ثقافة وفنون

الروائي المصري حمدي البطران: ثقافتنا محكومة بالهوى السياسي وغيتوهات النشر

الروائي المصري حمدي البطران: ثقافتنا محكومة بالهوى السياسي وغيتوهات النشر

محمد عبد الرحيم

القاهرة ـحمدي البطران كاتب وروائي ولواء سابق في الشرطة المصرية، مواليد عام 1950 في مدينة ديروط في صعيد مصر. أثارت روايته «يوميات ضابط في الأرياف» 1998 الكثير من الجدل بعد صدورها، خاصة أنها تنقل بعض جوانب تجربة الكاتب الشخصية، عندما كان يعمل ضابط شرطة في الصعيد. من ناحية أخرى تنوعت كتابات البطران ما بين الرواية والأدب والسيرة الغيريّة، وكذا بعض القضايا والمشكلات الخاصة بسياسات المجتمع المصري، نذكر منها مثالاً.. «خريف الجنرال»، «كل شيء هادئ في الجنوب»، «هوامش على حرية التعبير»، «الملف القبطي»، «الأمن من المنصة إلى الميدان»، «السادات 81»، «صدام حسين أفراح ونكبات»، «حافظ الأسد أوهام الحرب والسلام»، «القذافي الواقع والأسطورة»، «حسني مبارك مأساة رئيس»، و»طه الذي رأى».
في الحوار التالي نقترب أكثر من رؤية الكاتب وأفكاره، وبغض النظر عن مدى التوافق أو الاختلاف معها، خاصة في الشأن السياسي، إلا أنها في الأخير وجهة نظر لها الحرية في ما تراه وتعتقده..
*من «يوميات ضابط في الأرياف» إلى «كل شيء هادئ في الجنوب» ما الذي حدث؟
ـ رواية «كل شيء هادئ في الجنوب» تعتبر الجزء الثاني لـ»يوميات ضابط في الأرياف»، وتتناول ما حدث في الصعيد خلال فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات، خلال موجة الإرهاب العاتية، التي ابتليت بها مصر في تلك الفترة، أحداث بشعة غير مسبوقة في تاريخ مصر. حوادث قتل لأطباء مسيحيين، واقتحام مدرسة أطفال لقتل مدرسين مسيحيين، وسط تلاميذهم بكل بشاعة، اعتداء بشع على رجال الشرطة، كل هذا حاولت توثيقه في تلك الرواية، لأن التاريخ الجمعي للذاكرة المصرية نسي تلك الحوادث البشعة وتأثيرها الرهيب على مصر، والتي جاءت بعد عشرين عاما بالضبط بحكم الإسلاميين، وتبني أمريكا قادة الفكر السلفي لحكم العالم العربي.
*وهل تعد هذه الأعمال شكلاً من أشكال التوثيق السياسي والاجتماعي؟


ـ بالتأكيد، أنا وثقت ما حدث في قالب روائي، ثم وثقته في كتب أخرى كتاريخ لتلك الجماعات، وما وقع منها في تلك الفترة. منها «تأملات في عنف وتوبة الجماعات الإسلامية» دار العين 2011، «الأمن من المنصة إلى الميدان». دار العين 2013، ثم «الملف القبطي» دار الثقافة الجديدة 2015.
*يرى البعض أن الرواية نالت شهرتها بسبب التحقيق معك، ما رأيك؟
ـ الرواية نالت شهرتها باعتبارها عملا روائيا جيدا، وكتب عنها كتاب كثيرون، وأجريت رسالة دكتوراه، وأبحاث جامعية في بعض الكليات، وتم عمل طبعات أخرى منها في دار الهلال، وأعيد نشرها في مكتبة الأسرة بمعرفة الكاتب إبراهيم أصلان، فيما بعد نشرت كتابا بعنوان «محاكمة رواية»، فيه كل التحقيقات والمذكرات والدفوع والأحكام التي صدرت، ولم يلتفت إليها أحد.
*وماذا عن مشكلة «يوميات ضابط في الأرياف»، رغم طبعها في دار الهلال ومكتبة الأسرة بعد ذلك، وهي مؤسسات تابعة للدولة؟
ـ «يوميات ضابط في الأرياف» قدمتها مخطوطة لدار الهلال لرئيس التحرير الراحل مصطفى نبيل في أكتوبر/تشرين الأول 1997, ونشرت في فبراير/شباط 1998، بمجرد نزولها الأسواق كلمني الكاتب صنع الله إبراهيم، دون سابق معرفة، وهنأني بصدور الرواية وأثنى عليها. بعد أسبوعين نشرت مجلة «روزاليوسف» تحقيقا صحافيا حول الرواية وقالت بعناوين كبيرة «ضابط ينشر كواليس ما يحدث من الشرطة»، وكلام كثير عن الأسرار التي نشرتها الرواية. واستدلت على الكثير مما كتبته باعتباره وقع فعلا. وبعدها بفترة وصلني استدعاء من مفتش الداخلية للتحقيق معي رسميا. سلطة مفتش الداخلية في الشرطة تعادل سلطة النيابة الإدارية، فهو يحيل الوقائع التي تحققها إلى مجلس تأديب ضباط الشرطة، وحدث أن زار حبيب العادلي دار الهلال، وسألوه عن الرواية وسبب تحويلي إلى التحقيق، فرفض الحديث في هذا الموضوع. وبعد فترة وصلني إعلان لتحويلي لمجلس تأديب ضباط الشرطة، متهما بعشرة اتهامات تدور حول إفشاء أسرار العمل، وإهانة الضباط والنيابة وأمناء الشرطة والتعريض برجال الشرطة. كان المثول أمام مجلس كهذا مهيناً لي كضابط برتبة العميد. كان رئيس المجلس يتعمد الحديث معي كأنني شخص تافه. وتم الحكم عليّ بخصم ستة شهور من راتبي، وهو حكم جسيم، فاستأنفت الحكم أمام مجلس التأديب الاستئنافي، وتم إسقاط جميع التهم، عدا مخالفة واحدة، هي عدم الحصول على إذن وزارة الداخلية. وفي العام التالي تمت ترقيتي لرتبة اللواء وإحالتي للتقاعد مع أكثر من 600 ضابط.
*وماذا عن موقف الوزير لجديد ــ وقتها ــ والذي ظن أنها ضد سياساته؟


ـ وقت صدور الرواية في فبراير لم يكن قد مضى على تعيين اللواء حبيب العادلي وزير للداخلية سوى شهور قليلة، فهو اعتبرني مدفوعا من الجهات المعارضة، وأجريت التحريات ولم تثبت صحة ذلك، وكان يريد أن يثبت قوته وإمساك الوزارة بيد من حديد وأنه لا مجال أمام الضباط وقت للعبث وتأليف الروايات. الغريب أنه بعدها بدأ بعض الضباط في كتابة روايات ونشرها، ومنهم ضابط نشر رواية فأحالوه للاحتياط وضابط آخر أوقفوه عن العمل ولجا للسفارة الأمريكية، واعتبروه ضحية حرية الرأي والتعبير، ومنحوه حق اللجوء السياسي وهاجر الى هناك، وظهر في مارس/آذار 2011، وشكّل من أمريكا مجلسا أعلى للشرطة ضمني إليه، ولكنني لم أتفق معه ورفضت ذلك، ولكنني كتبت بعض المقالات في «الأهرام» عن ضرورة تطوير جهاز الشرطة، وطالبت بضرورة استعانة كلية الشرطة بخريجي كليات الحقوق المتفوقين لتجديد دماء الشرطة، بالإضافة إلى باقي التخصصات، وهو ما تم العمل به في ما بعد.
*بمناسبة وجود حبيب العادلي، في ندوة عن كتابك «الأمن من المنصة إلى الميدان» قلت إن المصريين الآن يريدون نسخة من حبيب العادلي، هل من الممكن توضيح تلك المقولة؟
ـ كان هذا بمناسبة ما حدث خلال ثورة يناير/كانون الثاني، وحدوث أخطر شيء في تاريخ مصر وهو الانهيار الأمني، بسبب اقتحام الإخوان المسلمين لأقسام ومراكز الشرطة على مستوى الجمهورية، وإحراق أكثر من 3000 مُعدّة وسيارة من الشرطة وسرقة السلاح. أدى هذا إلى انعدام الأمن، وظهرت ميليشيات مسلحة لحماية بعض الشوارع والقرى، ولكن سرعان ما أصبحت تلك الميليشيات جزءا من المشكلة، وبدأت تمارس القتل والنهب والسرقة، في ذلك الوقت كنا بحاجة إلى وزير في حجم حبيب العادلي الذي كان ناجحا بكل المقاييس ـ رغم ما حدث معي ـ أعتبره منفصلاً عن نجاح الرجل في ضبط الأمن وقتها، والقضاء على الإرهاب، سواء بالمقاومة المسلحة، أو إجبارهم على التوبة وترك العنف ونجح في ذلك.
*وهل هناك أعمال أخرى وجدت مضايقات كالمنع أو المصادرة؟
ـ فيما بعد حاول أحد الناشرين إعادة نشر «يوميات ضابط في الأرياف»، مع كتاب عن الرئيس حسني مبارك عام 2020، وبعد أن وافقوا على منح الكتب رقم إيداع لبدء النشر، عادوا وسحبوا رقم الإيداع، بتعليمات من الجهات العليا المهيمنة على دار الكتب، وتمت مجازاة الموظف الذي منح الناشر التصريح، وهو ما سبب أزمة مع هذا الناشر، وقمت بفسخ تعاقدي معه، لأنه اعتبرني من المغضوب عليهم وأنني قمت بتضليله، دون أن أخبره. وبعدها توقفت الهيئة العامة للكتاب عن دعوتي لندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب حتى الآن، بعد أن كنت أشارك في ندواته سنوات طويلة.
*في كتابك «طه الذي رأى» ذكرت أن حفظ التحقيق مع طه حسين جاء لأسباب سياسة ليس أكثر. كيف ذلك؟
ـ بالفعل كان ذلك في عهد الملك فؤاد، حيث كانت الحكومة عبارة عن ائتلاف بين حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين، وقام بعض أعضاء البرلمان ممن ينتمون لحزب الوفد بتقدم شكوى للنيابة العامة ضد كتاب «الشعر الجاهلي» متهمين طه حسين بالكفر، وهيجوا الناس عليه بالمظاهرات، وهنا تدخل زملاء طه حسين من حزب الأحرار وهددوا بالانسحاب من الائتلاف الحكومي، ولكنهم فصلوا طه حسين من الجامعة، وإسقاط الحكومة القائمة، وتم الاتفاق على أن تحفظ النيابة التحقيق قبل تقديمه للمحاكمة وينتهى الأمر. في ما بعد جاء الملك فاروق بطه حسين وزيراً للمعارف، رغم خلافات والده الملك مع طه حسين.
*ومنه إلى كتاب «هوامش على حرية التعبير»، وتوظيف الكاتب وفق هوى السلطة السياسية، ألا ترى أن هناك الكثير من الكتاب المتطوعين، الذين يتسابقون لتقديم تلك الخدمة، ففي لقاء سابق مع أهم المثقفين المصريين مع حسني مبارك كالغيطاني وعبد المعطي حجازي وخيري شلبي وغيرهم، كانوا يُسبّحون بحمد الرئيس أمام الكاميرا؟
ـ ولماذا لا يُسبّحون بحمد رئيس الدولة الذي منحهم لبنها وعسلها، يرضعونه ويشربونه طيبا وحلالا، في صورة مناصب وجوائز الدولة، سفر للخارج في المؤتمرات الأدبية، فهناك تصنيف للأدباء واتفاق ضمني على بعض من تظللهم الوزارة بمظلتها، فهؤلاء حتى إن كانوا من غير موظفي الوزارة، فهم يشرفون على سلاسل إصدارات الهيئتين، الكتاب والثقافة، ويتمتعون بندوات الوزارة ومناصبها، وعضوية المجلس الأعلى للثقافة سنوات طويلة، ويفوزون بالجوائز، ولو قام باحث بحصر َمن حصلوا على جوائز الدولة من المنتمين للوزارة وكبار موظفيها لاكتشف الكثير دون خجل. وفضلا عن هذا تم منحهم المناصب الثقافية، حتى إن أحد وزراء الثقافة حصل على جائزة الدولة!
*هناك فئة بعيدة عن وزارة الثقافة وسرادقاتها هي الأعلى صوتا والأكثر تأثيراً، كدور النشر الخاصة ومكتباتها وندواتها البعيدة عن الدولة وحظيرة مثقفيها، برأيك، ومع تناسي الدولة الآن، أو النظام، الاهتمام بالثقافة وكأنها ترف، من الذي سيرعى الشأن الثقافي بمعناه الواسع؟
ـ أعترف بأن من نتيجة حُسن الاقتصاد المصري ظهور دور نشر جديدة، وتعاظم دور النشر الخاصة، التي أصبحت لها اليد الطولى في نشر الأدب، واختراع ما يعرف بالكاتب الأعلى مبيعا والكتب الأكثر مبيعا، وروّجت لنوع من الأدب الذي لا يلامس السياسة، ويعتبر تقليداً للأدب الأجنبي الخفيف، الروايات التي يقرأها الشباب في وسائل المواصلات، وكوّنت دور النشر تلك غيتو يصعب اختراقه، يختص بفئة من الكتاب، كما قامت بتوظيف عدد من النقاد لا ينتقدون إلا أعمال تلك الدور. وتحتكر الندوات الكثيفة الحضور، وليس أدل على ذلك أن الرواية التي فازت بجائزة البوكر العربية هذا العام تم رفضها من قِبل عدة دور نشر مصرية.
*تناولت عدة شخصيات سياسية لها أثرها البالغ على شعوبها.. السادات، القذافي، حافظ الأسد، صدام حسين، لماذا وما الجديد في هذه السّير؟
ـ هؤلاء هم أباطرة الشرق، كما كان يسميهم بعض المثقفين، وهم الذين تسببوا في أن تدخل بلادهم نفق التغيير الكبير، الذي تريده أمريكا لتلك الدول، لتدمير قدراتها وتفكيكها تحت دعوى الشرق الأوسط الجديد، ولكنها بدأت بالعراق وأوعزت لحاكمها بالتغاضي عن اقتحام الكويت، وابتلع الرجل الطعم، وكانت الكارثة التي دمرت العراق وجعلته مسرحاً لعمليات دولة العراق والشام المعروفة بداعش. ثم حافظ الأسد الذي رفض كل محاولات السلام من أجل استرداد الجولان، لخوفه الشديد من رفاقه في حزب البعث لئلا يقتلوه ـ كما قتلت الجماعات المتطرفة السادات ـ الذي قام بتوريث ابنه بشار حكم سوريا على صفيح ساخن، فاستعان بإيران وروسيا. ومثله معمر القذافي الذي لم يترك أثراً في ليبيا بعد رحيله سوى التنظيمات المتطرفة التي استولت على ليبيا ولا تزال برعاية أجنبية. أما السادات فقد تكلمنا عنه خلال فترة عام 1981, وهو العام الذي قتل فيه. وهو الذي جلب الفكر السلفي لمصر.

*كتبت كتاباً عن مبارك راصداً للأحدث المهمة في عصره، بداية من حادث المنصة حتى سقوطه في ميدان التحرير، كيف تفسر حياة الرجل ومصيره؟
ـ مبارك ينتمي إلى جيل أكتوبر 1973 الذي حارب إسرائيل عن عقيدة وانتصر، وهو كرجل عسكري ليس له ميول سياسية، فاختاره السادات نائباً، وبعد اغتيال السادات جاءه حكم مصر على طبق ناصع البياض، لأنه كان نائبا للرئيس فآل إليه عرش مصر بنعومة تامة، أهلته لينال حب المصريين في أول الأمر، ولكنه سمح بحسن نية بنمو الجماعات المتطرفة تحت بصر رجاله، بل كان رجاله يتقاسمون المجلس النيابي مع جماعة الإخوان المسلمين، وتقاعس عن تطوير عجلة الاقتصاد، ووصل به الأمر إلى أن أحد رؤساء وزارته اقترض أموالاً من كبار المستثمرين، الذين نجحوا في غفلة من الزمن في جمع ثرواتهم من الأهالي، وبدلا من أن يقوم الأهالي بإيداع أموالهم في البنوك، أودعوها شركات توظيف الأموال، وقام بعض رجال الدين وقتها بإصدار فتوى بتحريم الإيداع في بنوك الدولة.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب