ثقافة وفنون

رائدة طه: فلسطين أنا… وأنا فلسطين

رائدة طه: فلسطين أنا… وأنا فلسطين

تُشكِّلُ الفنون، ولا سيّما المَسرَح، أداةً فاعلةً لإعادةِ إحياءِ الرواياتِ الفلسطينيَّةِ وترسيخِها في الذاكرةِ الجماعيّةِ للشعبِ. في هذا الإطارِ، تُعَدّ الكاتبة والممثِّلة رائدة طه صوتاً مؤثِّراً يُجسِّدُ هذه العلاقةَ المتينةَ بينَ الفنّ والذاكرة، كما يظهر في مسرحيّتِها «36 شارع عباس، حيفا».

الذاكرة بين إقامة وشتات

هذهِ المسرحيّة التي يُعاد عرضها في 30 و31 أيار (مايو) المقبل على خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، ليستْ مُجرَّدَ عرضٍ فنّيٍّ. إنّها شهادةٌ حيّةٌ على جَدليّةِ الشتاتِ وعودة عائلةٍ فلسطينيّةٍ اقتُلعت من حيفا عامَ النكبة 1948، ونافذةٌ على عمقِ الصّراع الفلسطينيِّ المتجذِّرِ في تفاصيلِ الأماكن والذكريات.

تُشير المسرحيّة إلى منزلٍ في «شارعِ عباس» في حيفا، يُصبح الوطن الضّائع لكلتا العائلتين

«36 شارع عباس، حيفا» مونودراما آسرةٌ، تتغلغلُ في النسيج الحيّ للذاكرة الفلسطينيّةِ، وتضيء على قصتَي عائلتينِ فلسطينيّتينِ: عائلة الرافع التي بقيت في فلسطين وأجبرت على حملِ الجنسية الإسرائيليّة، وعائلةِ أبو غيدا التي طُردت قسراً إلى الشتاتِ. تُجسِّدُ رائدة طه في هذا العملِ (إخراج جُنيد سري الدين)، شخوصاً مُتعدّدةً، وتتنقّلُ بمرونةٍ فائقةٍ بينَ الأزمنةِ المُتداخلةِ، من فجيعةِ النكبةِ إلى مرارةِ النكسةِ، وصولاً إلى واقعِ فلسطينَ الرّاهنِ، لتُقدِّمَ بانوراما شاملةً للصّراع.

تُشيرُ المسرحيّة إلى منزلٍ في «شارعِ عباس» في حيفا، يُصبح في جوهرِها الوطن الضّائع لكلتا العائلتينِ. تبدأ الحكاية مع تهجير عائلةِ أحمد أبو غيدا من حيفا عامَ 1948، لتتركَ خلفَها منزلاً يحتلّهُ رجلٌ نمسويٌّ يُدعى أبراهام، يبيعه لاحقاً للمحامي الفلسطينيّ علي الرافع.

قصص حقيقيّة

تتكشَّفُ فصول المسرحيّةِ في مفارقةٍ دراميّةٍ تُبرز التعقيداتِ الأخلاقيّة والقانونيةَ للاحتلالِ. نَجِد أنَّ سارة، زوجةَ الرّافع، بعدَ اكتشافِها أنَّ المالكَ الأصليّ للعقارِ هو أحمد أبو غيدا، الذي هُجِّر من فلسطين وتَشتَّتَ أبناؤه وأحفادُهُ في أنحاءِ العالم، لمْ تَستطع أن تَشعرَ بالانتماءِ لتلكَ الدارِ. ربَّتْ أولادَها على أنَّ هذا البيتَ ليسَ لهمْ، مُجسِّدةً بذلكَ انفصالاً وجدانياً عن مكانٍ هو ملكٌ لأصحابٍ آخرينَ.

أصرَّتْ على عدمِ تغييرِ معالمِ البيت، تَعبيراً عن وفائِها لأصحابِه الأصليّين. هذا الوفاءُ وَرثَتْهُ ابنتُها نضال، التي بَذَلَتْ المُستحيلَ لضمانِ عودةِ فؤاد، أحد أبناء أحمد أبو غيدا، إلى حيفا. هذا الصّراعُ لا يقتصرُ على الملكيّةِ الماديةِ، بلْ يتجاوزُها إلى أبعادٍ أعمقَ تتعلَّقُ بالذّاكرةِ، الانتماءِ، والهُويّةِ، حيثُ تُصبحُ الدّارُ مجرّدَ عنوانٍ، بينما يظلّ الوطنُ المُنشودُ هو ما يسكنُ الرّوحَ ويُحرِّكُ الوجدانَ.

هذهِ الشّخصيةُ تُمثِّلُ صراعاً أعمقَ داخلَ المجتمعِ الفلسطينيِّ، حيثُ يتجاوزُ الحقُّ بالملكيةِ الماديّةِ الشعورَ بالانتماءِ الوجدانيِّ للأرضِ، مُلقيةً الضوء على التعقيدات النفسيّة والاجتماعيّةِ التي يُخلّفُها الاحتلال.

تُقدمُ رائدة طه هذهِ القصصَ الحقيقيّةَ، المستوحاةَ من تجربتِها الشخصية ومن مقابلاتٍ أجرتْها معَ أصحابِ الشّأنِ، بأسلوبٍ يجمعُ بينَ الكوميديا السوداء والعمق الإنساني. هذا النهج يمكّنُها من عرض المعاناة الفلسطينيّة بطريقة تتجاوز الصورةَ النمطيّة، مُستحضرةً الأمكنة والأصوات والروائح التي عاشتها هذه الشخصيّاتُ، لتفعيلِ كلِّ الحواسِّ لدى الجمهورِ وخلقِ تجربةٍ فنيّةٍ غامرةٍ ومُلهمةٍ.

حافظ الذاكرة وعامل الصمود

حول دور المسرح والروايةِ في حفظ الذاكرةِ الفلسطينيةِ، تؤكّد رائدة طه لنا على الأهمّيّةِ القصوى للذاكرةِ في القضيةِ الفلسطينيةِ، رَغْمَ كونِها «عِبْئاً» أحياناً. توضح أنَّ الذاكرةَ مُتعدّدةُ الأَوْجُهِ، لا تقتصرُ على الألمِ فقط، بل تشملُ ذاكرةَ الفَرَحِ والنجاحاتِ.

تُشيرُ إلى أنَّ جيلَها «تبنّى ذاكرةَ أهله»، مُدركاً أنَّ «ذاكرتَنا بِشكلٍ عامٍّ مُؤلمةٌ، تحديداً معَ القَمْعِ والأَسْرِ والاضطهادِ والطَّردِ مِنْ بِلادِنا الذي شهدناهُ منذُ 1948».

ولكنّها تُضيفُ، بِنبرةِ تفاؤلٍ، أنَّ هناكَ نجاحاتٍ كثيرةً كانطلاقِ المُقاومةِ والثورةِ، وأنَّ هذهِ الهجرةَ أعطتنا القُدرةَ لكي ننظرَ إلى أنفسِنا مِنَ الدّاخلِ، فنعتمدَ على صبرِنا وشهادتِنا وصمودِنا. وتستشهدُ بمقولةِ محمود درويش: «الذّاكرةُ تُركِّزُ على الحنينِ أكثرَ»، موضحةً كيف أنَّ جيل الـ 1948 «عندما يتحدثُ عن وطنِه نراهُ يبكي ويضحكُ في الوقتِ نفسِه». هذا التناقضُ العاطفي يُلخّص جوهر العلاقةِ الفلسطينيةِ معَ الذاكرة، إذ يتداخلُ الألمُ معَ الحنينِ، واليأسُ معَ الأملِ.

بالنسبةِ إليها، «ليسَ هناكَ مكانٌ للنسيانِ» في القضيةِ الفلسطينيةِ، فـ «فلسطين أنا وأنا فلسطين». تُدركُ أنَّ القضيةَ مُؤلمةٌ لأنّها ما تزال مستمرةً.

تُشدِّدُ بِقوّةٍ على أنَّ «المُقاومةَ ليستْ فقط بالسّلاحِ، بل لديها أوجهٌ عدّة»، وأنَّ «المَسْرح أداةٌ قويةٌ وناجحة في هذا الإطار»ِ. تُبرِّرُ ذلكَ بالقولِ: «لأنّني أتناول القضيةَ الفلسطينيةَ عبر قصصٍ حقيقيةٍ، أتحدثُ عن أمّي وأبي وأخوالي، هذهِ السرديّةُ هي سرديةٌ حقيقيةٌ، تُسلط الضّوء على مُعاناةِ الشعب الفلسطينيّ بالشّهادةِ الحيّةِ». هذا النّهجُ يُضفي مصداقيةً وعمقاً على السردِ، ويُحوِّلُ التجربة الشخصية إلى تجربةٍ جماعيةٍ.

تتحدّث عن قُدرةِ المسرحِ على تفعيلِ كُلِّ الحواسِ، «تَشُمُّ الرّائحةَ وتسمعُ الأصواتَ وتتخيلُ الناس، وتتولّدُ لديكَ حكايةٌ حقيقيةٌ بِشكلٍ ترفيهيٍّ وممتعٍ وذاتِ رسالةٍ».

تُؤكدُ أنّهُ عندما يسافرُ المسرحُ، يُسهمُ ذلكَ في انتشارِ الوَعْيِ تجاه القضية الفلسطينيةِ، مُشيرةً إلى أهمّيّةِ الفنِّ كَجسرٍ للتواصلِ الثقافيِّ والإنسانيِّ الذي يتجاوزُ الحدودَ الجغرافيةَ والسياسيةَ.

تنتقدُ طه الصورةَ النمطيةَ التي تُقدَّمُ بها القضيةُ الفلسطينيةُ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، إذ تكون من منظورٍ سياسيٍّ، حيثُ يتمُّ توصيفُ القضيةِ وتنميطُها بِصورةِ المُقاومِ بالكوفيةِ والحجرِ والانتفاضةِ، ويتمُّ إهمالُ البُعدِ الثقافيِّ المصاحبِ للقضيةِ. وتُذكّرُ بأنه احتلالُ فلسطين، كانَ لديها أعرقُ مسارح وصالاتِ أفراحٍ وأتراحٍ، وعروضٌ فنيةٌ ومعاهدُ تربويةٌ، وكانت نابضةً بالحياةِ مُستقطِبةً للمثقفينَ والمفكرينَ. هذا التذكيرُ يُعيدُ الاعتبارَ للبُعدِ الحضاريِّ والثقافيِّ الغَنِيِّ لفلسطينَ، الذي يُحاولُ الاحتلالُ طمسهُ.

في الختامِ، تُبرزُ طه أهميّةَ الفنِّ في طرحِ الأسئلةِ التي تقودُ نحو معرفةِ الحكايةِ الفلسطينيةِ وحفظِها في ظلِّ السرقةِ الثقافيةِ التي يتعرضُ لها تُراثُ هذا الشعبِ وحضارتِهِ. تُشكِّلُ مسرحيتُها، بِحدِّ ذاتها، عملاً فنيّاً يُقاومُ هذهِ السرقةَ، ويُثبّتُ الحكايةَ الفلسطينيةَ في الوَعْيِ الجمعيِّ.

فعلُ صمودٍ وبناءِ هويةٍ

تجربة رائدة طه في «36 شارعَ عباس، حيفا» ليستْ مجردَ عرضٍ مسرحيٍّ، بلْ هي فعلُ صمودٍ ثقافيٍّ وبناءِ هويةٍ متجدّدةٍ. إنّها شهادةٌ حيّةٌ على قوّةِ المسرحِ على تجاوزِ حدودِ الزمانِ والمكانِ، وإعادةِ إحياءِ الذّاكرةِ، ليسَ كألمٍ مُجرَّدٍ، بلْ كقوّةٍ دافعةٍ نحو الصمودِ والمُقاومةِ بِأوجهِها المختلفةِ. في كُلِّ عرضٍ، يتجدّدُ السؤالُ: كيفَ نحفظُ الوطنَ في الذاكرةِ حينَ يُسرقُ من الأرضِ؟ وكيفَ نُعيدُ تعريفَ الانتماءِ في ظلِّ الشّتاتِ؟ تأتي إجابةُ رائدة طه واضحةً وصريحةً: بالفنِّ، وبالقصصِ الحقيقيةِ، وبالتفاؤلِ الذي يُغذي الاستمرار ويُشعلُ شعلةَ الأملِ في عتمةِ اليأسِ. مسرحها يُؤكّد على أنَّ الذّاكرة ليست مجرد استدعاءٍ للماضي، بلْ هي بناءٌ للمستقبلِ، وتأكيدٌ على حقِّ البقاءِ والعودةِ. فهلْ يبقى المسرحُ، في زمنٍ تتآكلُ فيهِ الذاكرةُ، الدِّرعُ الأخيرة لحفظِ الوطنِ وهويتهِ؟

* «36 شارعَ عباس، حيفا»: س: 20:00 مساءً ــ يومي 30 و31 أيار (مايو) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01753011

* شاهدوا لقاءنا الكامل مع رائدة طه على قناتنا على يوتيوب 👇🏻

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب