الملاحظات. يقوم نظامها على التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية تحترم نتائجها سائر الأحزاب المتنافسة بغض النظر عن موقعها من الحكم، أو موقفها من الحكومة. وقد قطعت شوطاً لا بأس به على صعيد التعامل الإيجابي مع الموضوع الكردي منذ مجيء حزب العدالة إلى الحكم. وهناك اليوم أقسام للدراسات الكردية في جامعات تركية عديدة لا سيما في الولايات ذات الأغلبية الكردية. وهناك دور نشر ومؤسسات إعلامية كردية، وأحزاب كردية مرخصة. بالإضافة إلى ذلك ليس هناك سقف للمراكز التي يمكن أن يصل إليها المواطنون الكرد في مؤسسات الدولة طالما أنهم يلتزمون بدستور الدولة وقوانينها. وهناك الكثير من المهرجانات الفنية والمناسبات الاحتفالية الكردية التي تنظم إحياء لذكر أعلام الأدب الكردي، وحتى ذكرى بعض السياسيين ورجال الدين الكرد. وكل هذه الخطوات وغيرها تساعد في تهيئة الظروف لعرض وجهة نظر متكاملة حول مقترح حل عادل للقضية الكردية في تركيا تقدمه الحكومة إلى البرلمان، ليُنَاقش من قبل مختلف الأحزاب الممثلة في البرلمان، وحتى خارج البرلمان ضمن صفوف الأحزاب والمنظمات والقوى المؤثرة في المجتمع بغض النظر عن الانتماءات والتوجهات، وذلك باعتبار أن هذه القضية هي قضية وطنية عامة تخص الجميع.
ومثل هذه الخطوة لو تحققت، ستفتح الآفاق أمام حل واقعي ممكن مستدام، حل سيكون من دون شك لصالح استقرار وازدهار المجتمع التركي، ويمنح تركيا قوة إضافية تمكّنها من أداء دور كبير منتظر على مستوى المنطقة بمزيد من التأثير والفاعلية، وذلك بعد أن تكون قد تجاوزت «عقلية المشكلة»، التي تتعامل بموجبها مع الموضوع الكردي، لتعتمد «عقلية التواصل». فحل الموضوع الكردي سيمكن تركيا من بناء الجسور المتينة مع كرد المنطقة سواء في سوريا أم في العراق وحتى في إيران؛ الأمر الذي ستكون له انعكاسات إيجابية على صعيد العلاقات مع هذه الدول؛ بل سائر دول الإقليم وحتى على المستوى الدولي، وبالتالي تكون (تركيا) قد استعدت لأداء دور كبير يتناسب مع حجمها وامكانياتها وموقعها وتاريخها.
وبالعودة إلى موضوع حل حزب العمال، يُلاحظ وجود ارتياح عام في الأوساط الكردية والتركية بخصوص هذه الخطوة، لأن وجود هذا الحزب كان يعرقل استمرار العمل السياسي الناضج على المستوى الكردي في تركيا حيث القوانين تسمح بتشكيل الآحزاب، وتقرّ بحقها في النشاط والدعاية، والمشاركة في الانتخابات. فحل الحزب المذكور معناه إزالة العقبة التي كانت تمنع الكرد من ممارسة العمل السياسي بأريحية وحرية، ومثل هذه المشاركة ستضفي المزيد من الشرعية على المطالب الكردية، وستساعد على بناء التحالفات مع الأحزاب التركية المتنافسة؛ وهذا مؤداه استقرار داخلي يمكّن تركيا من تركيز جهودها على قضايا التنمية، وتوفير المقدمات الضرورية لضمان مستقبل أفضل لشبابها وأجيالها المقبلة.
وفي هذا المجال لا بدّ من أخذ التركيز الأمريكي في عهد ترامب الثاني على مكانة تركيا ودورها في الإقليم عموماً، وفي سوريا على وجه التخصيص، بعين الاعتبار؛ وقد شمل هذا الدور السعودي أيضاً، والخليجي بصورة عامة، وهو ما سمعناه كثيراً على لسان ترامب أثناء زيارته الخليجية التي التقى خلالها بالرئيس السوري، وأعلن عن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على بلاده. كما شدد في الوقت ذاته على أهمية عودة أمريكا إلى منطقة الشرق الأوسط بقوة، وذلك لإدراكه بأن أي فراغ سينجم عن الانسحاب الأمريكي سيتم استغلاله بكل تأكيد من قبل المنافسين.
*كاتب وأكاديمي سوري