الحرب على غزة تمثل اختباراً لالتزام ألمانيا “التاريخي” تجاه إسرائيل

الحرب على غزة تمثل اختباراً لالتزام ألمانيا “التاريخي” تجاه إسرائيل
برلين: يعلّق المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرتس، على جدار مكتبه صورة فوتوغرافية لشاطئ زيكيم في جنوب غرب إسرائيل، بالقرب من غزة، والذي تعرض لهجوم من مقاتلي حركة “حماس” الذين وصلوا على متن قوارب خلال حرب عام 2014 والحرب الجارية حاليًا في القطاع.
تشير الصورة، التي تُظهر صفًا من الأكواخ الشاطئية التي أُعيد ترميمها بعد مداهمات “حماس”، إلى أن المستشار المحافظ من أشد المؤيدين لإسرائيل، بما ينسجم مع تاريخ طويل من التضامن الألماني معها، مدفوعًا بالإرث الثقيل للمحرقة النازية (الهولوكوست).
مؤرخ: من الغريب حقًا أن تطلب من ألماني من أصل سوري أن يتصالح مع مسؤولية ألمانيا عن الهولوكوست
لذلك، فإن انتقاد ميرتس لإسرائيل، يوم الثلاثاء، بسبب توسيع عملياتها العسكرية في غزة، مثّل بالنسبة للكثيرين تحوّلًا لافتًا.
وقال ميرتس: “لم أعد أفهم الهدف مما يفعله الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة… إلحاق الأذى بالمدنيين بهذا الشكل، كما يحدث بشكل متزايد في الأيام الأخيرة، لم يعد مبررًا بوصفه محاربة للإرهاب”.
وفي سياق متصل، قال وزير الخارجية الألماني، يوهان فاديفول، إنه قد تكون هناك “عواقب” غير محددة، في تصريحات منسقة مع شركاء الائتلاف من “الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، وهو ما يمثل تغيرًا في الخطاب، بعد عقود من الدعم الألماني غير المشروط لإسرائيل، انطلاقًا من شعور برلين بمسؤولية تاريخية تجاهها.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، وهي زميلة ميرتس في التيار المحافظ، في سياق منفصل، إن مقتل الأطفال في حرب غزة أمرٌ “مروّع”، ما يعكس تنامي الاستياء في أوساط النخبة السياسية الألمانية.
وإلى جانب عضويتها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كان دعم إسرائيل أحد الأركان الأساسية في مساعي ألمانيا للعودة إلى المجتمع الدولي، بعد المحرقة التي تعرّض لها يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
ورغم استمرار بعض مظاهر معاداة السامية، تشكّلت أجيال من الساسة الألمان الملتزمين بأمن إسرائيل. وكان المستشار الأول بعد الحرب، كونراد أديناور، قد برّر دفع تعويضات لإسرائيل بضرورة استرضاء ما أسماه “قوة اليهود”، ما أسّس لعلاقات ألمانية إسرائيلية متينة.
لكن شدة الحرب الإسرائيلية على غزة أحدثت تحولًا واضحًا في الرأي العام الألماني. ووفقًا لمسؤولي الصحة الفلسطينيين، فقد أسفر القتال عن مقتل أكثر من 53 ألف فلسطيني. واندلعت الحرب بعد هجوم شنّته “حماس” على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أسفر، حسب الإحصاءات الإسرائيلية، عن مقتل 1200 شخص.
وأظهر استطلاع لمؤسسة “برتلسمان” أن 36% فقط من الألمان ينظرون إلى إسرائيل نظرة إيجابية، بانخفاض 10 نقاط مئوية مقارنةً بما كانت عليه قبل أربع سنوات.
ويُظهر الاستطلاع أن الألمان الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا أقل معرفة بإسرائيل من كبار السن، كما أنهم أقل اقتناعًا بأن العلاقات الثنائية يجب أن تُبنى على ذكرى المحرقة.
فرض هذا التغير معضلة على ميرتس، الذي كان قد وَعَدَ رئيسَ الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بعد فوزه في الانتخابات في فبراير/شباط، بمساعدته في مواجهة مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، إذا زار ألمانيا.
وقال المؤرخ الألماني البارز في الجامعة العبرية في إسرائيل، موشيه زيمرمان: “هم يفهمون أن لديهم التزامين متعارضين وعليهم أن يختاروا… في الماضي، كانوا يقولون إن التزامنا تجاه إسرائيل هو الأساس. أما الآن، فعليهم الموازنة بين البدائل بشكل مختلف”.
“الزمن يتغير”
نددت ألمانيا ودولٌ أوروبية أخرى بغزو روسيا لأوكرانيا باعتباره انتهاكًا للقانون الدولي، وفرضت عقوبات غير مسبوقة على موسكو، وسعت إلى حشد دعم دولي لعزلها، بما في ذلك من دول كجنوب أفريقيا والبرازيل والسعودية.
لكن الغرب لم يتبنّ النهج ذاته تجاه إسرائيل، رغم الاتهامات المستمرة من منظمات حقوقية وإنسانية لإسرائيل بارتكاب انتهاكات للقانون الدولي في حربها على غزة، وسط مقتل أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، ودمار واسع للبنية التحتية، وتفاقم خطر المجاعة تحت الحصار الإسرائيلي.
وقال زيمرمان: “الزمن يتغير”.
وجاء التحول الخطابي بعد انقضاء المهلة الأوروبية، في 25 مايو/أيار، دون أن تستجيب إسرائيل لدعوة لرفع الحصار عن المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل كامل.
وقال وزير الخارجية الألماني إن “التضامن” مع إسرائيل لم يعد ممكنًا اعتباره “واجبًا” غير مشروط. أما وزير المالية، لارس كلينجبايل، زعيم “الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، فقال إن قطاع غزة بات يشهد انتهاكًا واضحًا لمعايير حقوق الإنسان.
وبهذا الموقف الجديد، تتماشى ألمانيا مع شركاء أوروبيين رئيسيين كانوا مترددين أيضًا في انتقاد إسرائيل صراحة بشأن الحرب على غزة. فقد وجهت فرنسا وبريطانيا، وانضمت إليهما كندا، رسالة مشابهة، الأسبوع الماضي، وأيدتها إيطاليا، الأربعاء.
وردًا على ذلك، اتهم نتنياهو القادة البريطانيين والفرنسيين والكنديين بأنهم “يقفون على الجانب الخاطئ من التاريخ”.
وفي مؤتمر حول معاداة السامية في القدس، قال وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، إن إسرائيل “أكثر دولة تتعرض للهجوم والتهديد في العالم”، مضيفًا أن “محاولة حرمان إسرائيل من حقها في الدفاع عن نفسها أمر مروع”.
نحو ربع سكان ألمانيا (80 مليون نسمة) من أصول مهاجرة، وكثير منهم من أصول شرق أوسطية أو مسلمة، ويشعرون بتعاطف أكبر مع الفلسطينيين
ونفت إسرائيل انتهاكها للقانون الدولي في غزة، وقالت إن عملياتها تستهدف مقاتلي “حماس” فقط، متهمةً الحركة باستخدام مباني المدنيين غطاءً لعملياتها، وهو ما تنفيه “حماس”.
تغيرات ثقافية في ألمانيا
يعكس هذا التغير في لهجة الخطاب الألماني أيضًا تحولات داخلية في المجتمع الألماني، الذي أصبح أكثر تنوعًا عرقيًا وثقافيًا مما كان عليه قبل عقود.
فنحو ربع سكان ألمانيا، البالغ عددهم 80 مليون نسمة، هم من أصول مهاجرة، أي أن أحد الوالدين على الأقل من المهاجرين، وكثير منهم من أصول شرق أوسطية أو مسلمة، ويشعرون بتعاطف أكبر مع الفلسطينيين.
وقال عومير بارتوف، أحد مؤرخي المحرقة في جامعة براون الأمريكية: “من الغريب حقًا أن تطلب من ألماني من أصل سوري أن يتصالح مع مسؤولية ألمانيا عن الهولوكوست”.وأضاف بارتوف أن تداعيات هذا التحول على السياسة الألمانية ما زالت غير واضحة.
فألمانيا ما زالت تواصل بيع الأسلحة لإسرائيل، وتبقى أكبر شريك تجاري أوروبي لها، كما أنها تدعم إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
وقال بارتوف: “هذا تحوّل في الخطاب وقد يكون مهمًا للغاية… لكن (عتاد) البحرية الإسرائيلية لا يزال يُصنع في ألمانيا، ولا تزال البحرية الإسرائيلية تطلق القذائف على غزة”.
وختم بالقول: “ما دامت ألمانيا لم تتخذ أي خطوات ملموسة، فلا مبرر لقلق نتنياهو في الوقت الحالي”.
(رويترز)