المقاومة ليست بالسلاح فقط

المقاومة ليست بالسلاح فقط
عصام نعمان
معارضو رئيس حكومة «إسرائيل» يُسمّونها ساخرين «حرب قيامة نتنياهو». يقصدون بهذا المصطلح الهزلي حربه المتواصلة، منذ سنة ونصف السنة، على حركة حماس، غداة معركة طوفان الأقصى، وفشله المدوّي في «سحقها» وتهجير سكان قطاع غزة إلى صحراء سيناء المصرية. حربه المتعثرة هذه زعزعت أساسات حكمه، بل حكمت عليه بالسقوط عاجلاً أو آجلاً، ربما قبل الانتخابات العامة المنتظرة بعد نحو سنة، فلا هو «سحق» حماس، ولا حرّر الأسرى الإسرائيليين، ولا أخمد انتفاضة المخيمات في الضفة الغربية. بالعكس تماماً، هو تمادى في قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، دونما مسوّغ ما جعله في نظر العالم صانعاً محترفاً لحروب الإبادة، ومستحقاً امتعاض واستنكار حلفاء «إسرائيل» المزمنين في غرب أوروبا ونقمة عشرات آلاف الطلاب في جامعات الولايات المتحدة المتظاهرين يومياً ضد جرائمه، ما دَفَع مواطناً أمريكياً حرّ الضمير إلى قتل موظفَين في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، انتقاماً من نتنياهو وانتصاراً لحرية فلسطين.
أهداف المقاومة في المدى الزمني القريب والمتوسط والبعيد ومصالح شعبها وقدراته الذاتية تستوجب إعادة التقييم، ليصار في ضوئها تحديد الأهداف المرحلية الجديدة، ونهج المقاومة الأفعل لتحقيقها
كل هذه العمليات الوحشية التي جرت وتجري لم تؤدِ إلى «قيامة» نتنياهو من موته السياسي السريري، بل لعلها زادته حقداً واقتناعاً بأن حربه الإبادية، والمزيد منها هي الطريقة الوحيدة لتمديد بقائه في السلطة. في المقابل، ما زال مقاتلو حركة حماس صامدين في أنفاق غزة وخان يونس ودير البلح ورفح، وسائر بلدات القطاع، يقتنصون جنود العدو بعمليات خاطفة، ويؤججون صمود شعبهم وتصميمه على التمسك بأرضه وحقوقه.
في جنوب لبنان، يتابع نتنياهو حربه على المقاومين والمدنيين معاً بلا هوادة، بالمسيّرات التي تصطاد يومياً أبناء القرى العاملين في حقولهم، أو العائدين إلى بيوتهم بدعوى أنهم مسؤولون قياديون في المقاومة، وتكون حصيلتها استشهاد العشرات من أطفال ونساء وشيوخ وعائلات وجيران، بالإضافة إلى تدمير مئات المنازل. هذه باختصار حصيلة حرب نتنياهو الإبادية في فلسطين ولبنان. ماذا عن حال المقاومة؟
لا شك في أن وتيرة عمليات المقاومة في كِلا البلدين تراجعت وإن لم تتوقف، وهي لن تتوقف طالما نتنياهو وزمرة وزرائه النازيين الدمويين يتشبثون بالسلطة. ذلك كله يستدعي إعادة تقييم شاملة لتجارب المقاومة ومناهج الكفاح المراد اعتمادها في الحاضر والمستقبل المنظور، فماذا تراها فاعلة؟
يقتضي التأكيد على حقيقة بازغة هي أن المقاومة لا تكون بالسلاح فقط. صحيح أن المقاومة المسلحة ضرورة قائمة وملحّة، طالما أن العدو جاثم في أراضينا المحتلة ومطامعه فيها ثابتة ومتحوّلة حسب مقتضيات مصالحه وتوازنات القوى المحلية والإقليمية، إلاّ أن أهداف المقاومة في المدى الزمني القريب والمتوسط والبعيد ومصالح شعبها وقدراته الذاتية تستوجب إعادة التقييم، ليصار في ضوئها إلى تحديد الأهداف المرحلية الجديدة، ونهج المقاومة الأفعل لتحقيقها، بما يتناسب مع التحديات والمخاطر والظروف المستجدة، لئن تستوجب ضرورة البقاء والنماء حداً ولو أدنى من المقاومة المسلحة، إلاّ أن ثمة أشكالاً أخرى متنوعة للمقاومة لها فعاليتها وإيجابياتها أيضاً. في هذا المجال يمكن تعداد ثلاثة منها ذات مردود عالٍ: الهجمات السيبرانية، والهجمات الإلكترونية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. والحال أن المقاومة الفلسطينية (الأرجح حركة حماس) شنّت هجمة سيبرانية على معامل توليد الطاقة في منطقة «غوش دان» القريبة من تل ابيب، أدت إلى تعطيل محطات الكهرباء وتوزيع المياه. كذلك كان الجيش الإسرائيلي يلجأ دائماً إلى استعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في حربه على المقاومة، لاسيما في الأحياء المكتظة بالسكان الفلسطينيين. للتدليل على فعالية الهجمات الإلكترونية نشير، كمثال، إلى ما حدث الأسبوع الماضي في لندن لسلسلة متاجر «ماركس أند سبنسر» البريطانية. فقد توقعت إدارتها «أن يكون تأثير الهجمة على المحصلة التشغيلية لمجموعة المتاجر للسنة المالية 2025 – 2026 نحو 300 مليون جنيه استرليني». كما توقعت الإدارة أن تتواصل الاضطرابات المرتبطة بهذه الهجمة فتضطر معها إلى تعليق المبيعات على الإنترنت حتى شهر يوليو المقبل.
في مجال الذكاء الاصطناعي تبدو تطبيقاته أكثر وأخطر تأثيراً من الهجمات الإلكترونية. فقد كشف بحث نشرته مجلة «طبيعة السلوك البشري» العلمية أن روبوتات الدردشة التي تعتمد تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي أكثر إقناعاً للناس من المتحدثين البشر في المناظرات على الإنترنت بنسبة بلغت 64 في المئة. أستاذة التكنولوجيا والتنظيم في جامعة أكسفورد البريطانية ساندرا واتشر وصفت النتيجة المشار اليها آنفاً بأنها «مقلقة للغاية، لاسيما في قطاعات حساسة مثل التعليم، الصحة، الإعلام، القانون، المالية، وهي تطرح تحديات كبيرة». ترى، ألا تطرح أيضاً تحديات امام مسؤولي الأمن القومي؟ هذه التطبيقات السيبرانية والإلكترونية، والاستعمالات لتقنية الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون حافزاً قوياً لحركات المقاومة، كي تتعلّمها وتتقن استخدامها، ليس لأنها ما زالت مبتدئة في هذا المجال فحسب، بل لأن العدو الصهيوني متقدم أيضاً في ميادين استخدامها، لاسيما في العمليات العسكرية، الأمر الذي يعرّض المقاومة لمخاطر عدّة، إذا ما بقيت فجوة عدم التكافؤ في استخدام التطبيقات السيبرانية والإلكترونية وتقنيات الذكاء الاصطناعي بينها وبين العدو الصهيوني واسعة.
يبدو أنه أجدى للمقاومة، كما لشعوب الأمة ودولها، استخدام نهج مقاطعة منتجات الدول المعادية لحق الشعب الفلسطيني بالتحرير والعودة إلى وطنه السليب. ذلك أن منتجات دول الغرب الأطلسي تشكّل القسم الأعظم من مستوردات الدول العربية والإسلامية، واذا ما قررت هذه الدول التزام مقاطعة جدّية لمنتجات الدول المعادية فلا شك أن هذه الأخيرة ستبادر إلى تعديل سياساتها ومواقفها من قضية فلسطين وسائر القضايا العربية المحقة، تفادياً للخسائر الجسيمة التي ستتكبدها نتيجةَ مقاطعة منتجاتها. إن المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الدول المعادية هي أمضى الأسلحة التي يملكها العرب، أقلّه العرب المؤيدون للمقاومة الفلسطينية. فالأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة أو تلك غير القادرة على مواجهة سياستها المؤيدة لـِ»إسرائيل» عاجزة فعلاً عن منع المستهلكين في بلادها من مقاطعة منتوجات الدول المعادية، لأن ذلك يتعلّق بأذواق الملايين من المواطنين والسكان ومئات الآلاف من المنتجات والسلع، ولا يمكن إجراء عملية مراقبة وضبط فاعلة في هذا السبيل. إلى ذلك، فإن لمقاطعة المنتجات الأجنبية فائدة عظمى هي تعزيز الاقتصاد الوطني من حيث اتجاه المستهلكين إلى شراء المنتجات الوطنية البديلة من المنتجات والسلع الأجنبية، الأمر الذي يُبهج الصناعيين والمزارعين ويحملهم على دعم قوى المقاومة سياسياً وربما مالياً ايضاً.
في الخلاصة : المقاومة في بلادنا العربية، مدعوة إلى التكيّف مع ظروفها الموضوعية المتغيرة، على نحوٍ يمكّنها من الاستمرار في نضالها من جهة، وعدم الاصطدام بالأنظمة الحاكمة من جهة اخرى، وذلك باللجوء إلى مقاربات وبدائل مغايرة، أو غير متناقضة مع سياسة الدول والحكومات المحافظة أو المتحفظة. على أنه يقتضي استنفار الأحزاب والمنظمات الوطنية والمؤتمرات العربية والإسلامية الناشطة فعلاً في الحياة العامة للتفكير والتدبير في ما يجب عمله في هذا المجال بلا إبطاء.
كاتب لبناني
[email protected]