عربي دولي

عسكرة دول البلطيق: أوروبا تخشى غزواً روسيّاً

عسكرة دول البلطيق: أوروبا تخشى غزواً روسيّاً

سعيد محمد

لندن | «على الأقلّ هذه المرّة سألوا»؛ هكذا علّق مواطن ليتواني تحدّث إلى الصحافيين بينما كان طابور دبابات ألماني يتقدّم في قلب العاصمة الليتوانية، فيلنيوس، حيث سيتمركز هناك، للدفاع عن إحدى جمهوريات بحر البلطيق ممَّا يقول الأوروبيون إنه «غزو روسي محتمل». ولعلّ المفارقة أن آخر مرّة وصلت فيها دبابات ألمانية إلى الجوار، كانت إبّان الاحتلال النازي للمنطقة (1941 – 1944)، والذي انتهى بجهود الجيش السوفياتي الأحمر. وبعد تحريرها، بقيت جمهوريات البلطيق الثلاث (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا) جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ولكنها استقلّت عنه مع تفكّكه في 1990-1991.

وتتقاسم ليتوانيا (ثلاثة ملايين نسمة) حدوداً من الغرب مع مقاطعة كالينينغراد الروسية، ومن الشرق مع بيلاروسيا، حليفة موسكو، فيما حدودها مع بولندا، التي يبلغ طولها 100 كيلومتر والمعروفة باسم «فجوة سووالكي»، هي الرابط البرّي الوحيد بين دول البلطيق وبقيّة أوروبا، ويُنظر إليها على أنها نقطة ضعف محتملة إذا قرّرت روسيا مهاجمة المنطقة. وكان بحر البلطيق شهد، الأسبوع الماضي، مواجهة متوتّرة بعدما استولت إستونيا على ناقلة نفط قالت إنها جزء من «أسطول الظلّ» الذي يخرق العقوبات الأوروبية – الأميركية على موسكو، وحلَّق بعدها سرب من الطائرات الروسية المقاتلة في الأجواء.

من جهته، وعد فريدريك ميرز، المستشار الألماني اليميني الجديد الذي كان في فيلينوس لتدشين تمركز لواء الجيش الألماني المدرّع 45 في الجمهورية السوفياتية السابقة، بانخراط بلاده دفاعاً عن «كل شبر» من أراضي «الناتو». وقال، في خطاب أمام مضيفيه: «أمن حلفائنا في البلطيق هو أيضاً أمننا»، في حين رحّب الرئيس الليتواني، جيتاناس ناوسيدا، بالجنود الألمان في بلاده، واصفاً الحدث بـ»التاريخي»؛ علماً أن هذه هي المرّة الأولى التي يتمركز فيها لواء عسكري ألماني بشكل دائم على أرض أجنبية منذ سقوط برلين ونهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، ويتكوّن من حوالي 400 جندي، على أن يستكمل تعداده البالغ 5000 جندي تدريجياً، وفق جدول زمني يمتد حتى عام 2027، الأمر الذي يقول خبراء إنه يعكس تحدّيات تواجهها الأمم الأوروبية في تطويع الشبّان للخدمة العسكرية.

وافقت دول الاتحاد الأوروبي على إطلاق صندوق قروض مشترك لإعادة التسلّح بقيمة 150 مليار يورو

وعلى الرغم من أن القرار بنشر اللواء اتُّخذ عام 2023، مع توسيع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلّا أن كثيرين يَرون إنفاذه، في هذا التوقيت، جزءاً من سعي المستشار الألماني الجديد إلى تفعيل سياسة التحوّل في العقيدة العسكرية الألمانية ما بعد النازية، من الدفاع الذاتي إلى امتلاك قدرات هجومية والمشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود، وهي سياسة تبنّتها برلين في عهد المستشار السابق، أولاف شولتس، وبضغوط حينها من الإدارة الأميركية السابقة. وأنشأت الحكومة الائتلافية السابقة صندوقاً بقيمة 100 مليار يورو لأغراض تحديث القوات المسلحة الألمانية، وذلك بعد عقود طويلة من الإهمال، استناداً إلى المظلّة الأمنية التي توفّرها القوات الأميركية المتمركزة في البلاد، منذ أربعينيات القرن الماضي.

وينتشر في ألمانيا ما يقرب من 40 ألف جندي أميركي، يتوزّعون على نحو 50 قاعدة عسكرية أميركية نشطة، تختلف في حجمها ووظائفها. وتعهّد ميرز، الذي تولّى منصبه هذا الشهر، بالمضيّ قُدماً على خطى سلفه في تحديث الجيش الألماني، واجتهد لتصوير نفسه كمؤيّد قويّ لـ»الناتو»، وكمدافع صلب عن النظام الأوكراني في خضمّ المواجهة مع روسيا. ووفق ما يقول المستشار الألماني، فإنه سيجعل من جيش بلاده «أقوى جيش تقليدي في أوروبا»، فيما عدّل، لهذه الغاية، سقوف الاقتراض الحكومية الصارمة للبلاد كي يمكنه الإنفاق بشكل غير مقيّد على العسكرة، معلناً أنه يؤيّد هدف الإنفاق الجديد لـ»الناتو»، الذي يطالب به الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والبالغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكلّ دولة عضو.

وفي ذات السياق، وافقت دول الاتحاد الأوروبي على إطلاق صندوق قروض مشترك لإعادة التسلّح بقيمة 150 مليار يورو، في استجابة من بروكسل للتحدّيات التي تمثّلها الحرب الأوكرانية، ومطالبة الإدارة الأميركية، أوروبا بإنفاق المزيد على أمنها. واقترحت المفوّضية الأوروبية هذه المبادرة التي ستسمح لدول الاتحاد بالاقتراض من المركز في بروكسل لشراء أسلحة وأنظمة عسكرية من خلال آلية مشتريات مشتركة، كوسيلة لتسريع إعادة تسليح القارة. كما أن من شأن المبادرة المذكورة توسيع قطاع الصناعات العسكرية في دول الاتحاد، إذ تلحظ إنفاق معظم رأسمال الصندوق على منتجات شركات تتّخذ من الاتحاد الأوروبي مقراً لها، وتشجيع المصنّعين من خارج التكتّل على نقل مصانعهم إلى القارة.

وقادت فرنسا، الدولة الأكثر تقدّماً في صناعة الأسلحة أوروبيّاً، هذا التوجّه، بينما دار جدال استمرّ أشهراً في أروقة بروكسل حول إمكانية مشاركة شركات لدول حليفة من مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وتركيا. وكانت المشاركة التركية حسّاسة بشكل خاص بالنسبة إلى اليونان وقبرص، بسبب نزاعهما الطويل الأمد مع أنقرة حول شمال قبرص.
وفي سياق متّصل، وقّعت بريطانيا والاتحاد الأوروبي، في لندن، أول أمس، اتفاقية دفاع مشترك، تتيح للصناعات الدفاعية البريطانية الحصول على سقف الـ35% من قيمة القروض التي قد تستفيد منها الدول الأعضاء لتحديث ترساناتها من أدوات القتل، فيما يتوقّف سقف الشركات التي تنتمي إلى دول ثالثة على الـ15% من قيمة كل قرض، ترتفع إلى سقف الـ35%، في حال توقيع تلك الدولة اتفاقات دفاع مشترك مع الاتحاد الأوروبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب